1
مُقدمة
حقًّا، لقد كنتُ سعيدةً. تلك اللحظة التي قضيتُها معك، لم تكن قصيرةً ولا طويلةً.
“هذه هي الفرصة الأخيرة. إن لم تحملي بعد هذا اليوم، فسوف يتمُ عزلكِ وفقًا لقوانين تولايت.”
قال ذلك رجلٌ ذو عينين زرقاوتين أعمق من البحر، وقد حمل كلامُه احتقارًا واضحًا.
رغم نظرته الباردة وأسلوبه الجاف، لم يشغل بالَ إيريل سوى شعره المبلّل.
“نعم. أعلم ذلك.”
وحين همّت بمدّ يدها لتجفّف قطرات الماء عن شعره الذهبي، خشية أن يعبث به بردُ أوائل الشتاء المتسلّل من النافذة، أبعد يدَها بقسوة، فسقطت عاجزةً فوق أغطية السرير.
“لا تُحاوِلي عبثًا. فمهما فعلتِ، لن يتغيّر شيء.”
ثم، بلا رحمة حتى اللحظة الأخيرة، صار كما في كلّ مرة يعلو جسدَها.
عضّ على أسنانه بغيظ، وألقى بنظرةٍ حادّةٍ نحو الوسادة كأنه يوشك أن يمزّقها.
بدأت رؤيةُ إيريل تهتزّ في عينيها، وظلّت تحدّق شاردَة في خصلات شعره المتناثرة، قبل أن تُغمض عينيها بهدوء.
عندما تُغمض عينيها هكذا، تُصبح كلّ حواسّها أكثر تيقّظًا من المعتاد.
عبق الزيت العطريّ الذي يستخدمه، يخفي رائحته الأصيلة.
ومحاولته الحثيثة لتجنّب أيّ تماسّ جسديّ زائد معها.
وحتى الضوضاء الخافتة القادمة من خلف الستارة الرقيقة المحيطة بهما، كانت تتسرّب ببطء إلى أذنيها.
طوال ثلاث سنواتٍ، لم يكن لهما خيارٌ سوى أن يعيشا تحت أعين الآخرين، بينما يراقبون علاقتهما.
من الطبيعيّ أن تسأمَ أنتَ من هذا كلّه.
لم يكن من أراد هذا الزواج سوى دوق رونز والدها وسياسيّو الفصيل النبيل الساعون لمصالحهم.
أمّا آراء الطرفين المعنيّين بالزواج، فلم تُؤخَذ بالحسبان أبدًا.
و بوفاة الملك والملكة المفاجئة، كان على الشيوخ أن يدعموا العرش، لكنّهم اختاروا دوق رونز حفاظًا على رفاهيّتهم.
وهكذا، وجدتَ نفسك متزوّجًا بامرأةٍ لا تُحبّها، وبذلتَ قصارى جهدك للوفاء بالعهد سنواتٍ ليست بالقليلة.
وبحسب قانون المملكة، إذا مرّت ثلاث سنواتٍ من الزواج دون إنجاب، فسيُقرَّر عزل الملكة.
عندها دفع دوق رونز برجاله إلى مخدع الزوجين لمراقبتهما.
لم يكن ذلك ليُتخيَّل من قبل، لكنّك وافقتَ على هذا الإجراء لتُثبت براءتك.
وهكذا، كان لقاؤنا الجسديّ يتكرّر كل شهر.
لكن يبدو أنّ السماء كانت في صفّي…
فالآن، وقد اكتملت السنوات الثلاث، ما زلنا بلا طفل. ولأجل ذلك، كانت إيريل ممتنّة من أعماقها.
“تبًّا…”
عاد ليتغطّى بثقل الألم بعد أن حاول لوهلةٍ أن يضع كلّ شيءٍ جانبًا.
كراهيته الصارخة كانت تخترق بشرتها كما لو كانت إبرًا حادّة. ثم نهض عن السرير تاركًا إياها خلفه.
“……”
ومع أنّه لم يلتفت إليها، فقد أدّت له إيريل تحيّةً مقتضبة بانحناءة رأس، بينما كان أحد الخدم يقترب واقفًا خلف الستارة.
أزاح الخادم القماش الرقيق، فألقى على جسده رداء النوم، ثم غادر الغرفة.
ودخلت هذه المرة خادمة لتساعد إيريل.
كانت تلك الخادمة، وتُدعى أوديليا، مرسلة من قِبَل دوق رونز.
وقد فحصت جسد إيريل وغطاء السرير بدقّة قبل أن تعطيها رداءً خفيفًا.
لكنّ هذا الإذلال سينتهي اليوم.
فإذا لم تحمل في الفحص القادم، فسيُعزلها القصر تلقائيًّا، وستتحرّر من لقب “ابنة دوق رونز” الزائف.
‘أخيرًا…سأعود إلى البحر.’
إلى أحضان البحر الأزرق حيث وُلدت ونشأت.
إلى هناك، حيث تلاشت والدتها وسط جماله.
كانت ستغادر هذه الحياة، لكنّها تمنت له هو أن يكون سعيدًا بحق.
أما ذكرياتها معه، فستظلّ محفورة في قلبها، تتوق إليها مهما مرّ الزمن.
***
الفصل 1
في عالم الطفلة إيريل، كانت إيديلين تحتلّ أوسع مساحة بلا منازع.
وبفارقٍ ضئيل، حلّ “تياهي” ـ البحر الذي يحيط بالرمال اللامعة ـ في المرتبة الثانية.
أزرق أنصع من السماء، وأمواج بيضاء تتحطّم، وما إن تغوص أعمق وأعمق حابسةً أنفاسها، حتى تكتشف حقيقة تيـاهي الساحرة.
كلّما اتجهت للأسفل، ازداد البحر عمقًا، وامتلأت المساحة بإيقاع الحياة النابضة.
شعاب مرجانية نمت بعشوائيّة، وأصداف متنوّعة تزخرف القاع.
وحين تتبع الأسماك الصغيرة التي تمرّ بجانبها بخفّة، تنسى تمامًا أنّ الشمس قد غابت.
وفي كل مرة تمضي فيها وقتها في حضن تيـاهي، كانت أمّها، التي خرجت للعمل، تعود إليها.
كانت تلك اللحظة التي تجتمع فيها مع إيديلين، أمّها التي تحبّها، وتياهي، صديقها الأغلى.
رأت إيريل أمّها تلوّح لها من بعيد، فنفخت صدرها بالهواء، وغاصت داخل الماء، والتقطت صدفةً على شكل موجة، ثم خرجت إلى الشاطئ مع حركة الموج.
البرودة التي أحاطها بها تيـهي حلّ محلّها الآن دفء حضن إيديلين، التي عانقتها بشدّة.
فأرَتها الصدفة بفخر.
“أمّي! انظري! تشبه الموج!”
كانت مغطّاة برمالٍ خشنة لا تدري متى علقت بها، وأثناء انشغالها بتنظيفها، مرّرت إيديلين يدها على شعر إيريل.
“صحيح… وهي تشبه أيضًا تموّجات شعركِ، يا صغيرتي. هل استمتعتِ اليوم؟”
“نعم! لقد لعبتُ مع تياهي مجددًا! أتذكرين السمكة الصغيرة التي التقيتُها أول مرة؟ اليوم وجدتها وقد كبرت هكذا! أنا متأكدة أنّها هي نفسها، زعانفها مطابقة! في المرة السابقة كانت بحجم إصبعي، أما الآن فبحجم قبضتي! صدّقيني!”
كانت عيناها تتلألآن كبريق الماء، وشعرها الأزرق المبلّل ينسدل مثل لون البحر الذي تحبّه.
إيريل كانت تحمل في ملامحها الكثير من لون البحر الذي تعشقه.
“هكذا إذن، أيتها السيّدة الصغيرة… لكن ألم أقل لكِ ألّا تدخلي المياه العميقة؟”
“لا… لم تكن عميقة! لقد أطعتكِ اليوم! حقًّا!”
غير أنّ عينيها ظلّتا تهربان من نظرات إيديلين.
فقد كانت الأم تعرف أنّ ابنتها حين تكذب، لا تستطيع النظر في عينيها مباشرة.
“همم… انظري! شعركِ يخبرني العكس.”
رفعتها إيديلين إلى حضنها، وأمسكت خصلةً من شعرها المتموّج الأزرق، وأرَتها إيّاها وهي تعقد حاجبيها.
“لقد امتصّ الكثير من ماء تياهي. ولونُه أعمق، مما يعني أنّك بالتأكيد…”
“حقًّا، لم أفعل…!”
كانت إيديلين تفسّر الزرقة الفريدة في شعر ابنتها بأنّ البحر يسكنه.
وأنّها كلّما غاصت أعمق، ازداد شعرها زرقة.
“حقًّا، لم أفعل…”
لكنها لم تكن الحقيقة، بل كذبةٌ نابعة من قلب إيديلين القَلِق، إذ كانت تخشى أن تترك ابنتها الصغيرة وحدها في البحر.
كبرت إيريل وعرفت لاحقًا أنّ ذلك لم يكن صحيحًا، غير أنها في طفولتها كانت تؤمن بهذا إيمانًا كاملًا.
غطّت شعرها بكفّيها وقالت بخجل: “أُوم… آسفة…”
“إيريل، غدًا العبي فقط هنا أمام البيت، مفهوم؟ ماما تقلق عليك.”
“نعم…”
ضمّتها إيديلين إلى صدرها بكلّ قوّتها.
لكن في اليوم التالي، التي لم تعد لم تكن إيريل… بل كانت إيديلين نفسها.
انتظرت أمام البحر طويلًا، لكن أمّها لم تعد.
لم يهم إنْ توقّفت عن دخول المياه العميقة، أو بقيت تستمع طويلًا إلى غناء تياهي الفوّار.
مرّت أيامٌ لم تلقِ فيها نظرةً على البحر الذي أحبّته كثيرًا، وأيامٌ أخرى اندفعت فيها بعنادٍ إلى حضن تياهي الغاضب تحت وابل المطر الغزير.
مهما دخلت البحر الأزرق، لم يتغيّر لون شعرها المائيّ.
وفي يومٍ عاديّ، تحت شمسٍ حادّة، وهي متمدّدة على الرمل، أدركت الحقيقة…
شعرها لم يكتسب لونه من البحر، وأنّ إيديلين، التي قبّلت خدّها وقالت إنها ستعود باكرًا، لن تمسك يدها ثانيةً.
رفض عقلها التصديق، فجلست تبكي طويلًا.
الأمواج التي لامست أصابع قدميها جرفت معها الرمل العالق على بشرتها نحو أعماق البحر.
بدا كأنها تحاول مواساتها، لكن قلبها لم يجد عزاءً.
الحزن لم يتبدّد، بل تراكم طبقةً فوق طبقة، كملح الدموع التي أنهكت وجنتيها.
وحين فقدت حتى القدرة على البكاء، ارتمت على الرمل الخشن، وأغمضت جفنيها الثقيلة برطوبة الملح ثم فتحتهما ببطء.
كانت الرؤية على وشك أن تغدو ضبابيّة… حين ظهر ذلك الرجل.
ربجل غريبٌ عن هذا المكان، و غريبٌ عن عالمها الذي لم يكن يضمّ سوى أمّها وهي وتياهي.
شَعره أسود قاتم، وعيناه الزرقاوان تشبهان عينيها، لكن نظرته الحادّة كانت تُشعِرها بالتهديد.
لم ترَ رجلًا بهذا الحجم من قبل.
رداؤه اللامع حطّم أشعّة الشمس كما يشاء.
قال وهو ينظر إليها،
“أنتِ ابنة إيديلين، أليس كذلك؟”
ثم أطلق صوت امتعاض وهو يضغط لسانه بين أسنانه.
وبإشارةٍ صغيرة من ذقنه، اندفع رجالٌ آخرون نحوها.
حملوها بحذر ووضعوها داخل عربة.
“أمّكِ ماتت.”
لم يكن الخبر صادمًا كما ظنّت.
“لذلك… انسَي أمر إيديلين. من اليوم أنتِ فردٌ من عائلة الدوق.”
ذلك الرجل الذي جاء فجأة، طالبها بأن تنسى أمّها الوحيدة، وفرض عليها عائلةً جديدة، ثم ربّاها لتكون سلعةً تناسب ذوقه.
ومنذ أن لُصق لقب “رونز” باسمها الجميل الذي منحتها إياه إيديلين، سُلبت منها كلّ إرادة.
كبرت لتصبح زهرةً هادئة زرعها ذلك الرجل، حتى جاء وقت زواجها.
“انظري إلى الأمام.”
في الاتجاه الذي أشار إليه دوق رونز، وقف رجلٌ لا تكفيه كلمة “وسيم” لوصفه.
تحت شعره الذهبي الباهر، المصقول بعناية، تمايزت ملامحه الحادّة بدقّة.
حركاته ونظرته الهادئة كانت تفوح منها لامبالاة أصيلة.
لايدِن بروهايل — الأمير الوارث لعرش مملكة تولايت.
لكن دوق رونز لم ينظر إليه إلا بازدراء، وهمس بصوتٍ منخفض:
“كسبُ قلب وليّ العهد… هذا ما عليكِ فعله. سأهتم أنا بكل التحضيرات، أما أنتِ فافعلي فقط ما آمركِ به.”
ومرة أخرى، كانت أحداثٌ تجري بلا أي اعتبارٍ لإرادتها.
وحين التقت عينا رايدِن الزرقاوان اليافعتان بعينيها، لم تجد إيريل بُدًّا من أن تخفض رأسها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"