نظرَ إلى يدِهِ لحظةً، ثمّ إلى آرلين.  

 

كانت لا تزالُ تأكلُ التارتَ بهدوءٍ، مغمضةَ العينينِ، غافلةً تمامًا.  

 

خفضَ يدَهُ ببطءٍ، قبضَها ثمّ فتحَها مجدّدًا.  

 

هذهِ المرّةَ أيضًا.  

 

كلّما خطرت لهُ أفكارٌ غيرُ نقيّةٍ أو جريئةٍ، يشعرُ وكأنّ شيئًا في رأسِهِ يمنعُهُ.  

 

في كلِّ مرّةٍ، كأنّ شيئًا يقفُ حائلًا، يحولُ دونَ إيذاءِ آرلين الثمينةِ الغاليةِ.  

 

‘… لا أعرفُ ما هذا، لكنّهُ أمرٌ حسنٌ.’  

 

بفضلِ ذلكَ، لم يرتكب خطأً واحدًا في هذهِ الحياةِ بعد.  

 

ربّما هذا هو ندمُهُ العميقُ من حياتِهِ السابقةِ، حينَ دمّرَها، يمنعُهُ الآنَ من تكرارِ الخطأِ ذاتِهِ…  

 

‘نعم، لا يجبُ تكرارُ الخطأِ ذاتِهِ.’  

 

‘هذهِ المرّةَ، سأحافظُ على ابتسامتِها السعيدةِ إليَّ حتّى النهايةِ، حتّى اللحظةِ الأخيرةِ.’  

 

ابتلعَ ريقَهُ وهدّأ قلبَهُ.  

 

“… سأتفقّدُ حرارتكِ، إذا سمحتِ.”  

 

“نعم.”  

 

أجابت آرلين، مغمضةَ العينينِ، غيرَ مدركةٍ لما يجولُ في ذهنهِ.  

 

مدّ آزين يدَهُ بحذرٍ، بحركةٍ مختلفةٍ تمامًا عن السابقةِ.  

 

اقتربت أصابعُهُ من وجهِها.  

 

تردّدت يدُهُ لحظةً، ثمّ اتّجهت نحوَ جبهتِها، ولمستها.  

 

كان الهدوءُ يعمُّ المكان.  

 

لم يُسمع سوى صوتُ حوافرِ الخيلِ، وشعرَ بجسمِها يتحرّكُ برفقٍ مع أنفاسِها.  

 

انتقلَ دفءُ جسدِها إلى كفِّهِ.  

 

“… هل لديَّ حمّى؟”  

 

عندما لم يُحرّك آزين يدَهُ من جبهتِها لفترةٍ، سألت آرلين، التي لا تزالُ مغمضةَ العينينِ.  

 

ابتلعَ آزين ريقَهُ، سحبَ يدَهُ، وأجابَ:

 

“حرارتكِ ليست مرتفعةً، لكن يبدو أنّ هناكَ ميلًا خفيفًا لتصابي بالحمى. هل تشعرينَ بإزعاجٍ كبيرٍ؟”  

 

“لا، لا بأسَ. هل يمكنُنا التوقّفُ عندَ تلّةِ زهورِ روندال للحظةٍ؟”  

 

“… أنتِ متعبةٌ، ألن يكونُ من الأفضلِ الإسراعُ إلى البيتِ؟”  

 

كلامٌ فارغٌ.  

 

في الحقيقةِ، كان يتمنّى لو طالت نزهتُهما معًا.  

 

“فقط للحظةٍ، هيا، أرجوكَ؟”  

 

فتحت آرلين عينيها.  

 

تألّقت عيناها الخضراوانِ الصافيتانِ، رغمَ إرهاقِها الطفيفِ، كانت متحمّسةً للفكرةِ، مفعمةً بالحياةِ.  

 

“كما تريدين، يا آنسة…”  

 

انتشرت ابتسامةٌ عذبةٌ على وجهِها.  

 

***

 

خارجَ القلعةِ، لكن ليسَ بعيدًا، كان هناكَ تلّةٌ تكتسي بزهورِ روندال البنفسجيّةِ من أواخرِ الربيعِ إلى أوائلِ الخريفِ، مكوّنةً سجادةً زهريّةً رائعةً.  

 

كان مكانًا تحبّهُ آرلين كثيرًا.  

 

عندما تبدأ التلّةُ بالتلوّنِ بالبنفسجيِّ، كانت تأتي دائمًا، تتمدّدُ بينَ الزهورِ تحتَ أشعّةِ الشمسِ الدافئةِ، تستنشقُ رائحةَ الترابِ والزهورِ، وتستلقي بهدوءٍ.  

 

“آه، رائعٌ!”  

 

بعدَ أن استنفدت آرلين طاقتَها بالصعودِ إلى التلّةِ، تنفّست بصعوبةٍ واستلقت على حقلِ الزهورِ البنفسجيّةِ.  

 

اتّكأ آزين على جذعِ شجرةٍ ضخمةٍ تسيطرُ على التلّةِ وجلسَ.  

 

في البدايةِ، كان مشهدُها هكذا يربكُهُ، لكن، بعدَ سنواتٍ من رؤيتِهِ، أصبحَ مألوفًا وطبيعيًا.  

 

‘إذا فكّرتُ في الأمرِ، فإنّ آرلين التي رأيتُها في الغابةِ في حياتي السابقةِ، رغمَ أنّها لم تستلقِ بهذه الراحةِ، كانت تقفزُ بحيويّةٍ لا تليقُ بآنسةٍ نبيلةٍ.’  

 

نظرَ إليها آزين دونَ إزعاجٍ.  

 

كان سعيدًا بمجرّدِ أن يُسمحَ لهُ بأن يكونَ إلى جانبِها في ملاذِها الأكثرِ خصوصيّةً، في لحظاتِ راحتِها الحميمةِ.  

 

في هذهِ اللحظةِ، هوَ الأقربُ إليها.  

 

بعدَ أن استلقت لفترةٍ طويلةٍ بهدوءٍ، تتعرّضُ لأشعّةِ الشمسِ التي بدأت تكتسبُ لونًا برتقاليًا، رفعت آرلين رأسَها قليلًا ونظرت إلى آزين.  

 

“آزين؟”  

 

“نعم، يا آنسة.”  

 

“تعالَ إلى هنا. أنتَ بعيدٌ جدًا.”  

 

نهضَ آزين دونَ تردّدٍ واستلقى إلى جانبِها.  

 

كبحَ رغبتَهُ في الاقترابِ أكثرَ، واستلقى بحيثُ يمكنُهُ لمسُ يدِها لكن بجسدٍ متباعدٍ قليلًا.  

 

تحرّكت أصابعُهُ المرتجفةُ بحذرٍ حتّى لمست إصبعًا من أصابعِها.  

 

تنفّسَ الصعداءَ عندما لم تسحب يدَها.  

 

كان الاتّصالُ بسيطًا، مجرّدَ أطرافِ الأصابعِ، لكنّ الدفءَ المنتقلَ منها إلى جسدِهِ كلّهِ أثارَ قلبَهُ.  

 

كان يرغبُ في قبضِ يدِها، بل والاقترابِ أكثرَ، لكنّهُ كبحَ نفسَهُ بقوّةٍ.  

 

‘لن أكرّرَ خطأَ التهامِها حسبَ رغبتي فأفقدُها تمامًا.’  

 

‘يجب أن أقوم بهذا ببطءٍ و بحذرٍ.’  

 

شعورُ الرضا الهادئُ، الذي لم يختبرهُ في الماضي رغمَ امتلاكِها بالقوّةِ، ذابَ في جسدِهِ من مجرّدِ لمسةِ إصبعٍ.  

 

‘نعم، هذا يكفي.’  

 

‘الآنَ، أشعرُ بالطمأنينةِ بوجودِها عبرَ أطرافِ أصابعي.’  

 

‘أنا أستمتعُ بهذا السلامِ الحاليِّ.’  

 

‘لم أكن أعرفُ في الماضي، لكن الآنَ أدركُ أنّ هذا السلامَ ليسَ أمرًا مفروغًا منهُ.’  

 

“السماءُ جميلةٌ.”  

 

“… نعم، صحيحٌ.”  

 

“الغيومُ بيضاءُ…”  

 

“كالقطنِ.”  

 

“أشعّةُ الشمسِ دافئةٌ.”  

 

“و رائعة.”  

 

“نعم، رائحةُ الزهورِ رائعةٌ أيضًا.”  

 

“بالطبعِ.”  

 

كان آزين يوافقُ فقط.  

 

استلقت آرلين لفترةٍ طويلةٍ، تستمتعُ بأشعّةِ الشمسِ وتُنظّمُ أنفاسَها.  

 

من على بُعدِ ذراعٍ، سمعَ صوتَ أنفاسِها الهادئةِ وهي تشهقُ وتزفرُ.  

 

كان هذا الوقتُ، حيثُ لا يفعلُ شيئًا ولا يقلقُ بشأنِ شيءٍ، فقط يستمعُ إلى أنفاسِها، هادئًا لدرجةِ أنّ آزين تمنّى لو يتوقّفُ الزمنُ ويستمرُّ هذا الوقتُ إلى الأبدِ.  

 

‘ربّما، حتّى في الماضي، كان هذا هوَ ما كنتُ أريدهُ دائمًا.’  

 

لكنّني، في الماضي، لم أعرف كيفَ أكونَ جزءًا من هذا الفضاءِ الدافئِ…

 

ظننتُ أنّ امتلاكَها، بأيّ شكلٍ كان، سيجلبُ هذهِ اللحظاتِ تلقائيًا.

 

‘أيّها الأحمقُ!’  

 

هزَّ رأسَهُ ليطردَ صورةَ نفسِهِ السابقةِ التي خطرت لهُ فجأةً.  

 

‘مقزّزٌ ومثيرٌ للاشمئزازِ…’  

 

لم يريد التفكيرَ في الماضي.  

 

‘تلكَ أمورٌ اختفت. زالت مع ولادتي الجديدةِ. لا داعي لتذكّرِها. لن أتذكّرَها.’  

 

نعم نعم، لا حاجةَ لاستحضارِ ذلكَ الماضي القذرِ.

 

رغمَ خطايايَ السابقةِ، أن أبدأ حياةً دافئةً كهذهِ، كأنّ شيئًا لم يكن، أليست معجزةً ونعمةً عظيمةً؟

 

أن تكونَ آرلين، التي كانت بعيدةً جدًا في الماضي، قريبةً الآنَ، تتنفّسُ نفسَ الهواءِ وتلمسُني، أليست هذهِ هديّةً عظيمةً؟

 

بما أنّ معجزةً حدثت، عليَّ الآنَ أن أستمتعَ بها وأعتزَّ بها.

 

‘نعم، هذهِ المرّةَ، سأعتزُّ بها حقًا.’  

 

في تلكَ اللحظةِ، استدارت آرلين، التي نظّمت أنفاسَها، نحوهُ، مستندةً على مرفقِها، ناظرةً إليهِ من الأعلى قليلًا، وسألت:  

 

“كيفَ كنتَ خلالَ غيابي؟”  

 

ابتسمَ آزين وأجابَ:  

 

“نعم، كنتُ بخيرٍ. وأنتِ، هل قضيتِ وقتًا جيّدًا في العاصمةِ؟”  

 

“نعم، كنتُ بخيرٍ. هيا، أخبرني بالتفاصيلِ. كيفَ قضيتَ وقتَكَ؟”  

 

“حقًا، لم يحدثْ شيءٌ مميّزٌ. تدرّبتُ وخدمتُ وانتظرتُكِ كلَّ يومٍ.”  

 

ارتبكت آرلين قليلًا من ردّهِ الهادئِ، فغيّرتِ الموضوعَ:  

 

“كيفَ كانت شويل خلالَ غيابي؟ هل حدثَ شيءٌ؟”  

 

“هم… الجميعُ كان بخيرٍ…”  

 

ضحكت آرلين على ردّهِ العابرِ.  

 

“ما هذا؟ أسألُ لأنّني أريدُ تفاصيلَ عن الجميعِ، فكيفَ تجيبُ هكذا؟”  

 

حينها، حاولَ آزين تذكّرَ ما حدثَ للآخرينَ، وأجابَ بلا مبالاةٍ:  

 

“فرقةُ الفرسانِ واصلت عملَها وتدريباتِها كالمعتادِ… والسيّدُ زيكسيون كان يزورُ الفرقةَ أحيانًا للمبارزةِ…”  

 

“لم يتغيّب عن دروسِهِ ويهرب، أليسَ كذلكَ؟”  

 

“همممم، ذلكَ لا يُعتبرُ ‘شيئًا مميّزًا’.”  

 

هزَّ آزين كتفيهِ، فضحكت آرلين بخفّةٍ.  

 

“وماذا عن حياتِكِ في العاصمةِ؟ هل حدثَ شيءٌ ممتعٌ؟”  

 

جلست آرلين، وبدأت يدُها تلمسُ الزهورَ البنفسجيّةَ، تقطفُها وتجدلُها.  

 

“نعم، تخيّل، لقد خطبت فيرمونا! كنتُ أظنُّنا لا نزالُ صغيراتٍ، لكن يبدو أنّنا وصلنا إلى سنِّ الحديثِ عن الزواجِ.”  

 

فيرمونا هيَ صديقةٌ مقرّبةٌ تلتقي بها آرلين في العاصمةِ، ابنةُ إحدى عائلاتِ الماركيز، إذا لم يخنهُ الظنُّ…  

 

“يبدو أنّ خطيبَها شخصٌ لا تعرفُهُ جيدًا بعدُ، لكنّهُ في سنِّها، وسيبدآنِ التعارفَ الآنَ، فأتمنّى أن يتوافقا.”  

 

‘إذًا، بالنسبةِ لآنسةٍ نبيلةٍ عاديّةٍ، هذا هوَ العمرُ الذي تبدأ فيهِ أحاديثُ الزواجِ.’  

 

أومأ آزين برأسِهِ.  

 

رغمَ علمهِ أنّ آرلين ليست معنيّةً بذلكَ، شعرَ بقلقٍ يضغطُ على صدرِهِ.  

 

واصلت آرلين الحديثَ عن فيرمونا، ويداها تعملانِ بجدٍّ لتجدلَ الزهورَ وتصنعَ شيئًا.  

 

جلسَ آزين بشكلٍ أكثرَ استقامةً، مستمعًا إلى صوتِها العذبِ.  

 

“وهناكَ التقيتُ بسيرا، تتذكّرُها؟ الفتاةَ التي أخذتُها إلى دارِ الأيتامِ اليومَ. قالت إنّها يتيمةٌ أيضًا.”  

 

واصلت آرلين الحديثَ بحماسٍ بينما يداها تجدلانِ الزهورَ، كانت تروي ما أكلت، ما فعلت، من التقت، وما حدثَ في العاصمةِ.  

 

كان آزين يستمعُ بهدوءٍ، مقتصرًا على “هذا صحيحٌ” أو “حقًا؟”.  

 

في هذهِ الأثناءِ، تشكّلَ إكليلُ زهورٍ بينَ يديها.  

 

منذُ صغرِها، اعتادت زيارةَ تلّةِ زهورِ روندال، فأصبحت بارعةً في صنعِ الأكاليلِ والأساورِ الزهريّةِ، وآزين نفسهُ أصبحَ ماهرًا في ذلكَ بمراقبتِها.  

 

بينما كان يستمعُ بابتسامةٍ ناعمةٍ إلى صوتِها الحلو وهيَ تروي قصصًا متنوّعةً، تجمّدت تعابيرُهُ فجأةً عندَ ذكرِ اسمٍ مألوفٍ.  

 

“وهذهِ المرّةَ، حصلَ كاشين أخيرًا على تعيينِهِ كفارسٍ!”