الفصل 159
بالنسبة لمعظم الناس، كانت تلك الخطوط تبدو مجرّد خربشات عشوائية.
لكن بالنسبة لـ«شخص معيّن»، كانت شعارًا مألوفًا جدًّا.
كلّ فجر كانت تستيقظ فيه، كانت تردّد هذه الكلمات حتى حفظتها عن ظهر قلب.
امتلأ رأس مادي بها فجأة.
«فيركينغ جنديّة تحمي الإمبراطورية المقدّسة.
تعيش للوطن فقط، وتموت للوطن فقط.
الموت الحقيقي هو الموت المشرّف، فخافي من العار أكثر من الموت.
اتبعي القوّة. أطيعي الأوامر. كوني مخلصة للإمبراطورية. أبيدي العدوّ. اجعلي اسم إمبراطورية روندينيس وحده يرنّ في هذه الأرض.
فيركينغ هي سيف روندينيس العظيمة.»
وفي اللحظة نفسها، هجم صداعٌ مرعب.
«آآآخ…!»
أمسكت مادي رأسها بكلتا يديها وانهارت على الأرض.
ارتطمت ركبتاها بالأرض بصوتٍ مدوٍّ وهي تفقد قوّتهما.
كأن طبلًا عملاقًا يُدقّ داخل جمجمتها.
«اصمتوا! قلتُ اصمتوا! اخرسوا!»
ضربت مادي رأسها بقبضتيها مرّاتٍ عديدة، لكن الذكريات الماضية الملعونة لم تختفِ بسهولة.
تداخلت العبارات التي كانت تردّدها في القسم، ثم رتّبت نفسها فجأة بترتيبٍ نظيف.
«أطيعي الأوامر. عيشي لي وحدي، وموتي لي وحدي. كوني مخلصة. فيركينغ، أبيدي العدوّ.»
أصبح واضحًا أخيرًا أمام من كانت تركع.
من أجل سيّدتها الوحيدة، صاحبة فيركينغ الوحيدة.
سكتَ الضجيج في رأسها فجأة.
صمتٌ تامّ.
رفعت فيركينغ رأسها ببطء.
في زاوية الجدار الذي أزاحت عنه السجادة، كانت هناك كتابة صغيرة جدًّا.
‹اقتلي أستريد.›
طفت الجملة بوضوحٍ تامّ على سطح ماءٍ صافٍ كأن الزيت أُزيح عنه.
«حاضر.»
أجابت فيركينغ باختصار كعادتها، ثم نهضت.
خرجت من كوخ المرتزقة دون أدنى تردّد، وركبت جوادها وانطلقت بأقصى سرعة نحو المستشفى.
اختارت أقصر طريق، ثم نزلت أمام البوابة.
حاول الحراس الذين يقفون أمام المستشفى التحدّث إليها، لكنها لم تسمعهم ولم تجب.
أمسك أحدهم كتف فيركينغ متعجّبًا.
من يعصي أمر السيّدة هو عدوّ.
تخلّصت فيركينغ من الحارسين.
لم يُتح لهما حتى فرصة الصراخ.
سريعًا، ونظيفًا.
كلّما اقتربت من المبنى، زاد عدد الذين يصرخون وهم يرون الدماء الحمراء التي تبلّل جسدها.
أزاحت فيركينغ العوائق بضربة سيفٍ واحدة وتقدّمت.
أين الهدف؟
مسحت الدم الذي تناثر على وجهها وعطّل بصرها، ثم سألت الرجل الواقف في نهاية الممرّ.
«أين أستريد؟»
ارتجفت عينا الرجل.
بدت عيناه وكأنهما ستبكيان.
مدّ الرجل يده نحوها وقال وهو يقترب ببطء.
«مادي.»
لم يجب الرجل ذو الوجه الحزين على سؤالها.
هل يجب قتلُه؟
فكّرت فيركينغ.
لكن الرجل لم يسدّ الطريق بعد. ستقُتلُه حين تتأكّد أنه عدوّ.
سألت فيركينغ مجدّدًا.
«أين أستريد؟»
«هل تتذكّرين من أنا؟»
لم يجب السؤال، بل طرح سؤالًا غريبًا.
لا داعي للإجابة.
أمسكت فيركينغ بمقبض سيفها في يدها اليمنى وتقدّمت.
نحو العدوّ.
ضغطت طرف السيف قليلاً على صدر الرجل حيث قلبه، فانتشر الدم كالحبر.
لم يقاوم الرجل، بل استقبل نظرتها بهدوء، كأنه ينظر إلى مكانٍ بعيد جدًّا.
سألت فيركينغ للمرّة الثالثة:
«أين أستريد؟»
فجأة، طفت ذكرى قصيرة على سطح البحيرة الهادئة في رأسها:
[اسمعي جيّدًا، مادي. من الآن فصاعدًا، لا تقتلي الناس بتهوّر.]
[همم… لكن إذا اضطررتُ لحمايتك، قد أقتل. ماذا أفعل إذا كان لا بدّ من القتل؟]
[…إذًا تحمّلي ثلاث مرّات أولاً.]
[لماذا ثلاث بالذات؟]
[قال الحكماء القدماء: إذا صبرتِ ثلاثًا تجنّبتِ القتل.]
[إذًا بعد ثلاث مىات من الصبر يمكنني القتل؟ يجب أن أشرب كأسًا مع ذلك الحكيم، نتّفق تمامًا.]
[كفى.]
صحيح… يجب أن أصبر ثلاث مرّات.
سألتُ ثلاثًا، إذًا هذه آخر مرّة.
إن لم يجب هذه المرّة، يمكنني قتله.
فكّرت فيركينغ هكذا دون وعي، ثم أمالت رأسها متعجّبة.
من قال هذا الكلام؟
«مادي، مرّت عليكِ حالات كهذه من قبل، لكنكِ كنتِ تعودين بسرعة. صحيح؟ عودي.»
شعرت فيركينغ أن صوت الرجل مألوف بشكلٍ غريب.
في تلك اللحظة، سمعت خطوات خفيفة من الخلف.
«مادي؟»
الهدف.
التفتت لتنظر. في تلك اللحظة، أمسك الرجل معصم فيركينغ ولم يتركها.
وضع يده بلطف على خدّها وقال:
«نعم، أنتِ مادي.»
ما هذا الهراء؟
تجهّمت فيركينغ.
الرجل يناديها «مادي» منذ البداية.
بل إنها كادت تلتفت للتوّ عندما نطق بـ«مادي».
لا، ذلك فقط لأنها سمعت خطوات الهدف.
ركلت فيركينغ ساق الرجل، ثم استغلّت ترنّحه ودفعته بقدمها في بطنه، ثم استدارت ورفعت سيفها عاليًا.
كان طفل صغير بقف هناك.
انعكس شكل فيركينغ المغطّى بالدماء في عينيه الزرقاوين الكبيرتين.
ارتجف الطفل وافترت شفتيه بحذر.
«مادي، هل جُرحتِ؟»
يا للغباء.
كلّ هذا الدم دم الآخرين.
ظنّت الطفل أن مادي جُرحت.
لا، أنا فيركينغ.
أنا فيركينغ.
أمسكت فيركينغ السيف بكلتا يديها مجدّدًا، عازمة على شقّ الطفل نصفين بضربة واحدة.
لا مجال للتردّد.
فجأة، ركض الطفل نحوها.
هجوم؟
في هذا العمر يمكن أن تبدأ التدريب، لا عجب.
هزّت فيركينغ السيف.
رسم السيف الطويل قوس دائرة.
تطايرت خصلات شعر الطفل المقطوع.
توقّعت أن تكون مدرّبة، فانحنت الطفل بسرعة وتفادى الضربة.
أو… ربما كانت فيركينغ بطيئة جدًّا.
لم تستطع فيركينغ ضرب الطفل الذي دخل مداها.
رفع الطفل ذراعيه عاليًا واحتضن فيركينغ بقوّة، صوته مخنوق بالبكاء.
«لا تفعلي. لا تؤذي الناس… ولا تؤذي نفسكِ أيضًا، مادي.»
لا أفهم ما يقوله.
يقول لا تؤذي نفسك؟
لم أتألّم يومًا.
أم تألّمتُ؟
هناك ألم، لكن لا موت.
بدأ يختلط عليها الأمر.
فجأة، احتضنها أحدهم من الخلف.
وأمسك بيدها اليمنى التي تمسك السيف.
أن يُمسك بيد السيف؟
حاولت فيركينغ التخلّص منهما، لكن الرجل همس بهدوء.
«اسمكِ مادي.»
تداخل صوتٌ آخر كالحلم.
[من الآن اسمكِ مادي. انسي الاسم الذي أعطاه الأشرار، ولنبدأ من جديد. أنتِ طفلة عزيزة جدًّا.]
«مادي.»
نطقت فيركينغ الحرفين بصوتٍ مسموع.
شعور بالحنين غريب جدًّا.
شيءٌ خاصّ بي.
اسمي.
يعني أنني عزيزة جدًّا.
ثم نطقت اسمًا آخر فجأة.
«يوليكيان.»
«نعم، مادي.»
بدأت القوّة تفارق يدها التي تمسك السيف.
طقطق.
سقط السيف من يد فيركينغ، فرأت انعكاس نفسها في النصل المتدحرج، ثم رأت الممرّ المغطّى بالدماء.
رفعت يدها وأمسكت رأس الطفل بلطف.
«…أستريد.»
ما إن نطقت اسمه حتى انفجر الطفل في البكاء «بوينغ».
شعرها الأمامي مقطوع بوضوح، ودمٌ أحمر يسيل من جبينه.
كأن قلبها سقط من مكانه.
تدفّقت الذكريات كالسيل في رأسها الهادئ واستقرّت في كلّ مكان.
«أستريد!»
حملت مادي أستريد بسرعة والتفتت.
«يوليكيان! أستريد جُرح!»
«…الحمد لله. لقد عُدتِ.»
تنهّد يوليكيان براحة واحتضن مادي.
كانت رائحة الدم تفوح من صدره.
الدم يخرج من الجميع، وأنا الوحيدة السليمة.
أنا من جرح يوليكيان وأستريد.
أنا من قتل كلّ هؤلاء الذين يرقدون في الممرّ وتغطّيتُ بدمائهم.
تركت مادي أستريد على الأرض بهدوء وتراجعت خطوة إلى الخلف.
«مادي، تعالي. لا بأس.»
«لا… لا… أنا… أنا… فيركينغ.»
«لم تعودي كذلك. لستِ تلك الأداة. نحن بخير.»
«…كدتُ أقتلك.»
نظرت مادي إلى يديها المغطّاتين بالدماء.
«وكدتُ أقتل أستريد أيضًا…»
لا تصدّق، لكنها هي من فعلت ذلك بوضوح.
كأنها تحلم حلمًا غبيًّا تتبع فيه ضوءًا واحدًا وسط ضبابٍ كثيف.
كدمية مربوطة بحبال في أطرافها.
«لا، مادي. كنتِ قادرة على قتلي لكنكِ ركلتِني ودفعتِني فقط. ورفعتِ السيف عمدًا لتتفادى أستريد. وعيكِ الباطن تذكّر… حقًا لا بأس، مادي.»
مدّ يوليكيان يده، لكن مادي هزّت رأسها.
لم تكن تملك الشجاعة لتنظر في عينيهما.
استدارت مادي وركضت بكلّ قوّتها.
هذه لعبة لا تنتهي إلا بموت فيركينغ.
التعليقات لهذا الفصل " 159"