الفصل التاسع والعشرون
*************
لم يمضِ على معرفة ساشا بهذا الرجل شهرٌ كامل بعد.
أم أنّه مرّ شهرٌ بالضبط؟
حسنًا، لا تعرف على وجه الدقة.
على أيّ حال، كانت المدّة قصيرة جدًا لاتّخاذ قرارٍ مصيريّ مثل الزواج، وهذا أمرٌ لا يتغيّر.
متى كان يرفضها بقسوة، والآن يطالبها، بل يكاد يجبرها، على الزواج منه.
لماذا؟ هل أحبّها خلال هذا الشهر القصير؟
حبّ؟
شعرت ساشا بغثيانٍ غريب يعتمل في داخلها.
كان شعورًا عجيبًا حقًا.
لم يكن مشابهًا للغثيان العاديّ.
لم تستطع تحديد كيف تسمّي هذا الشعور أو كيف تصفه، ولم تستطع حتّى استيعابه.
لذا حاولت بكلّ قوتها أن تركّز فقط على الوضع الملحّ الذي تواجهه.
كان آيزك محقًا.
كانت في عجلة من أمرها.
أرادت أن تجد رجلًا يناسب شروطها بأسرع ما يمكن، أن تتزوّج، تكمل المدّة المطلوبة، تأخذ المال، ثمّ تترك كلّ شيء خلفها وترحل.
أصبح عقلها في حالة صراع.
ذلك الغثيان والقلق اللذان لا تستطيع تفسيرهما لم يكونا بمقدورهما مواجهة العقلانيّة الباردة التي تفحّصت الواقع بقسوة.
بدأ الحرّ الذي أشعل وجنتيها يهدأ تدريجيًا.
نظرت ساشا إليه بوجهٍ أكثر هدوءًا من ذي قبل.
“سأسألك سؤالًا واحدًا فقط.”
قالت،
“أيّ شيء.”
أجاب آيزك بنبرة متسرّعة قليلًا.
كان يعرف، حتّى في نظر نفسه، أنّه يبدو غريبًا بعض الشيء.
لكنّه اعتاد أن يُعامل كشخصٍ غريب الأطوار.
لقد عاش حياته وهو يُعامل كشخصٍ غريب، بل ومثير للريبة بالنسبة للجميع، فما الجديد في ذلك الآن؟
“هل تشفق عليّ؟”
كان سؤالًا غير متوقّع.
توقّع آيزك سؤالًا أكثر إحراجًا، فرفع حاجبيه ونظر إليها.
“…لا.”
“آه، حسنًا.”
أجاب بنبرة متردّدة، فردّت ساشا كأنّها تقول:
“إذن، لا بأس.”
“لماذا فكّرتِ بهذا؟”
“لأنّك تبدو أقلّ إلحاحًا منّي. بدا وكأنّك تحاول مساعدتي، حتّى لو كان ذلك تحت ذريعة التهديد، فتساءلت.”
شرحت ساشا بهدوء تام.
نظر آيزك إليها بعينين شاردتين قليلًا، ثمّ سأل:
“وماذا لو قلت إنّني أشفق عليكِ بالفعل؟”
“لم أكن لأنزعج. يا نقيب، بل على العكس، لو كنتَ تساعدني بدافع الشفقة الصادقة، لكنتُ شكرتك بكلّ سرور وقبلتُ ذلك.”
شعر آيزك أنّ هذا الحديث يزداد غرابة.
“…إذن، بما أنّني قلت إنّني لا أشفق عليكِ، هل سترفضينني؟”
كأنّه شخصٌ محاصر، كأنّه الخيار الوحيد المتاح، والآن هذه المرأة تعامله بهذا الموقف وكأنّها تسخر منه.
بل، الآن يبدو أنّها تضع حدودًا واضحة.
“…”
“…”
كان هو من طلب منها طوال الوقت ألّا تتجاوز الحدود.
هكذا كان يفكّر بنفسه.
لكن الآن، يبدو أنّها هي من تقول:
“لن أتجاوز حدودك أبدًا، فلا تدخل حدودي.”
نظرت ساشا إليه دون أن تجيب.
كان وجهها لا يزال محمرًا بسبب الانفعال السابق، لكنّ عينيها لم تكونا مشوّشتين كما كانتا من قبل.
“إذًا، لا أعرف لماذا تُصرّ عليّ إلى هذا الحد، يا نقيب.”
قالت بنبرة متعالية للغاية.
على الرغم من أنّها في موقفٍ يُشبه السقوط من حافة الهاوية، كانت كأنّها تقول
“هل تساعدني حقًا بدافعٍ نقيّ؟”
، وكأنّها شخصٌ مليء بالشكوك يطلب التأكيد مرارًا.
ثمّ أضافت:
“على أيّ حال، لا يمكنني رفض حسن نواياك.”
مدّت يدها.
نظر آيزك إلى يدها الممدودة نحوه بشيء من الذهول.
“هل تطلبين تحيّة؟” فكّر، وهو يرفع يده بحذر ليقبّل ظهر يدها، لكنّها أمسكت يده بسرعة ورجّتها بلطف.
كانت مجرّد مصافحة بسيطة.
“…لا أعرف إن كنت ساذجًا أم طيّبًا.”
نظر آيزك إلى يدها الصغيرة التي تمسك يده الكبيرة بشيء من الذهول، ثمّ ردّ بنزق:
“لستُ كذلك على الإطلاق.”
* * *
لم يتوقّف المطر.
أصبحت القطرات أكثر غزارة، وتحوّلت الطرق إلى مستنقعات طينيّة، وكانت حالة لانسفيلد سيّئة بشكل خاصّ بسبب سوء صيانة الطرق.
رفضت الخيول الجري، وعلى أيّ حال، كانت عجلات العربة على وشك الغرق في الطين بعد مسافة قصيرة.
لذلك، اضطرّت ساشا إلى قضاء ليلة في لانسفيلد.
بما أنّها أصبحت مخطوبةً لآيزك فينشر شفهيًا، لم يعد لديها ما تفعله في لانسفيلد.
يمكنها التعامل مع الأمور المستقبليّة عبر الرسائل، وربّما لن تحتاج إلى رؤيته وجهًا لوجه حتّى يوم الزفاف.
لكن في صباح اليوم التالي، عندما خرج آيزك لتوديعها، سألها فور رؤيتها:
“متى ستأتين مرّة أخرى؟”
لم تتوقّع ساشا أن يخرج لتوديعها، فكانت مشوّشة بعض الشيء من هذا التصرّف.
“حسنًا، ألا يعني ذلك أنّني لست بحاجة للعودة إلى هنا؟”
كادت أن تقول هذا، لكنّها أغلقت فمها.
ثمّ أنزلت عينيها بتردّد وقالت:
“حسنًا، لا أعرف.”
ردّ آيزك: “حقًا؟”
بنبرة فاترة، ثمّ مدّ يده الكبيرة لها وهي تصعد إلى العربة.
“سأرسل رسالة.”
قالت ساشا وهي تمسك يده وتصعد إلى العربة.
لسببٍ ما، شعرت أنّ هذا الحديث يسبّب وخزًا غريبًا.
على الرغم من أنّهما لم يعودا بحاجة إلى لقاءات إلزاميّة بحجّة التعرّف على بعضهما، إلّا أنّ الشعور كان وخزًا غريبًا.
“سأبدأ بإعداد العقد فور عودتي. بمجرّد الانتهاء من المسودّة، سأرسلها إليك، فيرجى مراجعتها وإخباري بأيّ شيء تريد إضافته.”
“عقد؟”
“نعم.”
كان آيزك يستمع إلى كلام ساشا بوجهٍ غريب بعض الشيء، وعندما اقتربت ماتيلدا لتحيّيها، أفلت يد ساشا بسرعة.
لم يدرك أنّه كان لا يزال يمسك يدها.
عندما أدرك ذلك متأخرًا، احمرّ وجهه.
حيّت ساشا ماتيلدا بوجهٍ هادئ، ثمّ وجّهت تحيّة رسميّة لهما مرّة أخرى، وهي تلوّح بيدها.
أغلق السائق باب العربة، وعدّلت ساشا جلستها.
انطلقت العربة، وهي تسير على الأرض الطينيّة المبلّلة من مطر اليوم السابق.
“يبدو أنّ مشكلتكما قد حُلّت، وهذا جيّد.”
قالت ماتيلدا لآيزك بابتسامة خفيّة، لكنّ آيزك، بدلًا من التذمّر بنزق كعادته، بقي صامتًا.
كلّ هذا الحديث عن العقود وما إلى ذلك لم يكن سوى نقاشٍ إداريّ خالٍ من أيّ لمسة رومانسيّة، لكن لسببٍ ما، كان قلبه ينبض بشدّة لا يطيقها.
رفع آيزك كفّ يده ليمسح خدّه.
يا إلهي، كان ساخنًا.
“…اللعنة.”
لم يكن فتى مراهقًا يمرّ بمرحلة البلوغ، لكنّه شعر بتدفّق عواطف متلاطمة.
التعليقات لهذا الفصل " 29"