عندما بقيت يان واقفة بصمت، قال أحد الرّجلَين اللذين تشاجرا سابقًا وهو يمسح فمه.
«ابنتي عندما كانت في الثّانية عشرة كانت بحجمها تقريبًا.»
«إذًا اثنتا عشرة؟»
«لكنّ عينَيها كعينَي سمكِ، كمن عاش اثنين وثلاثين عامًا وعرف كلّ مصائب الدّنيا.»
«إذًا نعتبرها اثنتين وعشرين بالتّقريب؟»
ضحك الرّجلان اللذان كانا يتضاربان للتوّ واتّفقا على أنّ عمرها اثنتان وعشرون مزحةً.
نظرت إليهما العجوز بنظرة جانبيّة ثم مدّت يدها إلى يان.
«اسمكِ؟ ما اسمكِ؟ لم نُغطِّكِ بسقف لأنّنا ظننّاكِ ميتة… هنا الأحياء الذين يسقطون أقلّ بكثير.»
«…لا اسم لي.»
قرّرت الفتاة أن تتخلّى عن اسمها.
هنا لا يوجد فيركينغ.
لا دكتور، ولا لامدا.
لا أمل يبدو موجودًا، لكنّ مجرّد التخلّص من الاسم الذي أعطاه إيّاها لامدا كان كافيًا.
«لا تعرف اسمها ولا عمرها… لماذا رُميت فتاة كهذه هنا؟»
«هل ارتكبتِ جريمة؟»
«أقتلتِ إنسانًا؟»
«لو قتلت إنسانًا لكانت حُوكمت ثم أُعدمت علنًا، لا تُرمى في هذا الجحيم.»
«إذًا… فعلتِ شيئًا لا يُغفر أبدًا؟ ما الذي يمكن لفتاة صغيرة أن تفعله؟»
«إذًا قتلت عددًا كبيرًا جدًّا من النّاس…»
«لماذا تُصرّ منذ قليل على قول أشياء مرعبة؟!»
«كلام مرعب».
قرّرت الفتاة ألّا تردّ على العجوز اللّطيفة.
ربت الرّجل المتلعثم على كتفها معتذرًا إن جُرحت مشاعرها.
قال إنّه أصيب برأسه عندما سقط من الأنبوب، فصار لا يتحكّم بجانبه الأيسر جيّدًا، وإنّ تلعثمه وتسيّب لعابه بسبب ذلك.
أخذوها إلى ساحة صغيرة نظّفوها من القمامة، وجلسوا في دائرة.
قال كلّ واحد اسمه وعمره.
لم يتحدّثوا عمّا كانوا يعملون سابقًا، لكنّ الفتاة خمّنت من مشيتهم وجلستهم أنّهم كانوا أشخاصًا «لهم وزنهم» في مكان ما.
‘هؤلاء أيضًا طُردوا من المجتمع.’
هنا مقبرة المطرودين.
الجدران الصّخريّة المنحدرة لا يمكن تسلّقها.
وجدوا آثار محاولات هرب بتكديس القمامة، لكنّ الأبراج لم تصل حتّى إلى الأنابيب، وكانت هشّة إلى درجة يستحيل معها الصّعود.
تعلّمت الفتاة منهم كيف تبقى حيّة في قرية القمامة.
تحفر الطّحلب في شقّ الصّخر حيث يجري الماء الأقلّ قذارة، وتختبئ في الزّاوية عندما تسمع صوت الرّعد القادم من الأنابيب؛ لأنّ كثيرين ماتوا سحقًا تحت القمامة السّاقطة.
الموت الفجائي كان أقلّ أنواع الموت رعبًا بالنّسبة إليها، لكنّها لم تُظهر ذلك.
كانوا يشفقون عليها لأنّها وصلت إلى هنا، لكنّهم في الوقت ذاته فرحوا بقدومها قليلًا.
حتّى وإن لم تتصرّف كطفلة قطّ، كانوا دائمًا حنونين معها.
«الطـ طـ طفل هو المـ مـ مستقبل. الإإإنسان الحيّ يمكن أن يلقى… المستقبل الوحيد…»
كان يتلعثم لكنّه لم يترك جملة ناقصة أبدًا.
لذلك اعتبرته الفتاة رجلًا عظيمًا.
حتّى في الجمل الطّويلة لم يغضب مرّة، فقط يمسح لعابه بجدّ ويكمل كلامه بصعوبة.
«النّاس هنا يقولون إإإن حاكم غير موجود، لكن أأأنا أؤمن أنّ بقاءنا أحياء هنا هو أأأمل وفرصة. مجيئكِ إلى هنا بالتّأكيد له معنى ما، يا صغيرتي.»
كان هناك متشائمون أيضًا.
غويل و سولوجو اللذان يتشاجران كثيرًا كانا يرسمان على الجدار.
قالا إنّهم يريدون ترك أثر قبل أن يموتوا في أيّ لحظة.
كانا يمسكان حجرًا صلبًا حتّى تنزف أيديهما وتتقشّر، لكنّهما لم يتوقّفا عن نقش الرّسوم.
كان غويل يحبّ رسم الوجوه البشر، وسولوجو المناظر الطّبيعيّة.
كلاهما بلا يد يمنى، ورغم ذلك كانتا الرّسمتان ممتازتَين.
قالا إنّه عقاب لأنّهما رسما ما لا يجوز رسمه.
«العالم صغير جدًّا ليحتويني.»
ضحك غويل ضحكة خفيفة، فسخر منه سولوجو لكن دون توبيخ حقيقي.
حاولت الفتاة أن تضحك معهما.
«كي هي هي.»
بما أنّها أصدرت صوت الضّحك دون أيّ تعبير على وجهها، بدت كشبح.
اقتربت العجوز شانديما وهي تبحث عن ملابس في القمامة، ورفعت زاويتَي فم الفتاة بيدَيها.
«اضحكي هكذا، هكذا يا صغيرتي.»
نظرت الفتاة إلى الطّفح الأحمر على ظهر يد شانديما.
ليس هي فقط، بل كلّ الجلود مغطّاة بطفح أحمر.
كانوا يحكّون حتّى تتقشّر القشور ويسعلون سعالًا جافًا، عدا الفتاة.
كانت تعرف أنّ تسلّق الجدار مستحيل.
لذلك لم تستطع سوى مشاهدتهم يموتون واحدًا تلو الآخر.
أوّل من مات كان الجدّ جاكوب الذي شكّ أنّها شيطانة.
ثم بروت الذي كان بارعًا في بناء المأوى.
كان بروت يحبّ أن يفرك خدّ الفتاة بيده الخشنة حتّى يحمّر، ثم يتعجّب عندما يعود أبيض بلا دماء.
[قدرة خارقة رائعة.]
كان طيّبًا.
في فجر أحد الأيّام، ركض بروت نحو الجدار وضرب رأسه حتّى مات فورًا.
ربّما لم يعدّ يتحمّل.
لم يكبر طولها ولا وزنها قطّ، لكنّ قلبها صار ثقيلًا جدًّا.
اصبحت الفتاة أكثر صمتًا مع مرور الوقت.
ثمّ في يوم من الأيّام، سقط من الأنبوب الشّخص الذي كان غويل ينتظره كمخلّص حقيقيّ.
كان سولوجو يبحث عن طعام في القمامة، فرأى أحدًا ما فركع فورًا.
«صاحب السّمو!»
خرجت الفتاة بهدوء من المأوى الصّغير الذي بناه لها بروت، حيث كانت تأكل الطّحلب.
التعليقات لهذا الفصل " 131"