ركضت نحوها باكية من شدة الفرح، لكنها تفاجأت بالكلمات التي خرجت من فم والدتها.
“أمي!”
“سمعت أنكِ تعيشين حياة مستقرة ومريحة. إذن، ألا تستطيعين مساعدة والدتكِ هذه؟”
“هـ…هــه؟”
“أخوكِ ارتكب خطأ، ونحن بحاجة إلى مبلغٍ للتسوية. يمكنكِ مساعدتنا، أليس كذلك؟”
“أمي، لكنني بدأت العمل للتو، وراتبي قليل. ليس لدي أي مدخرات.”
“بما أنكِ موظفة الآن، فلا بد أن بإمكانكِ الحصول على قرض بسهولة، أليس كذلك؟”
“قـ… قرض؟”
“نعم، ما إن نحل هذه المشكلة، سنتمكن من العيش معًا مجددًا.”
“…!”
كان يجب أن لا تصدق تلك الكلمات.
كان عليها أن تتحرر من تلك العائلة في ذلك الوقت.
لكنها لم تفعل.
عادت كورنيليا إلى الواقع، وزفرت تنهيدة طويلة.
بسبب تلك التجربة القاسية، لم تتردد كورنيليا في قطع صلتها بعائلتها في هذه الحياة الجديدة.
لكن شخصًا واحدًا فقط لم تتمكن من التخلي عنه—ليديا آيريس.
أختها الصغرى الوحيدة، الفتاة التي التحقت بالمعبد منذ صغرها وأصبحت كاهنة.
“كانت مجرد شخصية ثانوية أُضيفت لإضفاء وجودٍ لطائفة المعبد في القصة الأصلية.”
بما أنها لم تكن سوى شخصية مكملة للقصة، لم يكن لها ظهور بارز، ولذلك لم تكن كورنيليا على دراية كبيرة بشخصيتها.
لكن المشكلة أن كورنيليا كانت بحاجة إليها الآن.
“يجب أن أحصل على اعتراف رسمي بكوني مالكة هذا المنزل، وإلا، إن جاء وينستون وأدريان، فلن أتمكن من منعهم من أخذي معهم.”
للحصول على هذا الاعتراف، كان عليها أن تمر بإجراءين رسميين:
أولًا، تسجيل عنوان إقامتها في السجلات الحكومية.
وثانيًا، الحصول على مباركة المعبد للمنزل.
“لقد أنهيت تسجيل العنوان منذ أيام.”
لم يتبقَ سوى المباركة الدينية.
المشكلة أن المباركة الرسمية تتطلب إجراءات طويلة ومعقدة.
“لكن يمكنني اختصار الأمر إذا حصلت عليها من كاهن أعرفه.”
وهذا الكاهن لم يكن سوى ليديا.
هل عليها الذهاب إلى المعبد الآن؟
ليديا كانت دائمًا منشغلة في تدريبها الروحي، ولم تكن تتواصل مع العائلة كثيرًا.
حتى بعد إرسالها عدة رسائل، لم تتلقَ أي رد.
“عليّ إنهاء مسألة المباركة اليوم بأي ثمن.”
حسنًا، لا خيار أمامها.
حتى لو تم طردها، ستذهب إلى المعبد على أي حال!
نهضت كورنيليا بسرعة، لكن في اللحظة ذاتها، انفتح باب المنزل بعنف.
“ما هذا المنزل البائس وغير المبارك؟! حتى أنه لا يستحق العيش فيه!”
رفعت كورنيليا رأسها لتنظر إلى الشخص الذي اقتحم منزلها بكل هذه الوقاحة.
لكن عندما رأت وجهه، لم تستطع التفوه بكلمة.
كيف يمكن لشخصٍ نطق بمثل هذه الكلمات الفظة أن يبدو بهذه القداسة؟
شعرٌ فضي لامع، بشرةٌ بيضاء كالثّلج، وعينان كبيرتان خضراوان.
كان أشبه بفأرٍ صغير… لا، بل همستر حديث الولادة، بملامح بريئة ومظهر لطيف للغاية.
حتى ملابسه كانت عبارة عن رداء كهنوتي أبيض.
ظلت كورنيليا تحدق به بذهول، حتى أمالت الفتاة الصغيرة رأسها قائلة:
“يبدو أنكِ لم تتذكري من أنا.”
“…….”
“كنتُ أعلم أنكِ ستفقدين صوابك يومًا ما، لكن يبدو أن الأمر حدث أسرع مما توقعت.”
اتسعت عينا كورنيليا من الصدمة.
“كيف لِهمسترٍ بهذه القداسة أن يكون لسانه بهذه القذارة؟!”
وفي تلك اللحظة، تذكرت هويتها الحقيقية.
“كورنيليا.”
“نادني أختي الكبرى.”
“تشيه، لم تفقدي صوابك بعد، على ما يبدو.”
تحدثت الهمستر المقدسة، ليديا آيريس، بنبرة ندمٍ واضح.
“لقد كانت فرصة جيدة…”
“فرصة جيدة لِماذا؟”
“لم أقل شيئًا.”
“كيف يمكن لكاهنةٍ مقدسة أن تكون بهذه الوقاحة؟!”
“أنا لا أزال كاهنة متدربة.”
“وهل الكاهنات المتدربات يُسمح لهن بالوقاحة؟”
“بعض الشيء.”
قالت ليديا بكل ثقة، قبل أن تخطو داخل المنزل بلا أي استئذان.
في القصة الأصلية، لم تكن شخصيتها بارزة بما يكفي لاكتشاف هذا الجانب منها، لكنها لم تكن شخصية عادية.
“لو كنتُ أعرف هذا، لجعلتُ شخصيتها أكثر طاعة ولطفًا مع أختها الكبرى.”
لكن الوقت قد فات على ذلك.
تجولت ليديا في أرجاء المنزل وكأنه منزلها الخاص، وهي تشتمّ الهواء كما لو أنها تقيّم المكان.
“إذًا، هربتِ من المنزل، لكنكِ لم تحصلي حتى على أثاث؟ كيف تمكنتِ من العثور على منزل إذن؟”
“لقد اشتريت أثاثًا، سيتم توصيله قريبًا.”
أجابت كورنيليا بلا وعي، مستخدمة نبرة مريحة بشكل غير متوقع.
على الرغم من أن هذه كانت أول مرة تلتقي بها مع ليديا فعليًا، إلا أنها شعرت وكأنها شقيقتها الحقيقية.
“ربما لأن ليديا لا تتكلف في تعاملها معي.”
“لكن، كيف علمتِ أنني هربتُ من المنزل؟”
“أتى والدي وأدريان إلى المعبد اليوم، وسألاني إن كنتُ قد سمعتُ شيئًا عن اختفائكِ.”
“ماذا؟!”
عندما صُدمت كورنيليا، ارتسمت على شفتي ليديا ابتسامة شريرة، أشبه بابتسامة ساحرٍ خبيث.
“أخبرتهم أنكِ هربتِ إلى الريف.”
“أوه، الحمد لله. يبدو أنكِ لستِ غافلة تمامًا.”
“الأغبى هنا هما والديّ وأخي.”
نطقت ليديا بتلك الكلمات الجريئة بلا تردد، مما جعل كورنيليا تتوتر، إذ كان من الممكن أن ينطبق الأمر عليها أيضًا.
فسألتها بحذر:
“وكيف وجدتِ مكاني؟”
“ذهبتُ إلى الإدارة وسكبتُ دموعًا مدعية أنني أبحث عن أختي المفقودة، فحصلت على شهادة تسجيل سكنكِ.”
“…….”
“قد أكون متدربة، لكنني استغللت بعض سلطات الكهنوت.”
كان بإمكانها الحصول على تلك الوثيقة دون الحاجة إلى استغلال سلطتها، ولكن الأهم من ذلك… ماذا عن كل الرسائل التي أرسلتها؟!
لم تطرح كورنيليا هذا السؤال بصوتٍ عالٍ.
“لكن، تعلمين ذلك، صحيح؟ إن لم يكن المنزل قد نال مباركة كهنوتية، فبإمكان أي شخص الاعتراض على إقامتكِ فيه.”
قالت ليديا ذلك، وهي ترتدي تعبير السلطة للمرة الأولى.
حدّقت بها كورنيليا بوجهٍ يحمل بعض التذلل.
“كنتُ على وشك المجيء إليكِ لهذا السبب.”
“مفاجئ… يبدو أنكِ تمتلكين القدرة على التفكير.”
“هيه، أنتِ…”
“على أي حال، جئتُ إلى هنا لأقوم بالمباركة. لكن، ماذا كنتِ ستقولين بعد ‘أنتِ’؟”
“شكرًا لكِ، أحبكِ.”
أخرجت ليديا زجاجةً صغيرة من بين طيات ملابسها، وكانت تحتوي على ماءٍ مقدس من المعبد.
“بمجرد أن قال والدي وأدريان: ‘لقد تركت كورنيليا رسالةً وهربت’، أدركتُ الحقيقة على الفور.”
“…….”
“أخيرًا، ذلك الساذج أدرك الواقع.”
بدأت ليديا ترشّ الماء المقدس في أرجاء المنزل، بينما قبضت كورنيليا يديها بإحكام.
“كان عليكِ أن تهربي من ذلك المنزل في وقتٍ أبكر. إنه منزلٌ كان سيستنزف بناته حتى الرمق الأخير. لقد أدركتُ ذلك مبكرًا، ولهذا أصبحتُ كاهنةً منذ أن كنتُ في العاشرة.”
“لقد كنتِ طفلة ناضجة.”
“أما أنتِ، فكنتِ ساذجة.”
“هيه، أنتِ…”
“لهذا السبب كنتِ تتمسكين بدوق برودي إيفانز.”
“لم أعد أتمسك به.”
فجأة، سكبت ليديا كميةً من الماء المقدس على كورنيليا مباشرة.
“آه! ما هذا؟!”
“تمّت المباركة.”
مسحت كورنيليا وجهها بسرعة وهي تصيح:
“هل رشّ الماء المقدس على المقيم هو الإجراء الأخير في المراسم؟”
“لا، أردتُ فقط القيام بذلك.”
“هل تريدين الموت؟!”
لكن ليديا غيّرت الموضوع ببراعة كما لو كانت سمكة زلقة:
“إذن، هل تم فسخ خطوبتكِ أخيرًا من دوق إيفانز؟”
“أنا التي فسختها.”
“أوه؟”
حدّقت ليديا بها وكأنها تقول بوضوح: “بالطبع، هذا كذب.”
“أنا جادة.”
“نعم، نعم.”
“أنا جادة حقًا!”
حكّت ليديا أذنها بلامبالاة وأومأت برأسها بلا اهتمام. كانت مهذبة في حديثها، لكنها لا تُحتمل.
“كورنيليا!”
في تلك اللحظة، دوّى صوتٌ مزعجٌ من الخارج. كان صوت وينستون.
اتسعت عينا كورنيليا، ثم نظرت إلى ليديا.
“لماذا والدي هنا؟ ألم تخبريه أنني ذهبتُ إلى الريف؟”
لكن فجأة، انفتح الباب بعنف.
“شعرتُ أن هناك أمرًا مريبًا، لذا تتبعتُ ليديا!”
دخل أدريان أولًا، وخلفه تبعه وينستون.
“كورنيليا! كيف تجرئين على مغادرة المنزل وأنتِ غير متزوجة؟!”
صرخ وينستون بغضب، بينما أخذ أدريان يتفحص المنزل بعناية.
“كيف حصلتِ على هذا المنزل؟ هل اشتريتهِ أم استأجرتِه؟”
“لا يهم. إن كان ملككِ، فسنبيعه، وإن كنتِ قد استأجرتِه، فسنستعيد أموالكِ ونستثمرها في مناجم الغرب.”
“هؤلاء الحمقى يظنون أن أموالي ملكٌ لهم.”
نظرت كورنيليا إليهما ببرود وقالت بحزم
“أنا لم أهــــــرب…بل استقللت.”
التعليقات لهذا الفصل "16"