كانت تلكَ السيّدةُ، التي بالكادِ تعافت من الحمّى، تتجوّلُ في سوقِ القلعةِ بعدَ أن تحسّنت حالتُها قليلًا.
“يا إلهي، يا آنسة، هل تعافيتِ تمامًا الآنَ؟”
“نعم، لقد تعافيتُ. أنا بخيرٍ.”
ابتسمت آرلين بإشراقٍ وأجابت بخفّةٍ على كلامِ صاحبِ المتجرِ المألوفِ، لكنّ الحقيقةَ أنّ الأمرَ كان خطيرًا جدًا.
خلالَ الأيامِ التي فقدت فيها وعيَها، ظلَّ المحيطونَ بها مستيقظينَ ليلَ نهارَ، يعتقدونَ أنّهم قد يضطرّونَ لتوديعِها هذهِ المرّةِ.
“لكنّكِ خسرتِ الكثيرَ من وزنِكِ. كنتِ نحيفةً أصلًا، فكيفَ خسرتِ أكثرَ؟ يبدو أنّكِ كنتِ مريضةً جدًا هذهِ المرّةِ. حتّى ابنتي أصيبت بنزلةِ بردٍ قاسيةٍ هذا الشتاءَ، كانت الأنفلونزا شديدةً هذهِ السنةَ.”
فكّرَ آزين: ‘كيفَ يُقارنُ بردُ ابنتِكَ بحمّى آنستي؟’ لكنّهُ لم يقل شيئًا، وقفَ بصمتٍ خلفَها.
“أجل، يبدو أنّها كانت قاسيةً بعضَ الشيءِ.”
لم يكن موقفًا يمكنُ تجاوزُهُ بضحكةٍ خفيفةٍ.
كان قلبُهُ يرتجفُ حقًا.
كان آزين يفكّرُ دائمًا أنّهُ إذا ماتت آرلين، فسيموتُ معها، لكن عندما رآها ضعيفةً وتعاني، شعرَ بألمٍ يعتصرُ قلبَهُ.
‘كان من الأفضلِ لو كنتُ أنا المريضَ بدلًا منها…’
كان يجبُ أن تظلَّ سعيدةً، تضحكُ، تتدحرجُ في حقولِ الزهورِ، ترقصُ بأناقةٍ بخطواتٍ خفيفةٍ، محبوبةً من عائلتِها، في سلامٍ.
على مدى عشرِ سنواتٍ، كان آزين إلى جانبِ آرلين، يستنشقُ ابتسامتَها المشرقةَ كالهواءِ النقيِّ الناعمِ الذي يجعلُهُ يتنفّسُ.
عندما لا تبتسمُ، لا يعرفُ كيفَ يتنفّسُ.
كلّما قضيا وقتًا معًا، أصبحَ أكثرَ إدمانًا عليها.
كان يظنُّ أنّهُ لا يمكنُ أن يقعَ أكثرَ، لكنّ اعتمادَهُ عليها ازدادَ.
كانت هي عالمَهُ منذُ البدايةِ، لكن خلالَ العشرِ سنواتِ الماضيةِ إلى جانبِها، أصبحت هي الهواءُ الذي يتنفّسُهُ، والماءُ الذي يروي عطشَهُ.
فجأةً، حينَ حاولت ذكرياتُهُ من الحياةِ السابقةِ، التي ارتكبَ فيها أفعالًا بشعةً، أن تطفوَ، شعرَ بألمٍ في قلبِهِ.
هزَّ رأسَهُ ليطردَ تلكَ الذكرياتِ.
لم يرد تذكّرَ تلكَ الذكرياتِ الحقيرةِ.
لا منظرَ آرلين وهيَ تموتُ في يأسٍ، ولا الألمَ الذي جعلَهُ يطعنُ قلبَهُ بنفسِهِ، ولا جثتَها المتعفّنةَ.
كان يجبُ أن تكونَ كلُّ تلكَ الأمورِ غيرَ موجودةٍ الآنَ.
أرادَ أن تختفيَ من ذاكرتِهِ أيضًا.
لكن تلكَ الذكرياتِ المروّعةِ كانت لا تزالُ تزورُهُ في كوابيسَ أحيانًا.
بل، أكثرَ من السابقِ…
ربّما لأنّ آرلين الحاليّةَ أصبحت في عمرٍ قريبٍ من عمرِها في الحياةِ السابقةِ.
على الرغمِ من أنّها، حتّى لو كانت الشخصَ ذاتَهُ، وُلدت في جسدٍ مختلفٍ، بدت صورتُها المحتضرةُ في الحياةِ السابقةِ مشابهةً بشكلٍ غريبٍ لصورتِها الآنَ…
“السير آزين؟”
ربّما كان يعبّسُ، لأنّ آرلين التفتت إليهِ باستغرابٍ ونادتهُ.
منذُ أن أصبحَ فارسًا رسميًا، كانت تُناديهِ بألفةٍ عندما يكونانِ بمفردِهما، لكنّها تستخدمُ اللقبَ أمامَ الآخرينَ.
“هل هناكَ شيءٌ؟”
“لا شيءَ.”
عندما رأى وجهَها، استرخى وجهُ آزين تلقائيًا.
“هل بقينا خارجًا طويلًا؟ أنعودُ؟”
قالت آرلين وهي تلاحظُ تعابيرَهُ.
يبدو أنّها أساءت فهمَ سببِ عبوسِهِ، وتذكّرت تحذيرَهُ قبلَ الخروجِ بألا تُجهدَ نفسَها.
“هل تريدينَ ذلكَ؟”
ابتسمَ آزين بإشراقٍ، ومدَّ يدَهُ لآرلين وهي تصعدُ العربةَ.
أمسكت يدَهُ المألوفةَ، مبتسمةً، وصعدت، ثمّ تبعَها آزين وأغلقَ البابَ.
“لكنّني حقًا لم أُجهد نفسِي اليومَ…”
ضحكَ آزين بخفّةٍ على تذمّرِ آرلين اللطيفِ وهيَ تلاحظُ تعابيرَهُ.
“آه، سير آزين، ألا يمكنُنا اللعبُ قليلًا قبلَ العودةِ؟”
بدأت آرلين تتوسّلُ بصوتٍ مدلّلٍ، تنظرُ إليهِ بعيونٍ لامعةٍ كالجروِ.
كانت تعلمُ جيدًا أنّ آزين لا يقاومُ هذا التعبيرَ.
“إلى أينَ؟ الريحُ لا تزالُ باردةً لصعودِ التلِّ.”
“لكن لو استرَحنا قليلًا فقط… أليسَ كذلكَ، سير آزين؟”
“سأتفقّدُ حرارتكِ اولًا، إذا سمحتِ.”
وضعَ آزين يدَهُ على جبهتِها ليفحصَ حرارتَها، فأغمضت آرلين عينيها.
…كانت هذهِ اللحظةُ رائعةً جدًا.
كانت لحظةً تتكرّرُ يوميًا تقريبًا، لكنّ تكرارَها جعلَهُ ينتظرُها كلَّ يومٍ.
في العربةِ، حيثُ لا يوجدُ سواهما، يتسلّلُ ضوءُ الشمسِ بدفءٍ من النافذةِ، وصوتُ أنفاسِها الهادئةِ يملأُ أذنيهِ، وحرارتُها وبشرتُها تنتقلانِ إلى يدِهِ.
كأنّهُ متّصلٌ بها…
كلّما تنفّست، شعرَ بحركةِ جسدِها الطفيفةِ عبرَ يدِهِ.
شعرَ بنبضِ قلبِها.
نظرَ إلى رموشِها الطويلةِ وهيَ ترتجفُ خلفَ جفونِها المغلقةِ.
‘لو أمكنَني حبسُ هذهِ اللحظةِ في إطارٍ إلى الأبدِ…’
اقتربَ وجهُهُ، دونَ وعيٍ، من وجهِ آرلين حتّى كادَ يلامسُهُ.
فتحت آرلين عينيها.
ملأت عيناها الخضراوانِ الصافيتانِ كالغابةِ مجالَ رؤيتِهِ.
شعرَ بأنفاسِها على وجهِهِ مباشرةً.
احمرَّ وجهُها الأبيضُ تدريجيًا، وشعرَ بحرارةٍ متزايدةٍ تنتقلُ إلى يدِهِ.
كانت أنفاسُها الدافئةُ تحيطُ بشفتيهِ.
كانا على مسافةٍ قريلة، لو تحرّكَ قليلًا، سيلتقيانِ.
لم تتراجع آرلين أو تدفعهُ.
كانت تنظرُ إليهِ بعيونٍ مستديرةٍ فقط.
نزلَت عينا آزين من عينيها إلى أنفِها الناعمِ، ثمّ إلى شفتيها.
‘لو تحرّكتُ قليلًا، كأنّهُ خطأٌ…’
تبعت عيناها عينيهِ إلى الأسفلِ ثمّ عادت للأعلى، ثمّ أغمضت عينيها بهدوءٍ.
شعرَ برجفةٍ خفيفةٍ تنتقلُ عبرَ يدِهِ من جبهتِها.
كانت رموشُها الطويلةُ ترتجفُ.
هل… هل هي تنتظرُ؟ هل هذهِ الرجفةُ من القلقِ أم التوقّعِ؟
مرَّت ثوانٍ شعرت كأنّها أبديّةٌ.
لكنّهُ لم يتحرّك.
كالعادةِ، لم يستطع مدَّ يدٍ غيرِ محترمةٍ إليها.
لم يكن ذلكَ فقط بسببِ ضبطِ النفسِ.
كان آزين يحدّقُ، مشدوهًا، في وجهِها المضاءِ بنورِ الشمسِ، ثمّ استفاقَ فجأةً وتراجعَ.
“يبدو أنّ لديكِ حرارةً… يجبُ أن نعودَ.”
“آه، لا، لا، أجل، حسنًا.”
كان وجهُ آرلين، التي فتحت عينيها وأجابت بارتباكٍ، أحمرَ كالطماطمِ.
“إذًا، سأتركُكِ الآنَ… إذا احتجتِ شيئًا، اطرقي العربةَ.”
“أممم، حسنًا، أراكَ لاحقًا.”
أغلقَ آزين بابَ العربةَ بعدَ التحيّةِ، ومسحَ وجهَهُ، الذي كان يعلمُ أنّهُ محمّرٌ بالتأكيدِ.
***
عادَ آزين إلى قلعةِ الدوقِ، رافقَ آرلين لتنزلَ من العربةِ، سلّمَ الخيلَ والعربةَ إلى حارسِ الإسطبلِ، وأنهى الترتيباتِ، ثمّ دخلَ.
بينما كان يتوجّهُ إلى غرفةِ آرلين، ناداهُ الخادمُ الذي صادفَهُ.
“السير آزين، هل أنتَ ذاهبٌ إلى غرفةِ الآنسةِ الآنَ؟”
“نعم، هذا صحيحٌ…”
“إذًا، هل يمكنُكَ إيصالُ هذهِ الرسائلِ إليها؟”
نظرَ الخادمُ إلى صينيّةٍ فضيّةٍ في يدِهِ.
كانت رسائلُ موجّهةٌ إلى آرلين.
“لقد استدعاني سموُّهُ.”
“حسنًا.”
أضاءَ وجهُ الخادمِ وهوَ يسلّمُ الصينيّةَ إلى آزين.
بينما كان يصعدُ إلى غرفةِ آرلين، ألقى آزين نظرةً على أسماءِ المرسلينَ على أظرفِ الرسائلِ.
كانت رسالةٌ من زيكسيون، الذي ذهبَ إلى العاصمةِ، الأولى التي رآها.
كانت معظمُ الرسائلِ الأخرى من أصدقاءِ آرلين في العاصمةِ، وبعضُها من دارِ الأيتامِ أو المدارسِ التي ترعاها.
و…
‘دوقُ ريكويس، كاشين هيوسرود.’
عبسَ آزين عند رؤيةِ الاسمِ الأكثرَ إثارةً في الآونةِ الأخيرةِ، والذي لم يرَهُ من قبلُ على رسائلَ تدخلُ أو تخرجُ من عائلةِ لوثيرن.
‘لم أكن أعلمُ أنّهما يتبادلانِ الرسائلَ…’
كان يعلمُ أنّ آرلين، عندما كانت طفلةً صغيرةً وكاشين لم يكن فارسًا بعدُ، كانت تتفاعلُ معهُ في العاصمةِ.
كانت آرلين، بعطفِها، ترعى كاشين عندما يُصابُ، لأنّها لا تستطيعُ تجاهلَ المحتاجينَ.
كانت طبيعتُها أن تساعدَ من يحتاجُ المساعدةَ.
حتّى آزين نفسُهُ التقاها مجدّدًا بسببِ ذلكَ.
لكن، من بينِ كلِّ الأشخاصِ، كان هذا الاسمُ يزعجُهُ بشكلٍ غريبٍ.
لم يعرفْ لماذا.
لكن عندما كانت آرلين تعودُ من العاصمةِ وتحكي عن أحداثِها، كان هذا الاسمُ الوحيدُ الذي يعلقُ في أذنيهِ من بينِ أسماءٍ كثيرةٍ.
ربّما كانت غيرةً.
لكن ليست فقط غيرةً… شيءٌ آخرَ…
عندما أُرسلَ كاشين إلى الشمالِ كمنفيٍّ، كانت آرلين غاضبةً وحزينةً جدًا.
كانت جبهةُ أوريك الشماليّةُ معروفةً بقسوتِها.
كان مكانًا يذهبُ إليهِ المنبوذونَ من عائلاتِهم، أو من لا خياراتٍ لهم، أو المجرمونَ المجبرونَ على الذهابِ.
لم يكن كاشين، حتّى لو كان يحملُ ذنبَ أمّهِ، مذنبًا بشيءٍ، وكان في الخامسةَ عشرةَ فقط، قاصرًا.
حتّى في حربٍ تهدّدُ وجودَ البلادِ، يُوضعُ من هم في الخامسةَ عشرةَ في الخطوطِ الخلفيّةِ أوّلًا.
كان إرسالُ صبيٍّ إلى جبهةِ أوريك دونَ سببٍ ظلمًا واضحًا…
لكن، كان ذلكَ أمرًا ملكيًا، بذريعةِ أنّهُ، على الرغمِ من عدمِ حملِهِ اسمَ العائلةِ المالكةِ، يجبُ أن يحميَ الحدودَ كجزءٍ من الدمِ الملكيِّ.
كانت أجواءُ ازدرائِهِ قد انتشرت بينَ نبلاءِ العاصمةِ، ولم يعترض أحدٌ.
باستثناءِ آنستِهِ الصغيرةِ.
تذكّرُ آزين حزنَ آرلين لفترةٍ بعدَ ذلكَ.
بعدَ ذلكَ الحادثِ، بدأت تهتمُّ بالوضعِ السيئِ للإمداداتِ في جبهةِ أوريك، وبظروفِ الذينَ جُنّدوا أو أُرسلوا ظلمًا، وبدأت تتبرّعُ بإمداداتٍ بشكلٍ دوريٍّ.
كان ذلكَ اسمًا نسيَهُ لفترةٍ طويلةٍ، لكن منذُ وقتٍ، بدأ يسمعهُ مجدّدًا، حتّى عادَ كاشين بأخبارِ انتصاراتٍ متتاليةٍ، وعودةٍ باهرةٍ.
لقد تذكّرُ ارتياحَ آرلين عند سماعِ تلكَ الأخبارِ.
لكن، لحسنِ الحظِّ، كان ذلكَ كلُّ شيءٍ.
لم تحاول آرلين التواصلَ معهُ أو البحثَ عنهُ.
كانت مجرّدَ حزنٍ على مصيبةِ شخصٍ تعرفُهُ، وغضبٍ من الظلمِ، ومساعدةٍ للمحتاجينَ، لا أكثرَ.
فلماذا إذًا يظهرُ هذا الاسمُ على الصينيّةِ بينَ يديهِ الآنَ؟
هل يحاولُ كاشين استعادةَ علاقتِهِ بها؟
حتّى هذا وحدهُ جعلَهُ يشعرُ بعدمِ الراحةِ.
لم يكن مجرّدَ غيرةٍ بينَ رجلٍ وآخرَ، بل شيءٌ… مخيفٌ…
كأنّ وحشًا غامضًا يزحفُ من مستنقعٍ لا يُرى…
“أه، آزين؟”
رفعَ آزين رأسَهُ عندما سمعَ صوتًا يناديهِ.
التعليقات لهذا الفصل " 14"