الفصل 127
نزل يوليكيان الدّرج متعثرًا وهو يرتدي فستانًا أخضر فاتحًا مكشكشًا ترفرف كشاكشه، وحذاءً بكعب عالٍ.
كانت خطواته مختلفة تمامًا عن مشية مادي الطّبيعيّة وهي ترتدي زيّ الخادمة.
لم يستطع يوليكيان المشي بسرعة، بل كان يترنّح.
راقبته مادي بهدوء وهي تتّجه نحو الباب الخلفيّ، ثم وقفت أمام المنضدة.
«أيّها العمّ، ما زلتَ متعلّقًا بالحياة كثيرًا، أليس كذلك؟ لديك دَين يجب أن تسدّه لي أيضًا.»
«لماذا تجعلين طلب التّظاهر بأنّكِ لا تعرفين شيئًا يبدو مخيفًا إلى هذا الحدّ؟ لكن ألم تأتي مع رجلٍ منذ قليل؟ لا تقلي لي إنّه…»
لفّت مادي جسدها بطريقةٍ مغرية وقدّمت القطع الذّهبيّة من صدرها إلى صاحب النزل بهدوء.
«إيييه، ذاك زوجي.»
تنهّد صاحب النزل بعمق وهو يأخذ الذّهب.
«لديكِ ذوقٌ غريب حقًا. ظننتُ أنّ هناك عيبًا ما لأنّكِ لم تتزوّجي حتّى بعد سنّ الزواج، لكن تبيّن أنّ العيب في رأسك.»
«لو كان الزوج بهذا الشّكل عادةً لشكّ النّاس في عقل الزوج، فلماذا يوجّهون الشّكّ إليّ أنا؟»
«هل تظنّين أنّ ذلك الرّجل يحبّ أن يتزوّجكِ ويمشي بهذا الشّكل؟ لا بدّ أنّ له قصّة حزينة.»
دارت مادي بحدقتَيها دورةً كاملة وهي تُعيد كلام صاحب النزل في رأسها.
‘قصّة حزينة؟
نعم، لديه. موت عائلته بأكملها ليس أمرًا عاديّ الحزن.
تزوّجني بسبب ذلك بالضّبط، إذًا هذا العجوز محقّ. لا يبدو كلامه خاطئًا تمامًا.’
هزّت مادي رأسها هزّة قصيرة، ثم ضربت المنضدة بقبضتها ضربة خفيفة وأومأت بعينيها.
«على أيّ حال، أغلق فمك جيّدًا، مفهوم؟ أرجوك.»
«آخ، حسنًا حسنًا، اخرجي بسرعة.»
رمشت مادي برموشها بغمزة تبدو وكأنّ رموشها ستتساقط، فلوّح لها صاحب النزل بيديه مقرفًا.
التفت يوليكيان بحذر عندما لم يتبعه أحد، وأحنَى رأسه قليلًا إلى الخلف.
بسبب غطاء الرّأس الأبيض المكشكش المتدلّي لم يظهر وجهه بوضوح، لكنّه بدا وكأنّه يحدّق في مادي.
هزّت مادي كتفَيها بطريقةٍ مزعجة متعمّدة وهي تُظهر دلالًا مبالغًا فيه.
«آسفة يا آنستي. تأخّرتُ قليلًا لأنّني أحاسب تكلفة المبيت. هذا العجوز يطالبني بأجرة ليلة كاملة مع أنّنا لم نرتح حتّى بضع ساعات. يبدو أنّه لا يوجد هنا إيجار بالسّاعة أصلًا~»
ضرب يوليكيان الأرض بقدمه بقوة، ثم رفع إصبع سبّابته الكبيرة ووضعه على شفتَيه.
كان إشارة «اصمتي»، لكن بسبب حجمه المخيف بدا وكأنّه «اخرسي فورًا».
«سألحق بكِ حالا يا آنستي!»
غطّى يوليكيان الشّقراء الضّخمة رأسه بغطاء القبعة بعمق بكلتا يدَيه، ثم انكمش جسده.
ركضت خادمة الضّفيرتَين الشّقيّة نحوه وهي ترفع قدمَيها عاليًا في قفزات مرحة.
«هذا الفتى عادةً ليس بهذا السّوء… هل يعجبه ذلك الرّجل إلى هذا الحدّ؟»
نظراً إلى ظهر مادي التي بدت أكثر حماسة من المعتاد، تساءل صاحب النزل: هل هذه حقًا «شهر عسل حقيقي»؟
هزّ رأسه متعجبًا ثم هزه نفيًا في النّهاية.
مهما أحبّت مادي أحدًا، فإنّ أفضل طريقة لردّ الجميل هي أن يبقى فمه مغلقًا ويتظاهر بأنّه لا يعرف شيئًا.
«تقول إنّه لا داعي لدفع المال، ثم تُلِحّ على دفعه دائمًا.»
لفّ صاحب النزل القطعة الذّهبيّة التي تركتها مادي دورةً في كفه، ثم ألقاها في حصّالة التوفير.
فكّر أن يعطيها مصروفًا عندما تأتي ابنته مع أحفاده في العطلة.
قبل بضعة أشهر، جاءت مادي تطلب غرفة واحدة.
ظنّ أنّها تريد أن يبقيها فارغة لتستخدمها متى شاءت، لكن لم يكن الأمر كذلك.
كانت مادي كمن يتوقّع أن يُطارَد، فأرسلت طلبًا غريبًا.
أن يبقي غرفة الطّابق العلوي المطلّة جيّدًا على الخارج دائمًا وكأنّ أحدهم يعيش فيها.
بحيث حتّى لو جاء أحد يفتّش، لا يجد بسهولة أثر الشّخص الذي أقام فيها.
لم يكن الأمر صعبًا على صاحب النزل.
لم تطلب مادي ذلك مجّانًا، وفوق ذلك فهي من وجدت ابنته المفقودة قبل سنوات، فصارت مُنقذة حياته مدى العمر.
حتّى الآن لم ينسَ شعوره لحظة لقائه بابنته التي استعادها بعد سنين.
الآن ابنته متزوّجة ولديها طفل وتعيش بسعادة.
كلّ ذلك بفضل مادي.
في تلك اللّيلة التي كان على وشك التّخلّي عن البحث عن ابنته، انهار في زقاق، فقالت له فتاة شابّة فجأة:
«أيّها العمّ، فقدتَ عائلتك؟ أنا بالأصل لا أملك واحدة.»
عندما غضب وقال «ما هذا الهراء»، جلست الفتاة أمامه وقبضت على فكه بقوّة مخيفة.
لم يكن في عينَيها الهادئتَين الباردتَين ولا في نبرتها أدنى ذرّة تعاطف.
[هل بحثتَ حقًا حتّى أعماق القاع تمامًا؟
هل حفرتَ الأرض بأظافرك حتّى تسقط لتجد جثّة ابنتك ؟]
لو سخرت منه لثارت ثائرته، لكنّها سألت بصدق وفضول حقيقيّين.
أمام صوتها الهادئ المُسطّح انفجر بالبكاء.
أومأ صاحب النزل وهو ينشج، يسكب الدّموع والمخاط وهو يروي.
لقد بحث في المكان الذي فُقدت فيه، والقرى المجاورة، ودور الرّعاية، وأوكار المتشرّدين، وحتّى بيوت الدّعارة ومشارح الموتى.
رغم ذلك لم يجدها.
استمعت الفتاة الشّابة إلى كلّ شيء، ثم سألت مجدّدًا.
[هل تريدني أن أبحث عنها؟ قد لا تكون ما رأيته أنت القاع الحقيقيّ بعد.]
سخر صاحب النزل السّكير وقال: إن استطعتِ فابحثي، سأعطيكِ حتّى روحي إن وجدتِها.
عبست الفتاة وقالت:
[الرّوح لا تُباع ولا تُشترى فلا أريدها، لكن سأطلب منك طلبًا لاحقًا. إن رفضتَ تموت.]
عندما عادت فعلًا بابنته، ظنّ أنّها قد تكون
شيطانة.
خاف قليلًا أن تأخذ ابنته أو روحه لاحقًا مقابل تحقيق الأمنية.
لذلك عندما كانت مادي تأتي بالخمر وتقول
«هيّا نشرب سويًّا»، كان يرشّ الماء المقدّس سرًا على رأسها.
فكانت مادي —بعد أن تشرب جيّدًا— تصفع خده بالكأس غضبًا وتقول: لماذا ترشّ الماء على النّاس؟
لحسن الحظّ لم تكن شيطانة.
أو ربّما شيطانة لا تتأثّر بالماء المقدّس.
أو ربّما ملاك تم أرساله .
على أيّ حال، وجهها ليس وجه ملاك.
تذكّر صاحب النزل وجه مادي وظنّ أنّها ملاك، ثم تذكّر الكدمة التي تركتها صفعة الكأس على خدّه.
ربّما هي شيطانة حقًا.
على كلّ حال، بفضلها استطاع أن يبقى هادئًا حتّى وسط الضّجة التي أحدثها الباحثون عن شخص ما في القرية.
من بعيد بدأ يُسمع صوت حوافر الخيل وصياح الرّجال.
لم يكن صوت حافرَين أو ثلاثة، بل عشرات تفتّش القرية كلّها.
سرعان ما امتلأت القرية بالضّوضاء وأضيئت بأنوار برتقاليّة من المشاعل.
بعد قليل، جاء رجل ذو عينَين حادّتَين يسأل صاحب النزل عن امرأة يُعتقال إنّها مادي ورجل فضّيّ الشّعر جاء معها.
«هل رأيتَ رجلًا فضّيّ الشّعر في منتصف العشرينيات وامرأة شعرها بنّيّ وعيناها خضراوان؟»
لكنّه لم يخف أبدًا.
مقارنةً بسنوات عاشها وقد اقتُلع قلبه بعد فقدان ابنته، فإنّ سكّين على رقبته ليس شيئًا.
«لا أعرف! لم ارى أحدًا!»
تمسّك صاحب النزل بالإنكار.
كان أكثر رعبًا من السّكين عينا الرّجل الحمراوان المتوهّجتان بين خصلات شعره الأسود المبلّلة بالعرق.
لم يتمنَّ إلّا أن تبقى تلك الشيطانة ذات الوجه الملاكيّ التي أنقذته من الجحيم سالمة.
وألّا تعود أبدًا لتدوس قاع العالم مجدّدًا.
لكن على عكس أمنية عجوزٍ كهل، كانت مادي عائدةً إلى القاع مرّة أخرى.
* * *
مجرد ركوب قطارَين وتغييرهما أنهك تمامًا، ثم قفزنا من القطار وهو يسير أيضًا.
كدتُ أختنق من المشدّ الضّيّق، لكن عند القفز فكّرتُ أنّ المشدّ على الأقلّ سيحمي أضلاعي من الكسر.
بينما خرجنا من بين الحصى، خلعتُ مادي ملابسها واحدًا تلو الآخر، وفكّ يوليكيان أزرار الفستان بنفسه بسرعة.
كان في الفستان أزرارٌ كثيرة جدًا.
فغرت مادي أصابعها على وسعهما، نظرت إلى يوليكيان من بينها وصرخت متظاهرةً بالدّهشة.
«يا إلهي يا آنستي! تخلعين ملابسكِ في طريق مكشوفة هكذا؟!»
نزع يوليكيان الباروكة بعنف وكأنّه يقلع عشبًا.
«فكّرتُ في الأمر، من الغباء أن أبقى بهذا الفستان بينما تغيّرين أنتِ أنتِ ملابسك عدّة مرّات.»
«اكتشفتَ ذلك الآن فقط؟»
قبض يوليكيان على المشدّ المزعج بكلتا يدَيه ومزّقه نصفَين.
أخيرًا استنشق الهواء بملء رئتَيه، فشعر بشيء حلو جدًّا.
انتعشت روحه.
التقطت مادي البنطال الذي كانت ترتديه حتّى ذلك الحين. بدا أنّه سيفي بالغرض.
الحقيبة التي حملناها عند تغيير القطارَين تُركت في مكان ما بالفعل.
إن كان الأمر كذلك فلماذا ألحّت عليّ بحمل الحقيبة أصلًا؟ حتّى ذلك كان تمثيلًا.
«ألا تُعطيني ظهرك؟! ستشاهد حتّى وأنا أرتدي البنطال؟»
أجابته مادي ببرود: «أنا من خلعتك إيّاه بنفسي، فمشاهدتك وأنت ترتديه لن تكون مشكلة أيضًا، أليس كذلك؟»
لم يتحمّل يوليكيان فالتقط حصاة ورماها على مادي.
لم يكن يظنّ في حياته أنّه سيرمي أحدًا بالحجارة يومًا.
ضحكت مادي بصوت عالٍ وتفادت الحصاة بسهولة ثم أدارت ظهرها.
عندما انتهى يوليكيان من ارتداء البنطال الرّثّ والقميص الذي رمته مادي، اكتشف أنّ مادي جالسة على الحصى ترتدي قميصًا نظيفًا أنيقًا أخرجته بهدوء من حقيبة ملابس سرقتها من القطار قبل نزولنا.
«ضرب النّاس من الغدر… هل هذه عادة لديكِ؟»
«آخ، لهذا السبب لم أستطع التّخلّص منها أبدًا!»
شعر يوليكيان أنّه إن كان هناك شخص مزعج إلى هذا الحدّ، فقد يموت المحيطون به غيظًا فعلًا.
التعليقات لهذا الفصل " 127"