لم يجب أحد. كانوا جميعًا جمهورًا صامتًا، يحدقون بها بنظرات ثاقبة، كأنها عرض يُقدم لهم على طبق من فضة. ثيودورو، الذي كان يرفع كأسه إلى شفتيه، لم يحرك رأسه المغطى بقبعة فيدورا، ولم يلتفت إليها ولو للحظة. ماوريتسيو، الذي بدا شاحبًا كالأشباح، كان يتمتم بكلمات مرتبكة، عاجزًا عن التصرف. الوحيد الذي رد على كلامها كان أنطونيو، الذي كان يتودد إلى ثيودورو بنبرة متملقة.
“ما هذا؟ لا زلتِ هنا؟” قال أنطونيو بسخرية، وهو يقترب من ليليا بخطوات متعجرفة. أمسك بذقنها بقوة، كأنه يمتلكها. “يا إلهي، انظروا إلى هذه الفتاة! بشرتها البيضاء الناعمة وملامحها الرقيقة تجعلها تبدو كملاك. ألا ترون أنها مثالية لتكون واجهة نادي لورا؟ لقد كانت تتوسل للحصول على عمل منذ البداية!”.
عندها فقط تحركت عينا ثيودورو، لتستقر عليها كسهام تخترق الروح. كانت عيناه، كالعادة، غارقتين في تعب عميق، كأنهما لا تريان شيئًا بعينه، بل تنظران إلى العدم. في تلك اللحظة، عادت إلى ذهن ليليانا ذكرى أليمة من حياتها السابقة، آخر مشهد من تلك الحياة: ثيودورو يضع فوهة المسدس على جبهتها، ينظر إليها بصمت قاتل، دون أن ينبس بكلمة.
“…آه!” شعرت وكأن أنفاسها توقفت في حلقها. كان الأمر كما لو أن المسدس سيظهر في يده في أي لحظة، كما حدث في ذلك اليوم المشؤوم. أمسكت قبضتيها بقوة حتى شعرت بألم الأظافر وهي تغرز في جلدها، تاركة قطرات دم صغيرة.
‘لا، لا يمكنني الانهيار الآن!’ فكرت، وهي تحاول استعادة رباطة جأشها. كانت تعلم أن أمامها أيامًا طويلة مليئة بالتحديات، ولا يمكن أن تترك هذه اللحظة تفسد بدايتها. قاومت الرعشة التي انتشرت في ساقيها، وفتحت فمها مرة أخرى، موجهة كلامها مباشرة إلى ثيودورو، وإليه وحده.
“دعني أغني أغنية واحدة على الأقل.”
ساد صمت بارد كالجليد في الحانة، كأن كلماتها كانت حجرًا ألقي في بركة ساكنة. ثم، من مكان ما، تسرب صوت ضحكة مكبوتة، كمن يحاول جاهدًا ألا ينفجر. كان ذلك الشرارة التي أشعلت موجة من الضحك الهستيري بين أعضاء المنظمة، الذين ضجوا بالقهقهات حتى اهتزت جدران الحانة.
“هههه! تريد أن تغني أغنية!” صاح أحدهم.
“ماوريتسيو، أعطها ميكروفونًا، هيا!” أضاف آخر، وسط ضحكات صاخبة.
أمسك ماوريتسيو جبهته، وهو يهز رأسه بنظرة تعكس شفقة واضحة على ليليانا. كانت نظرته تقول إنها وقعت في موقف لا تُحسد عليه. لكن ليليانا، رغم الإهانة التي شعرت بها وسط هذا الصخب، ظلت عيناها مثبتتين على ثيودورو. لم يهمها من يضحك أو يسخر. كل ما يهمها هو كسب اهتمامه، هو وحده.
‘قل شيئًا، أي شيء! قل لي أن أجرب، أو حتى قل لي افعلي ما شئتِ، لكن تحرك!’ توسلت في داخلها. لكن وجه ثيودورو ظل خاليًا من أي تعبير، كأنه لم يسمع شيئًا، ولم يرَ شيئًا. رفع كأسه مرة أخرى، كأنه يتجاهل وجودها تمامًا.
‘آه…’ لم تكن تتوقع أن يرحب بها بحفاوة، لكن أن يتجاهلها بهذا البرود لم يكن في حسبانها. كان الأمل واليأس وجهين لعملة واحدة، وكانت آمالها التي بنتها بعناية تتحطم في لحظة. لكن بقايا أمل صغيرة ظلت متمسكة بقلبها، تجعلها غير قادرة على رفع عينيها عنه.
في هذه الأثناء، كانت قد أصبحت مادة للسخرية. أنطونيو، الذي عاد إليها، أمسك بها من ذراعها، وهو يهمس بنبرة مقززة: “إذن، تريدين العمل بين هؤلاء الرجال القساة؟ حسنًا، سأجعلكِ تعملين معي بدءًا من اليوم. سأدعكِ تغنين كما تشائين. ألم أقل لكِ إنكِ ستحظين بالكثير من الاهتمام؟”.
مد يده، ومرر أصابعه على شعرها الأبيض الناعم بحركة مقززة، كأنه يمتلكها. “هذا الشعر الطويل المتدلي… يجب أن نرفعه أو نقصه.” ثم جال بنظره على جسدها بنظرة فاحصة جعلتها تشعر وكأنها عارية، رغم ملابسها. “ولماذا هذا الفستان الطويل؟ هل سرقتِ ملابس جدتكِ؟”
ضحك المتفرجون بصخب، كأنهم يستمتعون بعرض ترفيهي. رفع أنطونيو زاوية فمه، وهو يلعق شفتيه بنظرة خبيثة، ثم صرخ إلى أحدهم في الخلف: “يا لورينزو، ألقِ لي سكينًا!”.
“سكين؟ لماذا؟ هل ستـ…” بدأ لورنزو يسأل بحذر.
“هل تعتقد أنني سأؤذي هذه الفتاة الثمينة؟ هيا، أعطني إياها!”.
طار الخنجر في الهواء، فالتقطه أنطونيو بمهارة، ثم مد يده نحو ليليانا.
زيييك! زيييك!
تحت يده الخشنة، تمزق طرف فستانها بقسوة، تاركًا القماش ممزقًا بشكل عشوائي. حاولت ليليانا أن تتحرك، لكن جسدها تجمد من الصدمة. كانت أفكارها تدور بسرعة، تبحث عن مخرج، لكن لا شيء بدا واضحًا.
فجأة، بدأ الصخب في الحانة يهدأ تدريجيًا. تلاشت الضحكات، وحل مكانها صوت خطوات خفيفة تقترب. التفتت ليليانا، فرأت ثيودورو يقف فجأة، ممسكًا بزجاجة خمر، ويتحرك نحوها ببطء.
‘ما الذي يحدث؟’ فكرت، وهي تحاول فهم نواياه. حتى أعضاء المنظمة بدوا مرتبكين، يتبادلون النظرات بحذر. لكن بعضهم، كأنهم يعرفون ما سيحدث، أخفضوا رؤوسهم بوجوه متجهمة.
أنطونيو، الغافل عن كل شيء، استمر في حديثه: “هذه الفتاة لديها ساقان مذهلة…”.
باك!
قاطع صوت ضربة قوية كلامه. انهار أنطونيو على الأرض، ممسكًا برأسه، وهو يتلوى من الألم. كانت عيناه مقلوبتين، وجسده يرتجف. في عيني ليليانا الخضراوين المذعورتين، انعكس مشهد ثيودورو وهو يحمل زجاجة الخمر التي ضرب بها أنطونيو. قطرات دم صغيرة كانت تتساقط من حافة الزجاجة.
توقفت الموسيقى التي كانت تعزف في الحانة منذ لحظات، وساد صمت ثقيل كالرصاص. في هذا الهدوء المخيف، دوى صوت ثيودورو البارد: “لا تتصرف كالوغد في حانتي. إذا أردت أن تكون سفيهًا، اذهب إلى ناديك الغبي.”
رمى الزجاجة على الأرض، فتدحرجت بصوت مكتوم، واختلط الخمر المتسرب منها بالدم، ملوثًا الأرضية الخشبية.
حدقت ليليانا بالمشهد بذهول، عيناها الواسعتان ترتجفان. كانت تعلم أن ثيودورو لم يتحرك لحمايتها، بل لأنه لم يطق رؤية أنطونيو يعبث في مكانه. لكن هذا الحادث، الذي وقع في لحظة، كان أكثر مما تستطيع تحمله. على الرغم من أنها ساعدت واين في الماضي، إلا أنها لم تتعرض أبدًا لمثل هذا العنف المباشر. بالنسبة للآخرين في الحانة، كان هذا مشهدًا مألوفًا.
تحرك بعض الأعضاء بسرعة وهدوء، يحملون أنطونيو الفاقد للوعي إلى الخارج. في غضون لحظات، كان ماوريتسيو ينظف الفوضى بمهارة، كأن هذا روتين يومي. عادت حانة دي لوسيا إلى هدوئها المعتاد، كأن شيئًا لم يكن. الفرق الوحيد كان غياب أنطونيو الصاخب، وتوقف الموسيقى، مما جعل المكان غارقًا في صمت غريب.
“من الأفضل أن تذهبي الآن،” قال ماوريتسيو، وهو يربت على كتف ليليانا بلطف. استفاقت ليليانا من صدمتها، ونظرت حولها. كان الجميع قد عادوا إلى محادثاتهم الهامسة، غير مبالين بها تمامًا.
“آه…” أدركت أنها لم تكن سوى غريبة في هذا العالم، مجرد شخصية عابرة في مشهد عابر. كانت هذه الحقيقة واضحة كالشمس، لكنها لم تستطع قبولها.
عضت شفتها السفلى بقوة، متجاهلة الرعشة التي لا تزال تعتري جسدها. ‘إذا كنتِ أعتقد أن دخول هذا العالم سيكون سهلاً، لما بدأت أصلاً.’ اشتعلت عيناها بنظرة مليئة بالتصميم، وهي تمسك بقايا فستانها الممزق. “لم أغنِ أغنية واحدة بعد.”
“هاه…” شعرت ليليانا بيد ماوريتسيو تفقد قوتها على كتفها بعد التنهيدة.
“بعد كل ما حدث، لا زلتِ تقولين هذا؟” قال بنبرة متعبة. “اللعنة، أنتِ أول امرأة أراها بهذا الجنون!” هز رأسه، واستدار، كأنه يقول إنه حذرها بما فيه الكفاية، وما سيحدث بعد ذلك ليس مسؤوليته.
راقبت ليليانا ظهره وهو يبتعد، ثم أخذت نفسًا عميقًا لتهدئ أعصابها. ‘يجب أن أفعل شيئًا. إذا خرجت الآن كفتاة خائفة، لن أستطيع أبدًا العودة إلى هنا.’
حاولت تذكر الأغنية التي كانت تعزف في الحانة قبل قليل. “آه، نعم، كانت لدوريس داي.” بحثت في ذاكرتها عن أغنية أخرى شهيرة لها: أحلم حلمًا صغيرًا عني. كانت أغنية معروفة جدًا، فلن تنسى كلماتها. لكن فمها كان مترددًا، وشفتها السفلى ترتجف بخفة.
‘لن يقتلوني لمجرد غناء أغنية، أليس كذلك؟ لا داعي للخوف. فقط افعليها.’ اتخذت قرارها في لحظة. لم يعد هناك مجال للتردد.
وقفت في مكانها، أغلقت عينيها بقوة، وفتحت فمها.
“تتألق النجوم فوقك… “.🎤
تردد صوتها المرتجف في الحانة الصامتة، حيث لم يكن هناك أي موسيقى تصاحبها. فتحت عينيها، لتجد أنظار الجميع قد التفتت إليها مرة أخرى، كأنها أضاءت المكان بنور غريب. شعرت بالحرج من جلدها المكشوف عبر الفستان الممزق، لكنها لم تتوقف. كانت الأغنية قد بدأت، ولا سبيل للتراجع.
“يبدو أن نسمات الليل تهمس “أنا احبك”.”🎤
تساءلت إن كان هذا كله حلمًا مرعبًا. أن تقف في وسط حانة مليئة برجال العصابات، تغني لكسب قلوبهم… كانت الأغنية حلوة بشكل غريب، لا تتناسب مع المكان. تذكرت واين، وأيامها المشرقة معه، التي اختفت دون أثر. كانت هي الوحيدة التي ستحمل تلك الذكريات في قلبها إلى الأبد. شعرت بحلقها يضيق، وهي تفكر في المعركة الوحيدة التي تنتظرها.
“والطيور تغرد فوق اغصان شجرة الجيمز، وأنت تحلم حلم صغيرًا عني… “.🎤
لم يطلب منها أحد الاستمرار، لكنها شعرت أنها يجب أن تواصل. عيناها، المتلألئتان كالزمرد، بدأتا تظلمان تدريجيًا. على عكس مظهرها الرقيق، كان صوتها منخفضًا وخشنًا، كضباب ليلي كثيف يتسلل ببطء. كيف يمكن لأغنية مشرقة كهذه أن تبدو حزينة إلى هذا الحد؟ كان هناك سحر غريب في صوتها، يجذب الأنظار ويجعل الجميع يصغون رغمًا عنهم.
في وسط الصمت الذي ساد الحانة، واصلت ليليا غناءها، محدقة مباشرة في ثيودورو.
“أخبرني “احلامًا سعيدة” وقبلني، أحتضني بقوة وأخبرني أنك ستفتقدني…”.🎤
رفع ثيودورو رأسه، وهو يشعل سيجارة كانت معلقة بشكل مائل في فمه. التقت عيناه بعينيها في لحظة عابرة. شعرت ليليانا بألم حاد في صدرها، وارتجف جسدها. تلك العينان… كانتا كما تذكرتهما: عميقتان، غامضتان، كأنهما لا تنتميان إلى إنسان. كانتا فارغتين، كأن كل المشاعر قد استهلكت منهما، تاركة وراءها هاوية مظلمة تشبه أعماق المحيط.
‘لماذا يملك هذا الرجل مثل هذه العينين؟’ تساءلت، وهي تشعر وكأنها تغرق فيهما.
“تلاشت النجوم لكنني ما زلت هنا، أه يا عزيزي، ما زلت أتوق إلى قُبلتك…”.🎤
واصلت الغناء، وهي تنظر إليه، كأنها مكبلة بنظراته، غارقة في دوامة من المشاعر التي لا تستطيع تفسيرها.
~~~
لا تنسوا الاستغفار والصلاة على النبي!
حسابي انستا: roxana_roxcell
حسابي واتباد: black_dwarf_37_
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 6"