كان واضحًا من تعبير وجه مادي وحده أنها استعدت شظية من ذكرياتها المفقودة.
وأنّ تلك الذّكرى تتعلّق بوالد يوليكيان.
رمشت مادي ببطء، ثم اتّسعت عيناها فجأة كأنّها انتفضت مفزوعة.
«هل أنتِ بخير؟»
«لا شيء، انم بسرعة. الوقت ضيّق. يجب أن تستعيد قواك لنواصل الطّريق. الدّرب وعر.»
«لقد تذكّرتِ كلّ الطّريق الآن، أليس كذلك؟ وغير ذلك أيضًا…»
«كفّ عن هذا. سأرشدك بدقّة، يكفي هذا.»
استدارت مادي إلى الجانب وكأنّها لا تريد الكلام أكثر.
استدار يوليكيان بنفس الاتّجاه مواجهًا ظهرها.
كان ظهرها مشدودًا متصلبًا من التوتّر.
بدلًا من سؤالها عن الذّكرى، وضع يوليكيان يده على كتفها و ربتَ عليه بهدوء.
«أنتِ تكرهين النّوم على الجنب. استلقي على ظهرك واستريحي. لن أسألكِ أكثر.»
تذكّر كلامًا قالته مادي ذات مرّة.
[في البداية كانت الغرفة مكتظّة بالأطفال حتّى لم يكن هناك مكان مكان للاستلقاء. إذا استدرتُ على جنبي كانوا يسرقون مكاني فورًا، فكنتُ مضطرّة للنّوم مستقيمة تمامًا، وأعض كتفَي هكذا.]
استلقت مادي ببطء على ظهرها ونظرت إلى السّقف.
رسمة السّقف القديمة في البيت المهجور كانت تشبه تمامًا سقف العشف العشّ الذي تدرّبت فيه يومًا.
أمسك يوليكيان يدها بلطف ثم أفلتها، وتحرّك قليلًا ليمنحها مساحة ترتاح فيها.
مدّت مادي يدها وأمسكت به.
«…ابقَ بجانبي فقط. هكذا أشعر بالرّاحة.»
«حسنًا.»
عاد يوليكيان وألصق جسده بجسدها.
شعر بجسدها يرتجف قليلًا، لكنه أغمض عينَيه.
بقي مغمض العينَين، ساكنًا، حتّى هدأ ارتجافها تمامًا.
لا بأس ألا تتكلّمي.
بإمكانكِ أن تبقي كما أنتِ.
حتّى دون كلام، وصل صدق صمته إلى قلب مادي كاملًا.
لذلك قرّرت أن تُريه قعرها.
فقط عندما أصبح نفس يوليكيان المغمض العينَين منتظمًا وهادئًا، بدأت مادي تتكلّم بصوت خافت.
«أنا من أنقذت والدك هناك، لكن والدك أيضًا هو من أنقذني. لو لم يكن ذلك «العمّ»، لكنتُ بقيتُ أموت مرّات ومرات في ذلك المكان.»
تغيّر تنفّس يوليكيان.
لكنه لم يفتح عينَيه. وعرفت مادي أنّه لم ينم.
«استمع فقط.»
أمسك يوليكيان يدها اليسرى بهدوء.
اتّكأت مادي على دفء تلك اليد، وأخرجت ذكرى مدفونة في أعماقها.
* * *
كان النّاجون يسمّون المكان ساخرين «قرية القمامة»، لكنّه في الحقيقة كان أقرب إلى مكبّ نفايات عملاق.
حفرة أرضيّة غائرة في وسط سلسلة جبال شاهقة.
رائحة كريهة مريعة، وجبال من القمامة ترتفع كالأبراج.
تسعة أنابيب ضخمة بارزة من جوانب الجبال العالية التي تلمس السّماء.
كانت القمامة تسقط من تلك الأنابيب بلا موعد ولا تاريخ محدّد.
قبل أن تنتهي يان من التفكير «لماذا يقول هذا فجأة؟»، طعن لامدا صدرها بالسّكين.
لم يسعفها الوقت للصّراخ.
فُتح فم يان ببطء. انتشر الألم الحيّ من صدرها إلى كلّ جسدها.
وبسرعة أصبح وجه لامدا غارقًا في الدّموع.
«اشفي بسرعة يا يان. تعمّدتُ ألّا أصيب القلب. كان لا بدّ من هذا حتّى تندمي. لا يجوز تكرار الخطأ، أليس كذلك؟ هيّا، اشفي بسرعة.»
بكى لامدا كطفل ينتفض كتفاه.
كان يتمنّى حقًا أن تشفى يان وتعود سليمة.
أن تصبح الـ«فيركينغ» التي لا تفشل أبدًا وتبقى إلى جانبه إلى الأبد.
كان في تصرّفه منطق لا يفهمه العاديّون.
ظلّ يداعب يان النّازفة كالشّلال ويملس وجهها.
«هيّا يا يان، اشفي. تناولي هذا.»
صبّ في فمها دواء الدّكتور الذي أعدّه مسبقًا.
حبّ لامدا كان يقوّي يان.
يجعلها أقوى كي لا تفترق عنه مهما حدث.
طريقة الدّكتور نفسها: يُطرق الحديد مئات المرّات ليصبح سيفًا أسطوريًا.
بعد تناول الدّواء مباشرة، مدّت يان أطرافها وانقلبت عيناها.
«آه… آههه…!»
شعرت وكأنّ عظامها تتحطّم ثم تلتحم مجدّدًا.
احترقت أوردتها بنار، فارتجفت عيناها الخضراوان.
«يان! تمالكي نفسك! لا تفقدي الوعي!»
بعد دقائق هدأ تنفّسها.
فتح لامدا ملابسها الخارجيّة وضغط على الجرح.
«آخ…»
«آه، يبدو أنّ العظام تلتحم. لحسن الحظّ لا دماء جديدة.»
احتضنها لامدا بسعادة حقيقيّة.
«كنتُ أثق أنّكِ ستنجحين. كنتُ أعرف أنّكِ لن تفارقي جانبي. لستِ من تُرمى بسبب شيء تافه، أليس كذلك؟»
رفعت يان عينَيها الغائمَين نحو ابتسامة لامدا المشرقة المبلّلة بالدّموع.
كانتا مملوءتَين حبًا.
كان لامدا الإنسان الوحيد الذي يحبّ يان ويُقدّرها.
لكنّه أيضًا الكلب الوحيد الذي يؤذيها.
عندما استعادت يان وعيها، قالت للامدا.
«في الحقيقة… متُّ للحظة ثم عدتُ للحياة.»
«ماذا؟»
«نزفتُ كثيرًا، ولم يكن جسدي قادرًا على تحمّل الدّواء الذي أعطيتني. توقّف نفسي. لكنّني عدتُ للحظة قبل الموت مباشرة. جسدي لا يستطيع الموت. هذه المرّة تغلّبت على الدّواء، لذلك أنا الآن حيّة. حدث هذا عدّة مرّات.»
ابتسم لامدا ابتسامة رقيقة ومسح شعر يان المبلّل بالدّماء.
«لعلّكِ أغمي عليكِ من الألم ثم استيقظتِ.»
توقّعت أنّه لن يصدّقها.
حتّى هي نفسها كانت تجد صعوبة في تصديق أنّها تعيد الزّمن لتعيش مجدّدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 129"