الفصل 132
أمالت الفتاة رأسها بدهشة.
«سموّه»؟ ما هذا؟
لم تكن تعرف بالضبط ما تعنيه كلمة «سموّه»، لكنّها بدت تحمل معنىً عظيمًا جدًّا.
ما إن نطق سولوچو بكلمة واحدة حتّى تجمّد الجميع كأنّما أصابتهم رصاصة، ثمّ اندفعوا كالمسحورين نحو الأمام.
تعثّروا في القمامة وسقطوا على وجوههم، لكنّ أعينهم ظلّت معلّقةً بشخصٍ واحدٍ فقط، ذلك الرّجل ذو الشّعر الفضيّ الذي يشبه مجرّة درب التبانة.
«سموّه!»
«كيف لسموّه أن يكون في مكانٍ كهذا!»
اندفعت شانْديما باكية وهي تمسك يد الرّجل السّاقط.
أكملت الفتاة مضغ الطّحلب وبلعته، ثمّ مشت بهدوء نحو الحشد المتجمّع.
تردّدت أصوات بكاء سكّان قرية القمامة على جدران الصّخور كالصّدى.
كونا أيضًا، وهو يعرج، تسلّق تلّة القمامة بصعوبة. لم يستطع القفز، فزحف على يديه وركبتيه.
«أنا… أنا… سموّه… كيف… كيف انتهى… إلى… إلى هنا… سموّه…»
أمسكت الفتاة بطرف بنطاله وأشارت بعينيها.
حرّك كونا شفتيه ودموعه تترقرق، لكنّ الكلمات كانت عالقةً في حلقه، كأنّه لا يصدّق ما يراه.
أجابها أخيرًا وهو يتلعثم أكثر من المعتاد.
«سـ-سموّه… نعم… هذا… هيـ-هيلـ… هيلدَن… ولـ-ولي… العـ-العهد… سموّه.»
ولي العهد؟
ولي العهد هو أشرف وجود تحت مجد الإمبراطوريّة.
انتشرت في عقل الفتاة المعلومات التي غُرست فيها كالتّعذيب على مدى سنين طويلة، كأنّها حبر يذوب في الماء.
سيّدها هو إمبراطوريّة روندينيس ذاتها. حتّى لو كانت فيركينغ ملغاة، فإنّ «المعرفة العامّة» لم تُمحَ.
تحمي الإمبراطوريّة.
تعيش من أجل الإمبراطوريّة، وتموت من أجل الإمبراطوريّة.
أنا موجودة من أجل مجد روندينيس الخالد وازدهارها الأبديّ.
على هذه الأرض، يجب أن يبقى اسم روندينيس وحده هو الذي يُذكر…
ركضت الفتاة كالمجنونة صاعدةً تلّة القمامة، وعيناها تبحثان عن الرّجل ذي الشّعر المجرّيّ.
لم تعد تشعر بأيّ نبض حياة ينبعث منه، كأنّه قد فارق الحياة منذ زمن.
كان سكّان القرية قد أدركوا ذلك أيضًا، فاكتفوا بالبكاء حوله دون أن يقتربوا أكثر.
لكنّ الفتاة لم تستطع أن تترك مستقبل الإمبراطوريّة يُهدر هكذا.
لا يجوز أن يُلغى مستقبل الإمبراطوريّة.
أمسكت بذراعي الرّجل الذي يجب أن يحمل الإمبراطوريّة على كتفيه، ورفعته.
«يا فتاة!»
لم تجب على صرخات النّاس.
لم يكن في رأسها سوى فكرة واحدة: ‘يجب أن أحمي كون.’
رغم أنّ الرّجل كان ضعف حجمها، إلّا أنّها حملته على ظهرها دون أن تتعثّر أو تتمايل.
نزلت مسرعةً من التلّة الضّخمة المغطّاة بالقمامة، ووضعت الوريث الإمبراطوريّ في ساحة صغيرة فارغة نسبيًّا.
ثمّ وضعت يديها على صدره وبدأت الإنعاش القلبيّ الرّئويّ بسرعة.
كانت فيركينغ قد حُشيت رأسها بكلّ أنواع المعرفة، لكنّ الإنعاش القلبيّ لم يكن من بين ما تذكّرته جيّدًا.
لم تتذكّر كم يجب الضّغط، ومتى يجب التّوقّف.
لذا ضغطت بقوّة وبسرعة، بلا توقّف، حتّى تعود دقّات قلب كون.
«لقد فات الأوان بالتّأكيد. انظري إلى أثر الحبل على رقبته… لقد اغتيل سموّه. رمى أحدهم جثّته هنا…»
اقترب غويل من خلفها وحاول إيقافها، لكنّها لم تتوقّف.
نفضت يده عن كتفها بعنف، واستمرّت في الضّغط على صدر الوريث.
من يجرؤ على كسر الإمبراطوريّة؟
هو من سيحمل الإمبراطوريّة. هو الأرض التي تحمل الجبال والحقول، والسّماء التي تشرف على كلّ شيء.
كيف يجرؤ أحد؟
كيف؟
بدأ عرق غزير يتصبّب من وجه الفتاة المحمّر.
بعد فترة طويلة من الإنعاش، بدأ لون الرّجل الشّاحب يعود تدريجيًّا.
وبعد ثوانٍ، تفجّر سعالًا جافًّا.
«كح! كخ… كح!»
«سموّه!»
«سمو ولي العهد!»
جثا النّاس على ركبهم حول الفتاة والوريث وبدأوا النّحيب.
شعور بالرّاحة واليأس في آنٍ واحد.
في هذا الجحيم الذي يشبه بئرًا عميقة، لا أمل في الخروج أصلًا.
وحتّى لو نجا، فلا ينتظره سوى الجنون.
أغمض الوريث عينيه بقوّة، وسعل عدّة مرّات، ثمّ تقوّس ظهره من الألم.
اقتربت الفتاة بهدوء، ثمّ التفّت خلفه وهو ملقى على الأرض، وعانقته من خصرِه.
ثمّ ضغطت بكلّ قوّتها على بطنه.
«أووخ! كخ! أووغ!»
خرج من حلقه قطعة قماش مبلّلة بالدّم.
أخيرًا استطاع التّنفّس، فبدأ يسحب النّفس ويخرجه بعمق.
استقام جسده الذي كان يتلوّى كدودة ميتة.
لكنّ الفتاة لم تطمئن بعد، فظلّت تراقبه بعينين جاحظتين.
تأكّدت من أنّ صدره يعلو ويهبط، وأنّ ذراعيه وساقيه تتحرّكان بحرّية.
وأخيرًا، اقتربت من رأسه لتفحص حدقتي عينيه.
فتح ولي العهد عينيه.
السّماء.
كانت السّماء هناك.
عينان زرقاوان نقيّتان، كأنّهما نقلتا قطعة من السّماء الصّغيرة التي تُرى في قرية القمامة، تنظران إلى الفتاة مباشرة.
«سموّه! هذه الفتاة… هي التي أنقذتك!»
لم يستطع ولي العهد الكلام بعد لألم حلقه، لكنّه مدّ يده اليمنى ودلّك شعر الفتاة برفق.
تحرّكت شفتاه.
كانت جملة بسيطة جدًّا بالنّسبة للفتاة التي تعلّمت قراءة الشّفاه.
‘شكرًا.’
كانت أوّل مرّة تسمع فيها هذه الكلمة.
كان إنجاز المهمّة أمرًا مفروغًا منه، فلم يشكرها أحدٌ قطّ.
تراجعت الفتاة خطوة إلى الوراء دون أن تشعر.
بينما كان النّاس يساعدون ولي العهد وينقلونه إلى مكان أكثر راحة، اختبأت الفتاة بين كومة القمامة ولم تخرج لفترة طويلة.
* * *
منع ولي العهد النّاس من مناداته بـ«سموّه».
فهم فورًا أنّ هذا اللّقب لا معنى له إن لم يخرجوا من هذا المكان.
ظلّت الفتاة تتجنّبه طوال الوقت.
فالفيركينغ هي سيف الإمبراطوريّة وظلّها، ولا يجوز أن تُرى.
لكنّ ولي العهد الذي استعاد صحّته كان ذكيًّا جدًّا.
عندما كانت الفتاة تمصّ عظم دجاج كالحلوى، ناداها من بعيد.
«يا فتاة.»
انتفضت الفتاة ورمت العظم، لكنّ ولي العهد تفاداه بسرعة ومدّ يده نحوها.
لكنّ عيني الفتاة اتّسعتا كأنّهما ستقفزان من محجريهما.
«ما الذي حدث؟»
أشارت الفتاة بيدها إلى فخذ ولي العهد.
العظم الذي ظنّ أنّه تفاداه كان قد انغرز في فخذه.
«… تعرفين رمي كرة شيطانيّة رائعة.»
اندفعت الفتاة نحوه، صدمته وأسقطته أرضًا.
كانت كعجل صغير.
صغيرة نعم، لكنّها عجل بكلّ تأكيد.
ولسوء الحظّ، سقطا على سفح التلّة، فتدحرج ولي العهد من أعلاها إلى أسفلها.
ربطت الفتاة الجزء العلويّ من فخذ ولي العهد المصاب بقطعة قماش طويلة نظيفة نسبيًّا، بقوّة.
«آخ! مهلًا! مهلًا! ربطتِ شيئًا آخر معه! توقّفي رجاءً!»
صرخ مستقبل الإمبراطوريّة من الألم.
لكن يجب إيقاف النّزيف.
نظرت الفتاة إليه باستغراب وهي تمسك طرفي العقدة بكلتا يديها.
كان العرق البارد يتصبّب من وجه ولي العهد الممدّد.
«… سأفعلها بنفسي، اتركيها. يا فتاة. اتركيها وابتعدي، حسنا؟»
«… إيقاف الدّم… مستقبل الإمبراطوريّة…»
شدّت الفتاة الطّرفين بقوّة أكبر، فلم يتحمّل ولي العهد وقام ممزّقًا القماش بيديه.
ثمّ قلع عظم الدّجاج بسرعة.
ظنّ أنّ الأمر انتهى بخير.
لكنّ العظم كان قد غرز عميقًا جدًّا.
ظلّ ولي العهد ملتويًا ممسكًا بفخذه الدّاخليّ، غير قادر على الوقوف لفترة طويلة.
همست الفتاة بصوت خافت.
«… مستقبل الإمبراطوريّة…»
أجابها ولي العهد وهو أحمر الوجه من الألم.
«نعم، لقد كدتِ الآن تُنهي مستقبل الإمبراطوريّة.»
انهار عالم الفتاة.
لم تصدّق أنّها كادت ترتكب جريمةً فظيعة كهذه.
عظم دجاج خطير إلى هذا الحدّ؟
قرّرت الفتاة أنّها لن تمصّ عظم دجاج مرّة أخرى طوال بقائها في قرية القمامة.
بعد دقائق، عاد ولي العهد يعرج إلى كوخه الصّغير.
ظلّت الفتاة تتجول حوله بحذر.
لم يرها، لكنّه عرف أنّها قرب الكوخ، فناداها.
«سمعتُ أنّكِ أنقذتِني. ما اسمك؟»
لم تجب الفتاة.
سألها مرّة أخرى.
«… أنتِ فيركينغ، أليس كذلك؟»
شدّت الفتاة قبضتيها، ثمّ تقدّمت ووقفت أمامه.
قال ولي العهد بجدّية خالية من الابتسامة.
«طفلة في عمركِ أنقذت رجلًا يحتضر، وتعيشين هنا دون أن تسعلي أو تُصابي بطفح جلديّ، وفوق كلّ ذلك… تلك الهجمة للتوّ لا يستطيع تنفيذها شخص لم يتدرّب.»
حدّقت الفتاة بصمت في عينيه الزّرقاوين المختبئتين في الظّل.
الآن وقد عرف أنّها فيركينغ، سيعطيها أمرًا.
إن أمرها بالهروب من هنا، فستحفر نفقًا في الجدار حتّى لو بأظافرها.
أرادت الفتاة أن تثبت للإمبراطوريّة أنّها لم تُلغَ لأنّها بلا فائدة.
عضّت على شفتيها، وأومأت برأسها بصعوبة، مليئةً بالعزيمة.
حينها مسح ولي العهد وجهه بقسوة، ثمّ تنهّد تنهيدة عميقة وقال:
«… تعبتِ كثيرًا. لم يعد عليكِ أن تعيشي هكذا بعد الآن، يا فتاة.»
وقف ولي العهد، واقترب منها، ثمّ عانق الطّفلة الأصغر من ابنه، وربّت على ظهرها طويلًا.
«من الآن فصاعدًا، دعينا نعيش من أجلكِ أنتِ.»
رفعت الفتاة رأسها بدهشة تامّة.
طوى ولي العهد زاوية عينيه المبلّلتين بالدّموع وابتسم.
«لا تجعلي حياة أحد أو شرف أحد أعلى من حياتكِ وشرفكِ. كلّ يوم، اجتهدي لتجعلي حياتكِ أغنى وأجمل. هل فهمتِ كلام العمّ؟»
حدّقت الفتاة بالعمّ طويلًا، ثمّ أومأت برأسها ببطء.
التعليقات لهذا الفصل " 132"