الفصل 158
ما إن علم نوكس أن الزواج كان بعقد حتى فغر فاه كأن فكه سيسقط، ثم حدّق في الاثنين بكلّ قوّة.
«كيف استطعتم خداعي؟ الدوق الأكبر أمر مفهوم، لكن اختي مادي…! واو، اختي!»
لم يشرحا كلّ شيء بالتفصيل. قالا فقط إن الدوق شعر بتهديد على حياته فاستأجر مادي حارسًا شخصيًا.
لكن حتى بعد تفسير الظروف متأخرًا، لم يهدأ غضب نوكس ولا شعوره بالغبن.
حتى اللحظة الأخيرة قبل الانطلاق، حاولت مادي تهدئته وهو ما زال غاضبًا.
«آه، يا فتى. آسفة. كنتُ خائفة أن يقصر عمرك إذا عرفت، لذلك لم أخبرك. كان الأمر خطيرًا جدًّا.»
«نعم، لا بأس. حتى لو عملنا معًا سبع سنوات وعشنا كعائلة، فنحن غرباء في النهاية، أليس كذلك يا سيدة مادي ؟»
«هيا اخي. لماذا تتصرّف هكذا؟ اهدأ قليلاً. حقًا لم أخبرك لأن الأمر كان خطرًا.»
في النهاية، أخرج يوليكيان سلاحه السرّي.
«…صهري.»
لكن ذلك لم يؤثّر أبدًا.
«صاحب السمو الدوق الأكبر يوليكيان كون روندينيس. لا بأس. تفضّل ونادِني مساعدك براحتك.»
« نوكس، اهدأ قليلاً لا تغضب.»
«صاحبة السمو الدوقة. أغضب؟ عن أيّ غضب تتحدّثون؟ كيف لي، مجرّد موظّف سابق عمل مع صاحبة السمو لفترة قصيرة، أن أغضب منها؟ أنا مفعم بالعواطف فقط.»
لم يهدأ نوكس حتى وصلوا قرب النزل الذي يقيم فيه.
اضطرّت مادي أن تتركه وشأنه.
«نوكس. لا تجعل نينا تعرف أننا هنا. تجوّل هنا وهناك بأمان ثم ارجع إلى الإقليم. مفهوم؟»
«بالطبع، صاحبة السمو الدوقة.»
انحنى نوكس بأدب مبالغ فيه حتى النهاية، ثم اتّجه نحو النزل.
«آه، هذا الولد عنيد جدًّا.»
سأل يوليكيان مادي بقلق.
«يبدو نوكس متأذّيًا جدًّا.»
«كتمان السرّ كان أحد شروط العقد أيضًا. لا مفرّ. سيمرّ الوقت وسيهدأ. سنشتري له زجاجة خمر جيّدة لاحقًا، لا مشكلة.»
ركبا العربة معًا وانطلقا نحو العنوان المكتوب في الرسالة.
بعد نصف ساعة إضافية خارج القرية، وصلا أخيرًا إلى حيّ الفقراء.
اقترب الناس الهزيلون من مادي ويوليكيان بنظرات مليئة بالشكّ.
«ساعدونا.»
«امنحونا القليل من العطف.»
أمسكت مادي بمعصم يوليكيان وشقّت طريقهما بينهم.
لو أعطيا مالاً لتكدّس المزيد بالتأكيد.
«ابتعدوا.»
صعدا إلى الطابق الثاني من مبنى مغسلة ينبعث منه بخار حارّ، فظهر ممرّ طويل وعدة أبواب.
توقّفت مادي أمام أحدها وطرقت، لكن لم يأتِ ردّ.
«يبدو أن لا أحد هنا؟»
«هناك شخص. قبل قليل، عندما تجمّع الناس تحت، التقت عيناي بعينين من خلف النافذة.»
طرقت مادي الباب مجدّدًا وقالت.
«جئتُ لأنني سمعتُ أنك تعرف شيئًا عن لعبة الدمى. افتح.»
انفتح الباب فجأة.
كان شابًّا نحيفًا، عيناه غائرتان كأنهما داخل الجمجمة، يرتدي نظّارة مكسورة الساق ملصوقة بشريط لاصق، مظهر رثّ تمامًا.
مرّر يده في شعره المنكوش، ومسح فمه المشعر بفوضى.
«مـ، ماذا… كيف عرفتم؟»
كان صوته يرتجف، لكنه بدا مذهولًا أكثر من خائف.
بل كان في صوته لمحة انتظار خفيّة.
جالت مادي بنظرها الحادّة عليه ثم أجابت.
«قل كلّ ما تعرف. لكن هذا ليس حديثًا يُقال في الممرّ. هل يمكنني الدخول؟»
دون انتظار جواب، دفعته بقوّة ودخلت الغرفة.
«يا للوقاحة…!»
«أجل، مرحبًا. أنا الوقحة.»
تفقّدت مادي الغرفة بثقة.
ابتسم يوليكيان للرجل الذي كان يتنفّس غضبًا وقال:
«زوج الوقحة.»
دخل يوليكيان من الباب المفتوح ثم أغلقه وقفله بهدوء.
في الغرفة الصغيرة لم يكن هناك سوى سرير ومكتب.
لكن الأرض والجدران مغطّاة بالأوراق من كلّ نوع: وثائق، قصاصات جرائد، خرائط.
خطت مادي خطوة نحوها فحجب الرجل طريقها.
«اخرجي! قلت اخرجي!»
ما إن حاول دفع مادي حتى التوت ذراعه خلف ظهره وأُخضع فورًا.
«آآآخ! آه!»
«جئنا لنتحدّث فقط، لماذا تتصرّف هكذا؟»
دفعت مادي الرجل إلى الزاوية ورمته أرضًا، ثم بدأت تتصفّح الأوراق التي تغطّي جدارًا كاملاً بسرعة.
«كنت تتعقّب شخصًا ما.»
قال يوليكيان للرجل الجالس ممسكًا كتفه:
«فتحتَ الباب عندما سمعتَ كلمة ‹لعبة الدمى›، إذًا الشخص الذي تبحث عنه هو نفسه الذي نطارده، أليس كذلك؟»
أصلح الرجل نظّارته وتمتم غاضبًا.
«من أنتما؟»
رفعت مادي ورقة من على المكتب وجلست القرفصاء أمامه لتطابق أعينهما.
«حبيبي قالها للتو: نحن نطارد الشخص نفسه.»
هزّت الورقة أمام عينيه.
كتب عليها «كاردين هايم».
قدّم نفسه باسم هيوستن.
أخ الخادمة التي كانت ترعى كاردين هايم، وناجٍ من لعبة الدمى التي لعبتها تلك المجنونة.
استيقظ بعد ثلاثة أيام نوم متواصل ليجد عائلته كلّها ميتة.
موت لا يمكن تفسيره.
حاول هيوستن معرفة لماذا احترق والداه، ولماذا قُطع رأس أخته في القصر.
قالت أخته قبل موتها مباشرة للأميرة التي كانت ترعاها: «أنتِ من قتلتهم جميعًا!»
كرّس حياته لحلّ هذا اللغز.
لم تكن عائلة هيوستن الضحايا الوحيدين.
اكتشف بعد تحقيق عنيد أن كلّ من مات أو أصيب بحادث في القصر المنفصل كان من مقربي كاردين هايم.
أبلغ الصحفحة، لكن شيئًا لم يتغيّر.
لم يصدّقوه، قالوا إنه مجنون يهذي.
فقد هيوستن عائلته بأكملها.
هناك شهود عيان على لعبة الدمى، وشهادات ضحايا، لكن لا أحد صدّق.
«سنستمع إليك حتى النهاية، فتكلّم.»
جلس يوليكيان بجانب هيوستن على الأرض.
«سنصدّقك، يا هيوستن، فتكلّم.»
نظر هيوستن إليهما بالتناوب ثم بدأ يشرح بتردّد كلّ ما جمع خلال حياته.
مرت ليلة كاملة.
كانت حجم الجرائم وعدد الضحايا مختلفًا في كلّ مرّة، لكن طرف الخيط الواحد دائمًا كان كاردين هايم.
«…تعبتَ كثيرًا، يا هيوستن.»
أنهى هيوستن شرحه في الغرفة المظلمة وهو يلهث كمن أنهى سباقًا طويلاً.
«يجب أن تعيش. يجب أن تقف شاهدًا عندما نضع تلك المرأة في قفص الاتهام.»
«حـ، حقًا؟ هل يمكن فعلاً؟»
«بالطبع. جئنا من أجل هذا بالضبط.»
أمسك هيوستن الورقة المكتوب عليها اسم كاردين هايم، عقصها بيده وبكى كطفل.
بكى بنحيبٍ عالٍ كما فعل ذلك الطفل الذي استيقظ في بيت غريب ليجد عائلته كلّها ميتة.
* * *
لم يركب يوليكيان العربة، بل ظلّ ممسكًا بيد مادي ولا يتركها.
«قلتُ لنذهب معًا.»
«هو شاهد مهمّ جدًّا. أنا أرسلك معه لأنني أثق بك.»
«…هل يجب أن تذهبِ الآن مباشرة؟»
بعد أن استأجرت العربة، دفعت يوليكيان بلطف نحوه مع هيوستن ليعودا إلى المستشفى أولاً.
أما هي فستتوجّه إلى مقرّ المرتزقة السابق.
«بالتأكيد بقي شيء هناك. لا يمكننا إضاعة المزيد من الوقت.»
«…حتى لو.»
«كم أنت قلق! أنا أكثر قلقًا عليك. اذهب! عيناه منتفختان من البكاء ولا يرى الطريق. أمسك يده وعد به إلى المستشفى سالمًا.»
«آه، لا تضربي مؤخّرتي! أأنا طفل؟!»
«أوه، حبيبي. ما الذي يُخجل بين زوجين؟»
لو لم يكن هناك ما يُخجل حقًا لما كان الأمر صعبًا…
لأننا لم نفعل شيئًا أصلاً.
قبلة الأولى كانت أمام الجواسيس لنظهر لهما فقط، بدون أيّ عاطفة.
الثانية كانت مادي تدّعي استخراج سمّ لم يكن موجودًا في فمي، عملية طبية بحتة.
أما الثالثة فكانت إنعاش قلبي رئوى، إنقاذ حياة حرفيًا.
غير ذلك لم نفعل شيئًا.
ماذا فعلنا سوى أن مسكنا الأيدي واحتضنا بعضنا؟
برم يوليكيان شفتيه.
ابتسمت مادي عندما فهمت ما في قلبه، ثم قبّلت ظهر يده.
«ماذا لو… بعد أن ننتهي من كلّ شيء ونرتّب الأمور، نتواعد؟»
احمرّ وجه يوليكيان في لحظة.
«أنتِ… كيف تقولين كلامًا مهمًّا كهذا قبل صعود العربة مع الشاهد مباشرة؟»
«إن لم يعجبك فلا بأس.»
جذب يوليكيان معصم مادي التي التفتت لترحل وقبّلها.
ردّت مادي القبلة بكلّ سرور.
انتهت القبلة، ثم رفض يوليكيان عرضها بصوتٍ رقيق.
«لا، لا أريد. لنعيد حفل الزفاف بشكلٍ صحيح من البداية.»
«ها… حسنًا.»
تبادلا قبلة قصيرة أخرى، ثم افترقا ونظرات يوليكيان تفيض أسفًا.
هرعت مادي بخطواتٍ خفيفة كأنها تطير.
إذا كان زفافًا حقيقيًا هذه المرّة، هل سأرتدي فستانًا أبيض؟
ارتفعت ابتسامة حمقاء على شفتيها.
«آه، يجب أن أستعيد عقلي!»
صفقت على خدّيها، ثم دخلت مقرّ المرتزقة الذي سمعته منهم أثناء الاستجواب، أقبل أيام.
قال رجال الجنرال كونديلاما إنهم لم يجدوا شيئًا خاصًّا هنا، لكن بالتأكيد بقي شيء.
بدأت مادي تدقّ كلّ لوح خشب في الأرض والسقف، وتقلب كلّ قطعة أثاث.
وعندما نزعت السجادة المعلّقة على الجدار، اكتشفت أخيرًا رموزًا غريبة محفورة.
«…آه.»
مع تنهيدة قصيرة، غشيَ عيني مادي ضباب.
التعليقات لهذا الفصل " 158"