الفصل 168
ما إن دوى صوت سقوط الإمبراطور بقوّة حتّى ثار صخب الفرسان الواقفين بالخارج.
«جلالة الإمبراطور! هل أنت بخير؟!»
«جلالة الإمبراطور!»
لم تجب كاردين.
في الحقيقة لم تصل أصواتهم إليها أصلًا.
بقيت واقفة منتصبة القامة، يداها ملطّختان بالدماً، لا تتحرّك.
عندما لم يسمعوا ردّ الإمبراطور اقتحم الفرسان الغرفة، وتجمّدوا أمام المشهد.
إمبراطور الإمبراطوريّة ممدّد على الأرض، سيف مغروز في صدره ينزف، والإمبراطورة واقفة بجانبه ملطّخة بالدّم.
وضع أحد الفرسان إصبعين على رقبة الإمبراطور، ثمّ هزّ رأسه ببطء.
لقد توفّي الإمبراطور.
في تلك اللحظة عاد يوليكيان والفرسان الذين دخلوا الممرّ السّريّ.
صمتوا جميعًا للحظات أمام الفاجعة داخل الغرفة.
نظر نائب القائد والفرسان إلى الدّم الإمبراطوريّ النبيل الوحيد المتبقّي على هذه الأرض.
كأنّ غريزة مطاردة النّور دفعتهم جميعًا لرفع أنظارهم إليه تلقائيًّا.
شعر فضّيّ لامع كنجمة تُشبه تمامًا وليّ العهد السّابق، وعينان زرقاوان عميقتان.
قامة منتصبة لم تنحنِ رغم حياة الاختباء، أكتاف عريضة، قبضتان مغلقتان بقوّة وهو يكبح غضبه.
حامل اسم الإمبراطور الأوّل العظيم «كون» الذي لا يُمنح إلّا للابن الأكبر.
تحدّث يوليكيان كون روندينيس.
«احملوا جلالة الإمبراطور، واقبضوا على الإمبراطورة.»
«نعم!»
أجاب نائب القائد والفرسان بصوت عالٍ، ثمّ جرّوا الإمبراطورة.
خلافًا لتوقّعاتهم بأنّها ستقاوم، لم تبدِ كاردين هايم أيّ كلمة وهي تُسحب كوحش أمام الفرسان الغاضبين.
لم تقل كلمة واحدة متوقّعة مثل «تعاملوا معي بلطف» أو «سأمشي بنفسي».
سُحبت فعلًا ككلب.
كانت كاردين تبدو وكأنّها تفكّر بهدوء في شيء ما.
* * *
اتّضح أنّ الممرّ السّريّ في غرفة الإمبراطورة كاردين هايم يصل إلى أنحاء متعدّدة من القصر الإمبراطوريّ.
اعترفت جميع الخادمات بجرائمهنّ.
لم يبدُ أنّهنّ يرجون تخفيف العقوبة، بل كنّ كدمى تتحرّك فقط عندما يُدار زنبركها.
«في المرّة القادمة ادخل أنت يا فارس فيدير للتحقيق.»
«لماذا؟»
«…آه، مقزّز جدًّا. الحديث مع هؤلاء النّاس… يشعرونك وكأنّهم ليسوا بشرًا.»
«يا لك من جبان لهذه الدّرجة.»
دخل فارس فيدير وهو يضحك، لكنّه خرج بعد انتهاء التّحقيق مع كلّ واحدة منهنّ يمشي كزومبي حاملًا الأوراق، وقال لفارس تشيلينغتون الواقف بالخارج.
«المرّة القادمة ادخل أنت يا تشيلينغتون…»
« بمَ تشعر؟»
«أرأيت؟ قلتُ لك. غريب جدًّا. كدتُ أطعنها بإبرة لأرى هل تنزف دمًا أم لا.»
«كفّ عن ذلك يا رجل. يشفون بسرعة حتّى لو جُرحوا، هذا أكثر غرابة.»
أخذوا استراحة قصيرة، ثمّ دخل تشيلينغتون، وكانت ردّة فعله مشابهة.
مع ذلك، تعاونت جميع الخادمات مع التّحقيق بجدّية.
وكذلك فعلت الإمبراطورة.
«أنا من اقترحت مشروع قناة روهاتن. وأنا من تسبّبت بالحوادث أيضًا.»
صحيح أنّ مشروع قناة روهاتن صنع وظائف مؤقّتة لشعب الإمبراطوريّة، لكنّ الحوادث الكثيرة أودت بحياة عدد لا يُحصى من النّاس.
اليوم نستخدم القناة، لكنّ ظهور الطّحالب الخضراء في الأنهار القريبة، والجفاف المتكرّر الذي أتلف المحاصيل، كلّها آثار جانبيّة خطيرة.
ومن جرّائها مات الفقراء.
«…بصرف النّظر عن فائدة قناة روهاتن، هل تقصدين أنّ انهيار الأراضي والجفاف في المناطق المجاورة كان مقصودًا أيضًا؟»
«لو درستُم الجغرافيا قليلًا لعرفتم. حتّى إمبراطوركم قلق من ذلك، فتشاور مع الوزراء لتحديد مسار القناة. قلّل الضّرر فقط، لكنّ الجفاف لم يمنع.»
كانت الإمبراطورة هادئة تمامًا.
اعترفت بكلّ شيء عن فيركينغ أيضًا.
قالت إنّها جلبت أطفالًا بحجّة دراسة حدود الإنسان، جرّبت عليهم، درّبتهم ليصبحوا أسلحة بشريّة خالية من العواطف، ثمّ أهدتهم للإمبراطور السّابق كهديّة زفاف.
«أليس الهدف الأوّل كان صنع أسلحة بشريّة لشنّ حرب؟»
«ذلك ما أراده إمبراطوركم السّابق. بالطّبع كان رجلًا متأخّرًا عقليًّا، لكنّه فهم رغبتي عندما وضعتها أمامه.»
قالت الإمبراطورة إنّ الإمبراطور السّابق كابارديون موّل تدريب فيركينغ، وكان يتلقّى تقارير عنهم ويعرف كلّ شيء.
«إذن أين مقرّ فيركينغ الآن؟»
«لا يوجد الآن. وليّ العهد السابق، آه يعني هيلدون، اكتشفه، فخاف الإمبراطور السّابق وفكّكهم جميعًا.»
«…وما قصّة قرية القمامة بين جبال دورجيل؟ ما الهدف؟»
«المراقبة.»
أجابت الإمبراطورة باختصار، ثمّ رفّت بجفنيها الطّويلين وأكملت.
«آه، وأيضًا…»
شربت الماء الموضوع أمامها لتبلّل حلقها ثمّ تابعت.
«سلّة مهملات. كنتُ أضع فيها ما يصعب التّخلّص منه أو يؤسف رميه، وأراقبه. قراءة يوميّات المراقبة هناك كانت أكثر ما أتطلّع إليه في أيّامي الملل.»
كلمات لا يمكن أن تصدر عن عقل بشريّ، قاسية ومرعبة إلى حدّ لا يُصدّق.
نظر تشيلينغتون في الأوراق التي سلّمها إليه الدّوق الأكبر يوليكيان.
كلّ الفظائع التي ارتكبتها الإمبراطورة مسجّلة فيها.
جميعها جمعها وليّ العهد السابق هيلدون كون روندينيس، والأميرة ميلر باراغون روندينيس، والدوقة مادي.
كلّما تقدّم التّحقيق شعر بغثيان أكبر.
كائن مريع لا تريد معاشرته أبدًا.
عينان فارغتان تمامًا لا تعكسان أيّ ذنب.
نظر إليها تشيلينغتون بنظرة اشمئزاز وسأل:
«أين الدوقة مادي الآن؟»
«لا أعرف.»
لأوّل مرّة قالت الإمبراطورة «لا أعرف».
أظهر لها تشيلينغتون الختم الخاصّ بها وضغط عليها.
«اختفت آثارها بعد آخر أمر أعطيتِه لها! أنتِ قلتِ بنفسك إنّ فيركينغ لا يستطيعون رفض أوامرك بسبب الغسيل الدّماغي!»
«صحيح. لكنّ أستريد لم يمت، أليس كذلك؟ لا أعرف إلى أين ذهبت وماذا تفعل.»
«وما علاقتك بـ«كونا» من قرية القمامة؟ لقد حاول قتل السّيّد أستريد.»
«…من؟»
فتحت الإمبراطورة عينيها مستديرتين وسألت من هو.
وصفه لها تشيلينغتون، لكنّها هزّت كتفيها فقط.
عندما أحضروا الجثّة أخيرًا، أطلقت تنهيدة قصيرة «آه» كأنّها تذكّرت.
«عبد.»
ذلك كلّ ما قالته.
استخدم يوليكيان ختم الإمبراطورة للعثور على عدد آخر من فيركينغ المختبئين.
لم تحمِ الإمبراطورة أيًّا منهم.
«كان يجب التّخلّص منهم منذ زمن. لم يبقَ فيركينغ صالح واحد سوى زوجتك، يوليكيان.»
امتلأ يوليكيان غضبًا، فأمسك برقبة الإمبراطورة ودفعها إلى الجدار.
«بسببكِ مات عدد لا يحصى من النّاس! آباء وأمّهات فقدوا أطفالهم عاشوا يلومون أنفسهم طول حياتهم! أطفال كبروا دون أن يعرفوا معنى الحبّ!»
«أعرف. أنا من فعلت ذلك.»
«أنتِ…!»
شدّ يوليكيان قبضته ليضربها، لكنّه لم يستطع.
«…ستُعدمين أمام الشّعب الذي لعبتِ بحياتهم كدمى.»
«سيكون ذلك تسلية ممتعة أيضًا.»
دفعها يوليكيان بعنف وخرج من السّجن.
رغم سماعها أنّها ستُعدم علنًا، لم يتغيّر تعبير وجه الإمبراطورة قيد أنملة.
بقيت وحدها في زنزانة مظلمة لا يدخلها ضوء، ثمّ فتحت فمها.
«يبدو أنّ بإمكانك الخروج الآن.»
ظهرت من الظّلام صبية شعرها بنيّ اللون.
كانت مادي.
نظرت عيناها الخضراوان بهدوء إلى المرأة خلف القضبان، تلك المرأة التي لا تزال مخيفة الجمال رغم تقدّم سنّها.
عضّت الإمبراطورة إصبعها حتّى سال الدّم، ورسمت الختم.
غابت نظرة مادي مجدّدًا.
«اقتلي الدّوق الأكبر يوليكيان.»
«نعم.»
جواب فوريّ بلا تردّد.
اختفت فيركينغ في الظّلام مجدّدًا بعد الجواب.
بقيت كاردين هايم وحدها في الزنزانة، تذكّرت والديها وإخوتها في وطنها الذين لم يتغيّر وجههم عند سماع حكم إعدامها.
ثمّ تخيّلت وجه الدّوق الأكبر عندما يُخان من الشّخص الذي يثق به.
لم تمرّ يوم كامل حتّى عادت فيركينغ إلى زنزانة الإمبراطورة، يداها مغطّاتان بالدّم.
ابتسمت الإمبراطورة ابتسامة مريرة قليلًا.
كما توقّعت.
تذكّرت الرّجل الميت فجأة، لكنّها لم تتذكّر تعبير وجهه.
كان يبتسم دائمًا.
كنتُ أعتقد أنّنه كان يبتسم كلّما رآني.
«…أخرجيني من هنا. سنذهب إلى أرخبيل إتيود. رافقيني.»
«نعم، سيّدتي.»
فيركينغ الممتازة لا تعصي أوامر سيّدتها.
تحطّم القفل، وخرجت الإمبراطورة بخطى متكبّرة من زنزانتها.
التعليقات لهذا الفصل " 168"