عندما تجاوزنا حقل الحصى، ظهرت قريةٌ تبدو كأنّها أطلال.
هبّت ريحٌ جافّة تقطّع الجلد مرورًا، وبدت البيوت عند مدخل القرية وكأنّ أحدًا لم يسكنها منذ زمن.
نوافذ مكسورة هنا وهناك، وأبواب سقطت من مكانها في بعض البيوت.
جئنا بلا خريطة، لكن يوليكيان تذكّر اسم المكان بسهولة.
«رامسبيرغ…»
«أوه، تعرفه؟ إنّه مكان بعيد جدًا عن موطنك.»
مشَت مادي بثقة بين الشّوارع الفارغة وكأنّها تعرف الطريق جيّدًا.
كانت خصلات شعرها البنّيّ المجعّد تنطّ إلى اليمين واليسار مع كلّ خطوة.
حاول يوليكيان أن يتخيّل هذا الشّعر الطّويل الكثيف وهو ينتشر كشعر وحشٍ متشابك في كلّ الاتّجاهات، لكنّه لم يستطع.
كذلك لم يستطع تخيّل وجه مادي الحجريّ الذي لا يبتسم ولا ينطق بكلمة.
رامسبيرغ هي المكان الذي تحدّثت عنه مادي ذات مرّة بأنّها عملت في مزرعته قبل أكثر من عشر سنوات.
لولا حديثه مع نوكس قبل فترة، لما عرف يوليكيان بهذا المكان طوال حياته.
تذكّر كلمات أصحاب المزارع التي دونها نوكس في دفتر ملاحظاته عن مادي.
[في البداية ظننتُ أنّ خنزيرًا برّيًّا اقتحم المكان. كسرت المخزن ولم تكتفِ بذلك، بل فتحت صناديق الطّعام بيدَيها العاريتَين وأكلت البطاطس والذرة والبطاطا الحلوة نيّئة.]
[كان شكلها الخارجيّ لا يختلف عن الوحش. لم أكن أعرف حتّى أنّها فتاة.]
هل استعادت مادي ذكرياتها منذ عشر سنوات حين كانت «لا تختلف عن وحش»؟
كيف وصلت إلى هذا المكان بهيئة كهذه يومًا؟
يعرف أنّها تدرّبت كسلاح قاتل معرضًا لكلّ أنواع السّموم والعقاقير، لكنّه لا يزال لا يعرف لماذا تُركت وحدها.
كانت موهوبة إلى حدّ منافسة لامدا… فلماذا هي فقط…
سأل يوليكيان ظهر مادي وهي تدخل بيتًا فارغًا دون تردّد.
«مادي، هل استعادتِ كلّ ذكرياتك؟»
رغم أنّ السّؤال جاء مفاجئًا بلا مقدّمات، أجابت مادي دون تردّد.
«نعم، تقريبًا.»
«هل يؤلمكِ؟»
فتحت مادي كلّ الأبواب لتتفقّدها وقالت بلا مبالاة.
«ما الذي سيؤلمني؟ حياة النّاس كلّها متشابهة. لا قبر بلا قصّة، ولا متشرّد بلا ماضٍ مجيد، ولا حياة بلا ظلّ، أليس كذلك يا حبيبي؟»
كان أسلوبها مريحًا وكأنّها تغنّي أغنية.
دخلت مادي غرفة صغيرة، أخرجت غطاءً من سرير محطّم، وفرشته على الأرض.
«ماذا تفعلين؟»
«سأنام قليلًا.»
«تنامين؟»
«لمَ التّعجّب؟ أنت من ستنام. لم تنم سوى غفوات قصيرة في القطار أكثر من يومَين.»
«لا، ليس هذا… تقصدين أنّني سأنام وحدي؟ وأنتِ؟»
«أنا نمتُ في القطار.»
«أنا أيضًا نمتُ في القطار.»
«أنت نمتَ ثلاث ساعات فقط في يومَين.»
«وأنتِ بالتّأكيد نمتِ أقلّ مني، كنتِ مستيقظة طوال الوقت من وجهة نظري.»
«لديّ بضع ساعات فراغ، لذلك أقول لك انم. اغتنم الوقت ونم.»
«من قال إنّني لا أريد النّوم؟ هيّا ننام معًا.»
«ما بك حقًا؟ استمع إليّ بأدب قليلًا. سنتعب أكثر فيما بعد ولن نستطيع النّوم أبدًا. سنذهب إلى أماكن أقسى من هنا.»
«سأذهب وحدي إذًا؟ لن تذهبي معي؟ لماذا لا ترتاحين أنتِ؟»
«لأنّني لا أموت إن لم أنم! ولأنّ لديّ عمل أقوم به بينما تنام أنت.»
«نامي معي، نرتاح معًا ونتحرّك معًا.»
«أنت تترنّح عندما تمشي، خطواتك تضيّقت، كلامك صار أبطأ بوضوح، تغضب بسرعة أكبر من المعتاد، وعروق عينَيكِ حمراء. لا أستطيع العمل مع شريك لا يتحرّك بصورة سليمة.»
كانت عيناها كما في ذلك اليوم الذي مزّقت فيه ملابسه وقالت كلامًا متناقضًا.
عينان تتوقان وتتوسّلان إلى شيء ما.
اقترب يوليكيان منها دون شعور.
«أعرف أنّكِ ستعودين، أثق بكِ. لكنّني ببساطة أكره أن أبقى وحدي. أنا جبان، أتعرفين ذلك، أليس كذلك؟»
أمسك يوليكيان معصم مادي برفق.
رخّت مادي قبضتها التي كانت مشدودة كأنّها ستنفجر، وعادت عيناها اللتَان كانتا تنظران إلى ما وراء الجدار إلى طبيعتهما.
«…حسنًا، سأتمدّد معك. لكنّني لن أنام. يجب أن يبقى أحدنا يقظًا للحراسة.»
«حسنًا، تمدّدي على الأقلّ.»
استلقى يوليكيان على الغطاء الذي يفوح منه رائحة التّراب، ولم يدرك إلّا بعد أن استلقت مادي بجانبه ووضعت رأسها إلى جانبه.
هذه أوّل مرّة يتمدّدان جنبًا إلى جنب دون أيّ غرض غريب.
أوّل مرّة يستريحان معًا بهذا الشّكل، بلا هدف سوى الرّاحة.
عندما اتّسعت عينا يوليكيان كمن اكتشف شيئًا، نظرت إليه مادي من الجانب وعبست.
«قلتُ لك انم.»
«لماذا تتحدّثين عن قلقك عليّ وكأنّك أمّ تنهر طفلًا تأخّر عن النّوم لأنّ عليه الذّهاب إلى المدرسة غدًا؟»
«ما الذي تقوله حقًا؟»
رغم التّأنيب، ضحكت مادي بصوت خافت.
«سأعدّ إلى ثلاثة: واحد، اثنان…»
لو لم يكن هذا الطّريق لإنقاذ أستريد المخطوف.
لو التقينا بصورة عاديّة، أحببنا بعضنا بصورة عاديّة، تبادلنا المشاعر كأيّ شخصَين عاديَّين، وتزوّجنا، وخرجنا في شهر عسل عاديّ… كيف كان سيكون الحال؟
لضحكنا بارتياح لهذه النّكات التّافهة.
لما اضطررنا إلى دفن كلّ شيء تحت الضّحك كما نفعل الآن، بل كنّا سنعيش… بصورة عاديّة مثل الآخرين.
اشتاق إلى أستريد.
كم يشتاق ذلك الطّفل إلى «العاديّ» أيضًا؟
قالت إنّ الأشهر القليلة الماضية كانت أسعد أيّام حياتها. أراد أن يجعل الأيّام القادمة لأستريد أجمل.
«خــالــي!»
[أستريد، لماذا تكتبها هكذا عمدًا؟]
كانت مادي تقول إنّ خال يحبّ عندما يتكلّم بلكنة طفوليّة ودلّع.
[معلومة خاطئة.]
شطب أستريد كلمة «خــالــي» بخطّ أسود غليظ، ثم كتبتها صحيحة: «خالي».
خالي، أنا سعيد الآن.
احتضنه يوليكيان بضحكة صغيرة.
[وأنا أصبح سعيدًا عندما أراك.]
تذكّر وجه الطفل الصّافي وهو يبتسم بابتسامة واسعة.
أستريد العزيز.
ثقل قلب يوليكيان بأفكار أستريد، فأغمض عينَيه لكنّه لم يستطع النّوم بسهولة.
بدت مادي قد لاحظت تنفّسه غير المنتظم.
سألته مادي بهدوء وصوت منخفض.
«لا يأتيك النّوم؟»
«…أجل.»
«هل تريد أغنية تهليل؟»
«…هل تعرفين أغنية تهليل أصلًا؟»
«عادة يتعجّبون من عرضي بغناء أغنية تهليل. كنتُ مبدعة هذه المرّة يا حبيبي.»
«عادة؟ إذًا غنّيتها لرجل آخر من قبل؟»
«عندما تعمل في الخارج، تلتقى بأنواع مختلفة من النّاس لأغراض تجاريّة. ماذا تعرف أنت الذي كنت تدير شؤون القصر والإقليم من الدّاخل فقط؟!»
ضحكا معًا بصوت عالٍ في الوقت ذاته.
كان بعد ظهر يتطاير فيه الغبار الأبيض كندف الثّلج عبر النّوافذ المكسورة تحت ضوء الشّمس.
«حسنًا، انم الآن بجديّة.»
«موافق، غنّي لي أغنية التّهليل.»
«ألم تقل إنّك لا تريد؟»
«متى قلتُ ذلك؟ غِرتُ قليلًا فقط.»
زفرت مادي من أنفها، دفعته بمرفقها في جنبه، ثم بدأت تغنّي بصوت أنفي.
بينما يستمع يوليكيان إلى نغمها بلا كلمات، أغمض عينَيه مجدّدًا.
شعر وكأنّ النّغمة مألوفة جدًّا، كأنّه سمعها منذ زمن بعيد جدًّا.
تسلّل شعور بالشّوق، فحتّى في هذا الوضع الخطير شعر أنّه سيحلم حلمًا جميلًا.
ثم بدأت مادي تغنّي كلمات فعليّة.
«حان اللّيل يا صغيري، حان وقت النّوم. نامت الأزهار ونام الأشجار كلّها. غطّت الشّمس ستارها، فحان وقت النّوم. نلتقي في الحلم يا صغيري، نلعب معًا في الحلم أيضًا. نركب الأرجوحة على الشّجرة الكبيرة في الفناء الخلفيّ.»
فتح يوليكيان عينَيه وأدار رأسه نحوها.
كانت مادي مغمضة العينَين، تغنّي بهدوء وكأنّها تمشي في حلم.
«غطّى ستار اللّيل يا صغيري، حان وقت النّوم. نلعب غدًا أيضًا يا صغيري. نلتقي عند طلوع الشّمس يا صغيري. نقطف الحشائش ونقاتل بالسّيوف، ونخطّ على التماثيل في الفناء الأماميّ.»
كانت الكلمات في النّصف الثّاني من الأغنية عنيفة قليلًا لتهليلة، لكنّ النّغمة بقيت بسيطة.
أكملت مادي الأغنية ثم استمرّت في التّغنّي بصوت أنفي، مغمضة العينَين بسعادة.
عندها فتح يوليكيان فمه وانساب منه ذات النّغمة.
«يحرسنا القمر يا صغيري، حان وقت النّوم. نمْ بخير يا صغيري، نام عميقًا. نلتقي غدًا وبعد غدٍ وكلّ يوم.»
كلّما اقتربت الأغنية من نهايتها، خفت صوت يوليكيان أكثر.
فتحت مادي عينَيها حالما بدأ هو الغناء ونظرت إليه.
انتهت أغنيته.
بقيا مضطجعَين قريبَين حتّى يشعران بأنفاس بعضهما، ينظران إلى بعضهما دون كلام لوقت طويل.
كسرت مادي الصّمت أولًا.
«أوّل مرّة أرى شخصًا يعرف هذه الأغنية. هي أغنية تهليلي السّريّة.»
احمرّت عينا يوليكيان.
«…وضعت أمّي اللّحن وكتب أبي الكلمات. كانت أمّي دائمًا تؤنّب أبي: لماذا يضع كلمة «نلعب» لطفل لا يريد النّوم أصلًا؟ رغم ذلك… كنت أحبّ النّوم على هذه الأغنية أكثر من غيرها. كان أبي هو من ينامني غالبًا… وكان يغيّر الكلمات سرًا عن أمّي ويغنّي لي.»
بلّلت الدّموع عينَي يوليكيان.
«حتّى لو لم تشرق الشّمس، نلتقي يا صغيري.»
ارتجفت عينا مادي الخضراوان. فتحت شفتَيها ببطء وأكملت الكلمات دون شعور.
«إن هطلت الأمطار ننزلق على المنحدرات، وإن ثلجت نبني رجل ثلج كبير.»
ابتسم يوليكيان ابتسامة خفيفة وأغمض عينَيه.
«كنتِ في الحلم الذي رسمه أبي أيضًا.»
تذكّرت مادي وجه رجل يشبه يوليكيان تمامًا وهو يبتسم ابتسامة خفيفة. بالضّبط تلك اللّحظة التي التقت فيها بـ«أيّها العمّ» لأوّل مرّة.
سقط «العمّ» من أنبوب عملاق في السّماء إلى قرية القمامة.
التعليقات لهذا الفصل " 128"