قال الضابط الأعلى رتبة بنبرة خالية من الدفء:
“لقد فرغت القيادة من مناقشة قضيتك، فينشر.”
أجابه آيزاك بهدوء خافت:
“كنت عائدًا للتو من استلام التحذير الرسمي.”
“وما الذي تضمّنه؟”
“قرروا خصم راتبي لمدة ستة أشهر، بتهمة التصرف على نحو لا يليق بضابط.”
قالها ببرود تام، دون أن يطرأ على وجهه أدنى أثر للانفعال.
راقبه الميجور ويلز بدهشة متحفّظة، ثم أطلق ضحكة خاوية، غير مصدّق ثبات ملامحه:
“كان يجدر بك أن تشعر بالخزي، فينشر.
ففي الأحوال المعتادة، كانت المسألة ستحال مباشرة إلى المحكمة العسكرية، وربما واجهت السجن… أو الطرد المُخزِي من الخدمة.”
“…”
“لقد كان الجنرال ثورستون رحيماً معك على نحو خاص.
ستُعالج هذه القضية في الخفاء.
وبالطبع، فإن الشائعات قد بدأت بالفعل بالانتشار بين أبناء دائرتك… لكن ذلك أمر ستضطر لمواجهته، بصفتك من أبناء الطبقة النبيلة.”
“أفهم.”
وعند سماعه اسم ثورستون، انقبض فك آيزاك بقوة، حتى برزت عضلاته.
ولحسن حظه… أو ربما لسوئه، لم يلحظ الميجور ويلز تلك العلامة.
فهو، كغيره من الضباط، لم يكن يعلم شيئًا عمّا جرى ذات يوم بين آيزاك وذلك الجنرال.
“كان من حسن طالعك أن خصمك كان جنديًا كذلك.
بل وتبيّن لاحقًا أن بينكما معرفة سابقة… بلوم، أليس كذلك؟”
“…نعم.”
“لا تُخفِ عني شيئًا، فينشر.
ما الذي قاله تحديدًا ليستفزك بذلك الشكل؟”
صمت آيزاك لبرهة، ثم رفع عينيه نحو الضابط، بنظرة خالية من أي انفعال.
ربما كان الميجور ويلز الرجل الوحيد في الكتيبة الرابعة ممن استطاع آيزاك أن يمنحه ذرة من الثقة.
وبعد تردد قصير، أجابه بصدق:
“أهان رفاقي أولًا.”
صمت الميجور للحظة، ثم تنهد، وفرك جبينه بتعب ظاهر، قبل أن يطلب من آيزاك أن يختفي عن الأنظار لبعض الوقت، ويبقى هادئًا.
وهو ما كان آيزاك ينوي فعله من البداية؛ إذ لم يعد يشعر برغبة في فعل أي شيء على الإطلاق.
—
لاحقًا، خرج آيزاك من المكتب، وسار في الممر الحجري.
ومن خلال النافذة، لمح ضابطين في ساحة التدريب، يدخّنان بهدوء، وينفثان الدخان بينما يتأملانه بنظرات خاوية.
أشاح بوجهه بعيدًا، وتابع سيره.
“بالطبع، الإشاعات انتشرت بالفعل بين أبناء تلك الدائرة…”
راح يردد كلمات الميجور في ذهنه.
“تلك الدائرة.”
الدائرة الاجتماعية التي قضى عمره يحاول الفرار منها… وها هو الآن، مضطر للتشبث بها كما يتشبث الغريق بحبل النجاة.
“هذا هو ثمن النسب النبيل.”
وقد بلغه بالفعل أن الحادثة شقت طريقها إلى صفحات مجلة النبلاء الأسبوعية.
وكانت جدته قد أرسلت إليه رسالة تبدأ بذلك الخبر، تمطره فيها بوابل من التوبيخ، وتطالبه مرارًا بأن يبادر فورًا بالاعتذار.
يعتذر؟ لكن لمن؟
الجواب كان واضحًا.
تلك المرأة.
التي لم تكن لها يد في ما حدث، بل كانت الضحية الحقيقية.
ضيفة الشرف في تلك الليلة.
—
“الكابتن فينشر!”
صوت مألوف ناداه بينما كان يسير بوجه متجهم. استدار، فرأى مساعده واقفًا، شاحب الوجه كعادته.
“لديك زائرة.
أعتقد أنه عليك أن تأتي فورًا.”
لقد جاءت.
“يسعدني رؤيتك مجددًا، كابتن فينشر.
أنا ساشا غرايسون.”
جاءت بنفسها.
كأنها كانت تعلم سلفًا أنه لن يجرؤ على الاعتذار، ولا حتى على طلب لقائها.
لذا، قررت أن تأتي إليه بنفسها.
وقف آيزاك كالصنم، يحدّق فيها بجمود.
أشار مساعده بعينيه نحو الباب، ثم أغلقه خلفه بهدوء.
قال آيزاك بتردد: “تفضّلي بالجلوس.”
أجابته بلطف وجلست بلا تردّد على الأريكة المقابلة. جلس هو بتوتر، على الكرسي المواجه، بينما هي تبتسم بأدب.
كان وجهها، الذي يُطل من تحت قبعتها ذات اللون الأخضر الطحلبي، شاحبًا كالدقيق، ملامحها صغيرة ومتناسقة، خالية من العيوب.
“هكذا إذًا تبدين” قال في نفسه.
وحتى في فكره، بدا تعليقه فظًّا بعض الشيء.
قبض على ذراعي المقعد بقوة، وساقه تتقاطع دون وعي.
كانت تراقبه بابتسامتها وعينيها الخضراوين.
“أرسلت إليك رسالة، لكنك لم ترد.”
ها هو السبب وراء قدومها المفاجئ. التقت نظراته، لكنه أشاح ببصره، متوترًا.
قالت برقة: “فكرت في الانتظار، لكن… كانت لدي أسبابي الخاصة.
هل…؟”
“…”
“لم تقرأها، أليس كذلك؟ على الأرجح كنت منشغلًا.”
قالتها بتفهم، بنبرة هادئة، وابتسامتها تزداد لطفًا.
تذكر آيزاك صراخها تلك الليلة، وكيف سكبت عليه الماء، ووجهها الساكن المعتاد الذي تغيّر تمامًا في لحظة، بين الدهشة والغضب.
“…”
“تلك الليلة…”
نطق أخيرًا، بتردد واضح.
قاطعته بهدوء:
“هل تذكر ما حدث؟ ألم تكنما ثملين؟”
تنهد آيزاك، وأشاح بوجهه:
“أتذكّر كل شيء.”
“…”
“الخلاف كان بيني وبين ذلك النذل، لكن عندما أفقت…”
رغم محاولتها تهدئته، تجاهلها آيزاك كليًا، ووجّه غضبه كلّه نحو روبرت.
حتى بعد أن سُكب عليه الماء، واصل لكماته، ثم دفعه مجددًا حين حاول الرد.
سقطت طاولة الحلوى، وتلطّخ روبرت بالكريمة، ثم اندفع نحوه مجددًا.
لكن الضربات التالية لم تأتِ لا من آيزاك ولا من بلوم، بل من رجلين اندفعا إلى المشهد وبدآ يتعاركان.
ولم يكن الصخب محصورًا عليهما؛ في الخلف، كانت امرأة تصرخ في وجه شاب – ربما ابنها – تطلب منه الابتعاد عن ناظرها.
وفي أحد الأركان، كان رجل عجوز يجمع ما تبقى من الكعكة من الأرض، ويلعق الطبق بوقار يثير الاستغراب.
في تلك اللحظة، أدرك آيزاك أن الأمور خرجت بالكامل عن السيطرة.
فوضى كاملة.
“كان الجميع مفرطين في الحماسة.
هكذا تكون الحفلات، أليس كذلك؟ الجو كان مناسبًا، والكحول حاضرة، والعرض جاء في وقته.”
كلماتها الرزينة بدّدت تلك الصور من ذهنه.
قال بخجل:
“أشعر بالخزي.”
“…”
“أعتذر عمّا بدر مني، آنسة…”
“غرايسون.”
“آنسة غرايسون.”
ابتسامتها المثالية لم تتغيّر، لكنها أربكته أكثر.
“كم تعرفين عني، حقًا، كابتن؟”
“أعرف اسمك.”
“لكنك لم تتذكر حتى اسم عائلتي قبل قليل.”
“سارة غرايسون.”
“ساشا غرايسون.
لقد قدّمنا أنفسنا بالفعل.
أنت لا تعرف عني شيئًا، ولا يبدو أنك تهتم أصلًا.”
رغم قسوة كلماتها، إلا أنها قالتها وهي تبتسم.
لم يجد آيزاك ما يبرّر به موقفه.
“أنتِ محقة.
لا أعرف الكثير، آنسة غرايسون.
حضرت تلك الحفلة فقط تلبيةً لرغبة جدتي… وما عرفته عنك، سمعته من ابن عمي ذلك اليوم.”
“وماذا قال عني؟”
شعر وكأنه يخضع للاستجواب.
تحرّك في مقعده بقلق، رغم ضخامته.
“قال إنك ورثت الكثير عن الدوقة الراحلة.
وإنك اعتنيت بها طويلاً، حتى لم تجدي وقتًا لتكوين صداقات.
لذا كانت تلك الحفلة…”
شاركها أكثر مما ينبغي، كعادته حين يُفسد العلاقات.
قالت، مقاطعة إياه برفق:
“نعم، كانت تلك أول مرة أُقدّم فيها رسميًا.”
وتمتمت بنبرة بالكاد تُسمع:
“كانت ليلة مهمة بالنسبة لي.”
ولم تكن تبتسم بعد الآن.
“على أي حال، انتهت الحفلة بكارثة، وتحوّلت إلى مادة لصحف المجتمع.
الجميع الآن إما يشفق عليّ… أو يسخر مني.”
قال بسرعة:
“أنا آسف.”
ترددت في ذهنه كلمات جدته من جديد:
اعتذر.
“كابتن.”
وقبل أن ينبس بشفة، قاطعته:
“يكفي.”
“…”
“لا مزيد من الاعتذارات… لي، على الأقل.”
ابتسمت ابتسامة هادئة.
“أقدّر نيتك، لكنني لم آتِ لهذا السبب.”
وأخيرًا، وصلت إلى لبّ ما تريد.
“كيف يمكنني أن أعوّضكِ؟”
سأل، كمن كان ينتظر الفرصة.
نظرت إليه بصمت، ثم قالت بهدوء:
“وإلى أي حدّ يمكنك أن تمضي؟”
“إلى أقصى ما أستطيع.
حتى لو استغرق الأمر وقتًا، سأعوّضك، شيئًا فشيئًا.”
ابتسمت مجددًا، ابتسامة ساكنة، تكاد تكون مرسومة.
“هذا ليس نوع التعويض الذي أريده، كابتن.”
ثم أردفت، بلهجة أخف:
“هل يمكنك أن تعتذر؟ للرجل الذي تشاجرت معه تلك الليلة؟”
حدّق فيها بلا تعبير، كما فعلت هي من قبل.
لكنها لم تتراجع.
“كلا، أعني…
هل يمكنك أن تعتذر للرجل الذي ضربته حتى عجز عن الدفاع عن نفسه؟”
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"