لكل إنسان سرّ أو أمر يخفيه ولا يستطيع البوح به للآخرين.
قد يكون ظرفًا صعبًا، أو ربما سرًّا دفينًا.
وكان هذا حال ساشا غرايسون أيضًا.
لقد كانت تمقت قصر ديلتون، ذاك المكان الذي قضت فيه طفولتها.
ذلك القصر العريق، بكل ما يحمله من إرث مادي وجمالي تركه الدوق الراحل، كان أشبه بقيد يخنق أنفاسها.
حين كانت في الثامنة من عمرها، ركضت ساشا الصغيرة نحو الليدي روزالين، تلك المرأة ذات النظرات الجامدة، ومدّت يدها ببراءة، تضعها على ركبة السيدة، بابتسامة مشرقة تستجدي دفئًا وحنانًا.
لكن الليدي روزالين، وقد ارتسمت على وجهها ملامح احتقار جليّ، دفعتها عنها دون تردد أو رحمة.
ومنذ ذلك اليوم، لم يشعر القصر يومًا بأنه مأوى لساشا.
في طريق العودة إلى قصر ديلتون، لم تترك ماري، الخادمة التي خصّصها لها ابن عمها جيفري غرايسون، فرصة إلا وأمطرتها بالأسئلة.
للوهلة الأولى، قد يظن المرء أنها خادمة قلقة على سيدتها، لكن كل سؤال كان محسوبًا بعناية لاستقصاء ما يدور في أعماق ساشا.
قالت ساشا بفتور:
“لقد أُرهِقت يا ماري.
سأغمض عينيّ قليلاً، أيقظيني حين نصل.”
ولم تتكلف حتى عناء التظاهر بالإجابة، بل أراحت رأسها وغرقت في نوم عميق.
استغرقت الرحلة ساعات قبل أن يصلوا إلى إيريشال في غولدنغتون، حيث يقع قصر ديلتون.
وحين فتحت عينيها، كان الليل قد أرخى سدوله.
كان جيسون، كبير الخدم، في استقبالها، وقد احتشد من حوله الخدم بوجوههم المألوفة، وكأنهم جميعًا كانوا في انتظار عودتها.
وساشا لم يصعب عليها استنتاج السبب.
سألت بنبرة هادئة:
“لا يزال السيد الشاب في الملحق، أليس كذلك؟”
أجاب جيسون:
“وقد اصطحب معه صديقين أيضًا.”
قالت، والحذر يلمع في صوتها:
“حقًا؟ وكلهم رجال؟”
“وأتى قبل يومين بثلاث سيدات أيضًا.”
علّقت ساشا بلهجة مرحة متعمدة وهي تلخص الموقف:
“إذًا، السيد الشاب استولى على الملحق بدعواته المتكررة لضيوفه.”
كانت تتوقع أن يغادروا بعد بضعة أيام من غيابها حين يملّون، لكنها أساءت التقدير.
لقد صار كسمكة وجدت ماءها، يمرح في الملحق ويملأه بضيوفه.
ثم التفتت، وحدّقت نحو الخادمة الباكية:
“لماذا تبكي تلك الفتاة؟”
كان واضحًا أن جيفري يُرهق الخدم بنزواته.
كانت يداه لزجتين تمامًا كطباعه.
تردد جيسون قليلًا، لكنه همس:
“الأمر هو…”
تدخلت ماري سريعًا:
“سيدتي، الهواء بارد الليلة.
قد تصابين بالبرد.
لندخل إلى الداخل.”
نظرت إليها ساشا بجمود، ثم أومأت برأسها:
“حسنًا.
أريد حمامًا دافئًا.
هل هو جاهز؟”
“بالطبع، سيدتي.”
—
بعد أن أنهت حمامها، باشرت ساشا جولتها لتفقد القصر.
أعادت ماري إلى عملها في الملحق، ثم استدعت الخادمة الباكية، وربّتت على كتفها، واستخرجت الحقيقة منها بحذر ومواساة.
لحسن الحظ، لم يكن ما حدث أسوأ مما كانت تخشى.
لكن إهانة جيفري تركت أثرها في نفس الفتاة، فلم تتركها ساشا حتى هدأت وغفت.
بعدها استدعت جيسون، وأمرت بمنح الخادمة إجازة حتى يرحل جيفري.
وقد بدا التأثر على وجوه الخدم، وإن ظلّت ساشا متماسكة تؤدي واجبها بعزم.
“هل لا يزال ضيوف المصحة هنا؟”
“نعم سيدتي، لكن أحدهم غادر.”
“أيهم؟ القصير أم الطويل؟”
“القصير.”
كان سيدريك أوسموند وروبرت بلوم يتحججان بالعلاج للبقاء.
ولحسن الحظ، غادر بلوم أثناء غيابها، رغم أنه كان الأكثر إصابة.
ولم تكن بحاجة لتحذير آيزاك فينشر لتدرك ضرورة الحذر منهم.
في البداية كان وجودهم وسيلة لتجنّب صداع جيفري.
وحين زادت تطفلاتهم، استخدمت جيفري لردعهم.
قال جيسون بامتعاض:
“هل أستدعيه؟ يستطيع المشي جيدًا.”
هزت رأسها:
“لقد تأخر الوقت.
وأنا مرهقة.
نتحدث غدًا.”
—
في الصباح، نهضت باكرًا، وأتمّت المهام المتراكمة.
استدعت الخدم الذين خدموا الضيوف أثناء غيابها، وسألتهم لتتأكد أن كل شيء سار كما ينبغي.
ثم طافت مع جيسون على مرافق القصر: المطبخ، والحديقة الزجاجية، والحديقة الخارجية، والإسطبلات.
لم تغفل عن أدق التفاصيل.
حين أنهت جولتها، عادت إلى غرفتها، سقت نباتاتها، أتمّت قراءة كتابها، حفظت مفردات جديدة من لغة أجنبية، ثم عادت إلى الحديقة الزجاجية لتعتني بنباتاتها.
عندها فقط ألقت بجسدها على السرير وغفت.
وحين استيقظت بعد ساعتين، لم تكن الساعة قد تجاوزت الثانية ظهرًا.
وما إن بدأت استعدادها لاستكمال مهام بعد الظهر، حتى جاءها سيدريك أوسموند.
قال بانحناءة احترام:
“آنسة غرايسون.”
استدارت إليه، وقد ارتسمت على ملامحها دهشة: “آه، أنت ما زلت هنا؟”
قال معتذرًا:
“أعتذر على زيارتي المفاجئة.
يبدو أنك منشغلة للغاية…”
“لا بأس يا سيد أوسموند.
كنت أنوي رؤيتك قريبًا على أية حال.
لا بد أنك تتساءل عن نتيجة لقائي به.”
لمعت عينه بقلق:
“هل كنت بخير؟ أشعر بقلق شديد منذ ذلك الحين… وكأننا نحن من دفعك للذهاب إليه.”
سيدريك أوسموند… لم يكن يومًا ضمن من قد تفكر بهم ساشا كزوج محتمل.
لكنها، في لحظة طيش، راقصته لجماله الأخّاذ.
لم تندم، فقد كان جماله باعثًا للدهشة، وجعلها تتساءل إن كانت سترى مثل ذلك الوجه مجددًا، وكان مهذبًا…
وهنا كان مكمن المشكلة.
لو كان فظًا لكان الأمر أيسر عليها، لكنه كان مهذبًا حتى الإزعاج.
قالت بهدوء:
“أنا بخير، سيد أوسموند.
في الحقيقة، كان الابتعاد فرصة ثمينة لالتقاط أنفاسي.”
ثم تابعت بصوت رخيم:
“كانت لانزفيلد أجمل مما ظننت.
طبيعتها ساحرة، وأهلها لطفاء.”
رأت ملامح الخجل تعلو وجهه، فأضافت:
“صحيح أنني كنت معه طوال الوقت، لكنه لم يكن وقحًا قط.
كان خجولًا حتى أنه بالكاد نظر في عيني.”
وذلك نصف الحقيقة، لذا لم تشعر بالذنب.
“غريب أن يبدو بهذا الاختلاف عن ذاك اليوم… لكنكم جميعًا كنتم قد شربتم، أليس كذلك؟”
قال مترددًا:
“أنا لم أكن ثملاً تمامًا…”
قاطعته بابتسامة:
“الكحول سبب كل المتاعب.
جدتي لطالما حذرتني منه.”
راقبت ملامحه المرهفة تنقبض خجلًا، فيما حاول استعادة وقاره.
قال:
“هل قدّم اعتذاره؟”
أشارت ساشا إلى الحديقة الزجاجية وقالت برقة:
“كنت سأحدثك عن ذلك.
هناك دفيئة قريبة… هل تود مشاركتي كوب شاي؟”
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"