الفصل الحادي والعشرون
*********
“أيّها الأحبّة، لقد اجتمعنا اليوم أمام الاله، وأمام هذا الجمع، لنربط هذين الشخصين برباط الزواج المقدّس.”
بدأ الكاهن يتلو كلمات الزفاف ببطءٍ مرة أخرى.
نظر آيزك بعيونٍ خالية من الاهتمام إلى رأس الكاهن الأصلع اللامع.
لكن المرأة الجالسة إلى يساره بدت مهتمّةً جدًا بالزفاف.
لم تستطع إزاحة عينيها عن العروس، وعندما ابتسم الرقيب والتر لعروسه، تبعتها بابتسامةٍ مماثلة.
كانت ملامحها تعكس حماسًا وكأنّها حقًا تحضر زفافًا لأول مرة.
تذكّر آيزك اقتراح الزواج الذي قدّمته له فجأة قبل أيام.
قالت إنّه يكفي أن يتظاهرا بأنّهما زوجان لمدّة عامٍ واحد فقط، بنفس الابتسامة التي ترتسم على وجهها الآن، وكأنّها تسخر من هذا العهد الزوجي المقدّس.
“هل ستحبّها، وتعزّها، وتحترمها، وتعتني بها في الصحة والمرض، متخليًا عن الجميع من أجلها وحدها، طالما أنّكما على قيد الحياة؟”
تسلّلت كلمات العهد التي يتلوها الكاهن بصوتٍ جاف إلى أذني آيزك.
ثمّ وجّه الكاهن السؤال إلى العروس.
لم يعد آيزك يسمع كلمات الكاهن.
كان مشغولاً بالنظر إلى المرأة الجالسة إلى يساره، متذكّرًا تلك اللحظة التي اقترحت فيها الزواج ببرودٍ وكأنّها تتحدّث عن صفقة تجاريّة.
“الآن، لقد وافق الاثنان على الزواج المقدّس، وأثبتا ذلك أمام الاله وأمامكم جميعًا.”
صفق الحضور، لكن آيزك كان لا زال ينظر إليها.
كانت تصفّق مع الجميع ببراءةٍ وكأنّها تحتفل بفرح الآخرين، ثم شعرت بنظراته متأخرةً فأدارت رأسها نحوه.
نظرت إليه.
ثم، كما لو تذكّرت شيئًا فجأة، توقّفت عن التصفيق وسألت:
“هل فكّرتَ في الأمر؟”
الآن، بعد كلّ هذا.
* * *
أُقيم حفل الاستقبال في ساحة القرية.
تدفّق الحضور الذين كانوا يزدحمون في الكنيسة إلى هناك، فأصبح المكان مكتظًا لدرجةٍ لا مكان فيها لوضع قدم.
كان هذا الوضع هو الأكثر إزعاجًا لآيزك.
ابتعد مبكرًا عن الحشد، واقفًا بقامته الطويلة بعيدًا، ينظر إلى الجميع من الأعلى.
كان يراقب رؤوس الأطفال الصغار وهم يتحرّكون هنا وهناك كما لو كانوا كرة.
لم يعتد آيزك بعد على هذا الجوّ البسيط والحميم للغاية في لانس فيلد.
كانت وحدته الخاصّة سابقًا في منطقة جبليّة أكثر وعورةً من هنا، وكان الناس هناك يتجنّبون الجنود بنظراتٍ متوجّسة.
“فينشر.”
“سيدي الرائد.”
اقترب الرائد ويلز من آيزك، الذي كان واقفًا كالتمثال، وقدّم له كأس خمرٍ فاكهيّة تشبه جوّ الزفاف المبهج بشكلٍ مزعج.
ما إن ارتشف آيزك رشفةً حتّى شعر بحدّة الكربونات على لسانه.
عبس آيزك.
“لا تفعل هذا، يا عزيزي، هيا، ارقص.”
نظرت ماتيلدا إلى زوجها بنظرة تحذيريّة، وأمسكت بذراعه وسحبته.
ألقت نظرةً جانبيّة على آيزك وكأنّها تلومه على شيء.
لم يكترث آيزك، وارتشف رشفةً أخرى من الخمر الفاكهيّة.
بدأت الفرقة الموسيقيّة التي وصلت لتوّها تعزف لحنًا مبهجًا، فتجمّع الأزواج ليبدأوا الرقص.
كانوا يستعدّون للرقص مع شركائهم دون أيّ حرجٍ أو تردّد.
في هذا الجوّ الحار الخالي من بطاقات الرقص، كانت تلك المرأة موجودة.
نظر آيزك بعيونٍ شاردة إلى ساشا غرايسون وسط الحشد.
كانت تبرز أكثر من الآخرين، تبتسم بلطفٍ لشابٍ يقف أمامها.
راقبها آيزك وهي ترقص مع ذلك الشاب.
دون أن يدرك، ضيّق عينيه وراح يتفحّص الشاب بعناية.
بدا الشاب يرتدي ملابس أنيقة، لكنها عاديّة.
لم يكن ذلك الوريث من عائلة هامبشاير، الذي كان يرتدي ملابس من قماشٍ فاخر بوضوح.
حسنًا، وما الذي يهمّ في ذلك؟
“هل ترقص معي الأغنية القادمة؟”
بينما كان آيزك يهزّ رأسه، اقتربت فتاةٌ فجأة وسألته.
كانت فتاةً من القرية، لم يتعرّف عليها آيزك، لكنّها كانت الفتاة التي حصلت على باقة العروس للتوّ.
“لا، شكرًا.”
لم تبدُ الفتاة محرجةً برفضه، وقالت:
“يبدو أنّه ليس لديك شريك.”
نظر آيزك إليها ببرودٍ دون ردّ.
رفعت الفتاة حاجبيها، نقرت بلسانها، ثم ابتعدت.
كان مساعده فيليكس محقًا.
كان آيزك يتمتّع بشعبيّةٍ هنا.
على عكس النبلاء، لم يكن أهل لانس فيلد يعرفون الشائعات السخيفة التي تحيط به، ولا عن الأفعال الوقحة التي نسبها النبلاء إليه.
بالنسبة إليهم، كان مجرّد شخصٍ يبدو صعب الاقتراب منه.
على الرغم من قامته المخيفة، كانت تصرفاته هادئةً بشكلٍ غريب، ممّا أثار فضولهم أكثر.
عادت الفتاة التي حصلت على الباقة إلى مجموعتها وقالت:
“رفضني.”
تبادلت الفتيات النظرات.
نهضت فتاة ذات شعرٍ قصير بعد أن أفرغت كأسها وقالت:
“حسنًا، سأحاول هذه المرّة.”
…وقف آيزك فينشر بملامحَ تبدو شرسة، يعضّ على أسنانه.
كان واضحًا أنّهنّ يتراهنّ فيما بينهنّ.
كلّما طرد واحدة، تأتي أخرى، ثم أخرى.
كنّ جميعًا مخموراتٍ إلى حدٍّ ما، يتفحّصن جسده العضلي بجرأة، ويطلبن منه الرقص.
كنّ جريئاتٍ جدًا.
إحداهنّ حتّى نظرت إليه بنهمٍ واضح.
كان واضحًا أنّهنّ يعبثن به، لكن الناس حوله بدلاً من ردعهنّ، كانوا يضحكون ويتسلّون.
حتّى أنّ أحدهم قال مازحًا إنّه لو كان مكانه لاختار إحداهنّ بالفعل.
…يا له من مكانٍ ريفيٍّ ملعون.
تمتم آيزك بلعنةٍ خافتة في نفسه وغادر المكان بسرعة.
لكن قامته التي تفوق الرجل العادي بمقدار رأس جعلته ملحوظًا أينما ذهب.
صاحت فتاة كانت على وشك الاقتراب منه بملامحَ ساخرة:
“إلى أين أنت ذاهب؟”
اندفع آيزك دون تفكير بين الراقصين.
“لحظة، لم آتِ لأرقص…”
تمتم بسرعة، لكن رجلاً قصيرًا ممتلئًا أمسك بيده بلا تردّد، وبدأ يدير آيزك الطويل بسرعة.
…يا للعنة.
شعر بدوخةٍ كالغثيان.
حتّى عندما كان على متن سفينةٍ في عاصفة لاقتحام إحدى الجزر، لم يشعر بهذا القدر من الدوار.
كانت الفرقة تعزف الآن لحنًا أسرع، ومع ذلك، دار آيزك بسرعةٍ أكبر.
كيف لرجلٍ أقصر منه بكثير أن يملك هذه القوّة؟
عندما تمكّن آيزك أخيرًا من الإفلات منه، أمسكت به امرأةٌ في منتصف العمر ذات مظهرٍ ودود كما لو كانت تنتظر دورها.
أُجبر آيزك على الرقص معها دون أن يعرف ما يفعل.
وعلى الرغم من نفوره الواضح، وبّخته المرأة ليسرّع خطواته.
كان الجميع هنا مخمورين، خارجين عن السيطرة.
“لم ينتهِ الأمر بعد!”
“اتركيني.”
لم يعد آيزك يطيق الأمر، فاستدار ليغادر.
لكن قبل أن يخطو خطوة، أمسك أحدهم بكمّه وسحبه بقوّة.
“قلت اتركيني!”
صرخ آيزك بنبرةٍ حادّة وملامحَ مشتعلة، ثم أغلق فمه فجأة.
كانت ساشا، التي كانت تبتسم ببراءة، تنظر إليه بقليلٍ من الارتباك بسبب ردّه العنيف.
“…”.
“نقيب، هل أنت بخير؟”
سألته ساشا بملامحَ قلقة.
لكن عندما دفعها شخصٌ من الخلف، أمسكت بيده دون قصد وسحبته.
كانت الموسيقى لا زالت تعزف، وكانا يتحرّكان ببطءٍ بين الحشد، لا يرقصان تمامًا ولا واقفان تمامًا.
“…وجهك شاحب.”
قالت ساشا وهي تنظر إليه.
عندما سألته إن كان قد فكّر في اقتراحها، ردّ بنبرةٍ حادّة “لا”، فضحكت كما لو كانت تتوقّع ذلك دون أيّ ندم.
بسبب حركتهما البطيئة، دفع رجلٌ من الخلف ساشا مجدّدًا.
مدّ آيزك يده الكبيرة، لفّها حول ظهرها، وسحبها نحوه.
اقتربا فجأة.
لا بدّ أنّ الخمر الفاكهيّة التي شربها كانت فاسدة.
كان المكان يعجّ برائحة الخمر من المخمورين، والموسيقى صاخبة، وكان الجميع يضحكون بصخب.
نظر آيزك إلى المرأة التي كانت تستمتع بهذا الحفل بملامحَ أكثر حماسًا من قبل.
نعم، على عكسه، بدت ساشا غرايسون مستمتعة.
“…على أيّ حال.”
بغضّ النظر عن ذلك، أخذها آيزك وخرج من هذا الحشد المجنون.
“علينا الخروج من هنا.”
التعليقات لهذا الفصل " 21"