الفصل 103
ترك يوليكيان القصر الإمبراطوري وعربته تتّجه إلى مكان آخر.
داخل العربة وهي تركض، واستعاد يوليكيان ببطء كلّ ما حدث منذ لقائه الأوّل بمادي حتى هذا اليوم.
كذبة، كذبة، كذبة.
وبينها ضحكات مادي الكثيفة المتسلّلة.
ما إن فكّر فيها حتى ارتسمت ابتسامة على شفتيه مجدّدًا.
مادي التي تنظر إليه بعينين نصف مفتوحتين بفتور، وتطعنه عمدًا بكلمات قاسية كالسكّين.
كلّ هذا لأنّه أحبّها من طرفه بينما هي لم تفعل سوى تنفيذ العقد بحذافيره.
لم يمرّ سوى بضعة أسابيع، لكنّها تبدو كأنّها زمن بعيد جدًّا.
تتبّع يوليكيان صوت حوافر الخيل وهو يستعيد صور مادي.
آخر صورة كانت وجهها وهي تبكي بحرقة أمام صورة والده المرسومة في هامش الرسالة.
«وجه ذلك العم المبتسم موجود هنا فقط… في زاوية رأسي هذه.»
والده بالتأكيد التقى مادي قبل موته.
والآن…
مادي حيّة، ووالده ميت.
قرّر يوليكيان أن يصدّق من كلّ ما قالته مادي تلك الليلة جملة واحدة فقط: أنّها لم تقتل والده.
إذًا فإنّ بقاء مادي الوحيدة حيّة يعني أنّ والده حماها.
مادي هي آخر حياة حماها والده.
«صاحب السموّ الاكبر! وصلنا.»
خرج يوليكيان من العربة التي فتحها له السائق وتنشّق هواءً منعشًا.
صعد تلّة صغيرة، فاستقبله شاهدا قبر والدته ووالده جنبًا إلى جنب.
وقف أمامهما ونظر إليهما بهدوء.
«جئتُ فجأة دون أن أحضر ولو زهرة واحدة، أعتذر.»
مرّ نسيم ناعم يلتفّ حول كاحليه.
«ربّما تعلمان بالفعل، لكنّني أحببتُ شخصًا.
سنتزوّج الأسبوع القادم.»
شعر يوليكيان بالسخافة وهو يبلغهما بالخبر بهذا الشكل بعد أن حدّد التاريخ وبدأ التحضيرات، فضحك لنفسه.
«يبدو أنّني أصبحتُ أشبهها في فعل الأمور أوّلًا ثم إخبار الآخرين.»
جلس على ركبتيه على العشب وبدأ يقلع الأعشاب الضارّة التي نبتت حول الشاهدين.
«أبي يعرفها بالفعل. وأمّي لو رأتها لأعطتها الإذن حتماً. إنّها شخص محبوب جدًّا.
آه… لكنّها لم تعطني بعد إذن الزواج.
سنتزوّج… لأنّنا اتّفقنا على ذلك.»
احرج يوليكيان من كلامه ومسح خدّيه المحمّرين.
«اتّفقنا على ثلاث سنوات زواج، لكنّني أنوي أن أمسك بها قبل أن تنتهي المدّة. حينها لن يكون هناك من يعترض طريقي… ولا طريقها.»
مسح الغبار عن شاهدي والديه ثم وقف.
«سأبقى إلى جانب الشخص الذي حماه أبي حتى النهاية.»
لا يعرف بالضبط متى، لكن والده بالتأكيد بذل جهده لحماية مادي.
كان والده لا يعتبر دمه النبيل أمرًا مفروغًا منه، بل يراه حظًّا يجب مشاركته.
لا يزال يوليكيان يتذكّر بوضوح تعليمه: حماية شعب الإمبراطورية واجب طبيعي.
«عليك مسؤولية حمل هذا البلد. واجب عليك حماية الآخرين ومشاركتهم السعادة.»
تصلّبت عزيمة صلبة في عيني يوليكيان الزرقاوين.
«قلتُ للتوّ في وجه الإمبراطور إنّني أتخلّى عن حقّ وراثة العرش. لن أستطيع أن أرث إرادة أبي الذي أراد نشر السعادة لكلّ شعب الإمبراطورية.»
«كلّ الأرواح لها الوزن ذاته، يولي.»
«لكنّني، يا أبي، حين عشتُ… اكتشفتُ شيئًا.»
زفر يوليكيان تنهيدة ثقيلة تحمل مسؤولية تكاد تسحق صدره وأكمل.
«هناك روح ثقيلة بشكل خاص.
روح حميتَها أنت، وأصبحت الآن بمنزلة روحي أنا.»
هبّت ريح فاهتزّت أطراف معطفه، لكن يوليكيان ظلّ جامدًا وقبضته مشدودة.
«سأحملها هي فقط.»
انتهى يوليكيان من كلّ ما أراد قوله، استدار وعاد إلى العربة.
«اذهب إلى دور الأيتام.»
«أيّ دار أيتام تحديدًا؟»
«كلّ دور الأيتام داخل إقطاعيّتي.»
«…نعم؟»
منذ أن حصل على لقب الأرشيدوق ركّز على مشاريع الرفاهية.
دعم كلّ دار أيتام في إقطاعيّته، ولم تبقَ دار لم تصلها يده.
ربّما يجد معلومات لم يستطع نوكس الوصول إليها.
لا يريد أن يستخدم الدعم المالي للتهديد بطريقة وضيعة، لكن الشعور الذي حمله للمرّة الأولى في قلبه كان أثقل ممّا توقّع.
أمّا آراء الناس ونميمتهم بعد ذلك فبإمكانه تجاهلها كيفما شاء.
صعد يوليكيان العربة وأغلق الباب.
سيرسل أحدًا في الطريق ليبلغ القصر أنّه لن يعود الليلة.
كان السائق يداعب الخيول ويفكّر.
اليوم عمل كثير، هل سيعطيني صاحب السموّ معطفه؟
إذا سافرنا بعيدًا هل سنلعب الورق حتى الصباح؟
إذا شرب كثيرًا سأتعب غدًا وأنا أقود… يجب أن أطلب منه أن يشرب باعتدال…
ثم انتفض فجأة.
كلّ هذا بسبب مادي.
صاحب السموّ لن يعطي معطفه كبقشيش، ولن يلعب الورق سرًّا حتى الفجر،
ولن يشرب الخمر مطلقًا واضعًا قواعد مضحكة مثل «من يصدر صوتًا يدفع ».
شعر السائق فجأة أنّ الليلة التي لن يقضيها في القصر ستكون مملّة جدًّا.
«كان الأحسن أن أترك المتدرّب يخدم صاحب السموّ وأبقى أنا في القصر ألعب مع مادي…»
«قلتَ شيئًا؟»
«لا شيء! هيا!»
تظاهر السائق تشاك أنّه لم يسمع الصوت من داخل العربة وزاد السرعة.
هدفه أن يزور كلّ دور الأيتام في الإقطاعيّة ويعود إلى القصر قبل حلول الليل.
صاحب السموّ لا يعلم، لكن منذ مجيء مادي تقام في القصر حفلة سرّية تقريبًا كلّ ليلة.
«لا أحد يستمتع بدوني!»
انطلقت عربة تشاك كمجنونة تثير الغبار.
لم يفهم يوليكيان السبب فرفع مؤخّرته نصف رفعة وتشبّث بجانبي العربة.
«تشاك! أليست السرعة زائدة؟!»
«أليس الأمر عاجلًا؟! مادي الحبيبة تنتظر في القصر، يجب أن ننتهي ونعود قبل أن يحلّ الليل!»
«حـ، حسنًا… هذا صحيح.»
فتح يوليكيان النافذة الموصولة بمقعد السائق قليلًا.
كان تشاك واقفًا تمامًا يمسك اللجام بكلتا يديه ويقود بحماس جنوني.
«هيّا! اركضي! هيا! أسرعي! يااه!»
كأنّهما في سباق.
لم يستطع يوليكيان ولا تشاك أن يلصقا مؤخّرتهما بالمقعد.
ركضت العربة ذات الأربعة خيول كأنّها تنزلق تثير سحابة غبار.
***
تلقّت نينا رسالة تفيد بأنّ والديها انطلقا في السفر، فلم تستطع النوم من شدّة الفرح.
صديقتها الأولى في الحياة ستتزوّج.
أخيرًا ستحضر حفل زفاف صديقة مثل بقيّة الفتيات في سنّها.
وربّما تكون الصديقة المقرّبة التي تزيّن الحفل.
خلال الأيّام القليلة التي قضتها في قصر الأرشيدوق لم تزر مادي أيّ صديق، إذًا مادي أيضًا بلا أصدقاء قطعًا.
كيف لشخص بهذا الإشراق واللطف والتفهّم أن لا يكون لها أصدقاء؟ لا أفهم.
كانت تتطلّع قليلًا إلى أن تمسك باقة العروس التي سترميها مادي.
إذا أمسكتها من مادي، ستبدأ رحلة البحث عن زوج.
وجدت صديقة، والآن تريد أن تحبّ وتُحب.
سيظهر شخص يفهمها بالتأكيد، كما قال والدها.
فكّرت في ذلك فضرب قلبها بقوّة أكبر.
قالت أمّها إنّ الصديقة هي من تشاركك الفرح، ومع مادي كلّ لحظة ممتعة.
مادي أفضل صديقة.
حتى لو لم يكن هناك من أقارنها بها.
مجرّد النظر إليها ممتع، لذا هي الأفضل بين كلّ من قابلتهم حتى الآن.
لم تستطع نينا كبح نبضات قلبها فنهضت.
أرادت أن تسهر مع صديقتها تتسامر طوال الليل لأوّل مرّة.
ربّما بعد الزواج لن تستطيع قضاء الليالي مع مادي بسهولة.
خرجت من سريرها وتوجّهت إلى غرفة مادي.
«الليل… يجب أن أمشي بهدوء.»
لكن كلّما اقتربت من غرفة مادي سمعت صوت رجل غريب يتحدّث.
«لا، أقسم لكِ! أنا حصلت على وظيفة! أليس الأمر عجيبًا؟ أختي… بالطبع لم أكره العمل معكِ، ممتع جدًّا، لكن هذا… أختي؟ ما بك؟ هل هناك شيء؟»
توقّف صوت الشاب فجأة بعد أن كان يتحدّث لوحده.
صوت رجل غريب في غرفة مادي عشيّة زفافها؟
فتحت نينا الباب دون تردّد.
«مادي. الخيانة خيانة للطرف الآخر.»
«آه، نينا أنتِ.»
لوّحت مادي لنينا بقلم حبر أبدي مفتوح الغطاء.
ظنّتها تكتب، لكن الوضعية تبدو وكأنّها تستعدّ لرميه.
«هل كنتِ سترمينه عليّ؟»
«أجل، ظننتكِ لصّة. لكن حين رأيتكِ لم أرمِ.»
«الحمد لله. قراركِ سريع يا مادي.»
«بالطبع.»
التفت الشاب الذي يبدو صاحب الصوت الذي سمعتْه من الخارج نحو نينا.
كان يجلس مقابل مادي، شعره بنيّ برتقالي كثيف، وعيناه خضراوان داكنتان.
فتح عينيه الكبيرتين المنحنيتين إلى الأسفل بدهشة ونظر إلى نينا.
في تلك اللحظة شعرت نينا أنّ قلبها توقّف.
وما عادت تشعر برغبة في السفر أبدًا.
التعليقات لهذا الفصل " 103"