في حانة دي لوسيا، تتدفق أنواع شتى من الزبائن، كأنها ملتقى لكل فئات المجتمع. هناك بالطبع أعضاء المنظمة الإجرامية، الذين لا يحتاجون إلى تعريف، ويتبعهم أولئك الذين يأتون لتسديد ديونهم المتراكمة، أو لطلب مساعدة عاجلة، أو المتورطون في صفقات تجارية معقدة. إنهم خليط من البشر بكل تنوعهم واختلافهم. بل إن من بينهم مدنيون ساذجون لا يدركون حتى أن هذه المنطقة تقع تحت سيطرة عصابة معينة.
كان النادل ماوريتسيو، ببراعته المعهودة، يتقن فن إقناع هؤلاء المدنيين بالمغادرة بلطف وحزم، مستخدمًا كلماته كسيف يقطع أي إصرار دون إراقة دماء. لكن اليوم، وجد نفسه في موقف محير لم يعتده. اقتربت امرأة شابة، تسأل عن وظيفة، ودون أن تمنحه لحظة ليستوعب، مدت يدها وقدمت له مجموعة من الأوراق. نظر ماوريتسيو إلى ما في يده بدهشة، كأنما يحمل لغزًا غير متوقع: سيرة ذاتية تحمل معلومات شخصية مفصلة، مرفقة مع عروض عقود أداء من عدة فنادق وحانات مرموقة في قلب المدينة.
‘يبدو أنها تملك موهبة لا بأس بها…’، هكذا فكر ماوريتسيو وهو ينقر بلسانه بنوع من عدم التصديق. ثم، بسرعة، أعاد الأوراق إليها، كأن الاحتفاظ بها لحظة أطول قد يعرضه لمأزق. لم يكن هناك مجال للتردد أو التفكير العميق. هذه الحانة لم تكن مكانًا يرحب بسهولة بغريبة جاءت دون علم بطبيعة العالم الذي تطرق بابه.
“لا توجد وظائف هنا، يا آنسة. من الأفضل أن تبحثي في مكان آخر.”
لكن المرأة لم ترضخ بسهولة. ردت بنبرة حادة وقاطعة: “هل لا توجد وظائف على الإطلاق، أم أنكم لا تقدمون وظائف لامرأة مدنية مثلي؟”.
توقف ماوريتسيو للحظة، مصدومًا من جرأتها. ‘ما الذي تعرفه عن هذا المكان؟’ تساءل في نفسه، وهو يشعر بتقلص جبينه وظهور تعبير متجهم على وجهه. كان واضحًا من طريقة حديثها أنها ليست غريبة تمامًا عن هذا العالم. ربما سمعت شائعات متفرقة، أو قصصًا متداولة، جعلتها تعتقد أن هذا المكان يحمل نوعًا من السحر أو المجد الزائف.
هناك دائمًا أشخاص من هذا النوع، يتخيلون أن عالم الجريمة يمنح شرفًا أو مكانة، ويأتون متوسلين لقبولهم. لكن هذه المرأة، على عكس توقعاته، لم تبدُ كمن ينجذب إلى بريق العالم السفلي. لم تكن تحمل تلك النظرة المتعطشة للمغامرة أو الشهرة.
‘ربما يكون الظاهر مختلفًا عن الباطن’، فكر ماوريتسيو، ‘لكنها جريئة بشكل لافت. هل هي ساذجة إلى هذه الدرجة؟ ألا تعلم أن الدخول إلى هذا العالم قد يكلفها غاليًا؟’.
تنهد بعمق، ثم دفع المرأة التي كانت ترتدي ثوبًا أبيض نقيًا كالثلج نحو الباب. كان ذلك أقل ما يمكن أن يقدمه من تهذيب، وفي الوقت ذاته تحذير صريح. “من الأفضل ألا تتورطي في شؤون هذا المكان. عودي بهدوء إلى حياتك.”
“لحظة، انتظر لحظة!”.
قاطع صوت مفاجئ المحادثة. تدخل شخص غير متوقع، جعل ماوريتسيو يصمت فجأة، وكذلك فعلت ليليانا، التي كانت تتجادل معه. التفتت أنظارها نحو الرجل الذي اقترب بخطوات واثقة، وصوته ذا النبرة الساخرة. كان مختلفًا عن الجميع هنا. بينما كان الزبائن يرتدون بدلات رسمية أنيقة، كان هو يرتدي جاكيت جلدي وحذاء راكبي الدراجات النارية، مما أضفى عليه هالة من التمرد. شعره الأسود اللامع كان مرفوعًا للأعلى على طريقة إلفيس بريسلي، مما جعله يبدو كشخصية من زمن آخر.
حدقت ليليانا في وجهه بعناية، ولم يستغرق الأمر سوى لحظات حتى أدركت هويته. ‘أنطونيو بينيديتي؟’ لم تكن تعرفه شخصيًا، لكن اسمه كان معروفًا بما يكفي ليثير الرهبة. كان ابن عم إخوة بينيديتي، وكانت سمعته تسبقه كرجل متهور، يوصف أحيانًا بـ”المجنون” بسبب تصرفاته الطائشة وسلوكه الدنيء. ‘لكن لماذا هو هنا؟’ تساءلت. كانت تعلم أنه ليس على وفاق مع الرجل الذي يسيطر على هذه المنطقة.
لكن السبب لم يكن مهمًا في تلك اللحظة. كان عليها أولاً التعامل معه.
“يبدو أن هذه الفتاة الجميلة ليست في وضع يسمح لها برفاهية اختيار الوظائف، أليس كذلك؟” سأل أنطونيو بنبرة ماكرة، وكأنه يستمتع بلعبة القط والفأر. قبل أن تجيب ليليانا، أردف: “إذا تركتِ الأماكن الآمنة وجئتِ إلى هنا، فلا بد أنكِ وصلتِ إلى القاع. دعيني أساعدكِ، ماذا تقولين؟”.
شعرت ليليانا بإحساس سيء يعتمل في صدرها. ابتسم أنطونيو بمكر، وانحنى قليلاً نحوها، وخرجت من بين شفتيه كلمات تحمل نبرة مغرية وخبيثة: “أخبريني، أستطيع أن أمنحكِ الوظيفة التي تريدينها.”
“آه…” لم يكن هذا ما توقعته، ولا كان الاتجاه الذي أرادته. في ذاكرتها، كان أنطونيو يدير منطقة ويست بيل، وهو “كابوريجيم”، أي رئيس فرع في المنظمة. لكن هذه الحانة كانت تقع في منطقة يديرها شخص آخر. كان لديها سبب واضح ودقيق لاختيار هذا المكان بالذات، لكن ظهور أنطونيو هنا أربك حساباتها تمامًا.
:لماذا هو هنا الآن؟ هذا ليس ما ينبغي أن يحدث!’ فكرت، وهي تشعر باضطراب يهتز في عينيها.
كانت تعتقد أنها تعرف نوع العمل الذي يقترحه، ولهذا لم تكن ترغب في الاستماع إليه أكثر. لكن المشكلة أنها لم تجد مبررًا فوريًا لرفضه دون أن تبدو مترددة أو ضعيفة. ابتلعت ريقها وسألت رغمًا عنها: “ما نوع العمل الذي تقترحه؟”.
“هناك شيء مثالي لكِ، عزيزتي. في مكاننا، يأتي زبائن مميزون وأثرياء. كل ما عليكِ هو خدمتهم. ما رأيكِ؟” اقترب أنطونيو أكثر، ووضع يده حول خصرها بحركة خفية، وهمس في أذنها: “ليس شيئًا معقدًا. فقط استمعي إليهم، وإذا أردتِ الغناء، يمكنكِ الغناء. العمل سهل، والمال وفير… والاهتمام أيضًا كثير.”
شعرت ليليانا بالقشعريرة تنتشر في جسدها، كأن تيارًا كهربائيًا باردًا يسري في عروقها. أغلقت عينيها للحظة، محاولة استعادة رباطة جأشها، بينما كانت جفونها ترتجف بخفة.
‘هذا مقزز’، فكرت. عندما فتحت عينيها، كانت عيناها الخضراوان تلمعان كأعشاب الصيف الندية، لكنهما تحملان برودة قاسية كرياح الشتاء. لم تكن بحاجة إلى سؤال آخر لتفهم ما يعنيه. كما توقعت، كان يقترح عليها العمل في بيوت الدعارة التي يديرها في ويست بيل.
كانت ويست بيل، التي يسيطر عليها أنطونيو، منطقة كانت في الأصل تابعة لعصابة غوت، المكونة من أشخاص من أصول إيرلندية. في وقت ما خلال الخمسينيات، أمر الزعيم لوتشيانو بضم تلك المنطقة إلى نفوذه، فطرد أنطونيو عصابة غوت وقام بإنشاء شبكة واسعة من بيوت الدعارة هناك. لم يكن هناك شك في أن هذا هو المكان الذي يريدها أن تعمل فيه.
“شكرًا على العرض، لكنني أرفض.” قالت ليليانا بحزم.
“لماذا؟ ألم تقولي إنكِ تريدين الغناء؟ سأدعكِ تغنين كما تشائين!” رد أنطونيو بابتسامة خبيثة، وأمسك بذقنها بحركة وقحة. كانت عيناه السوداوان تلمعان بنوع من الجنون الممزوج بالإصرار. “ألم تأتي إلى هنا لأنكِ تبحثين عن حياة مختلفة؟ ألستِ متعبة من حياتكِ القديمة؟”.
“…”
“أليس كلامي صحيحًا؟”.
كانت المحادثة تزداد إزعاجًا، وكذلك إصراره على فرض رأيه عليها دون مراعاة لإرادتها. لكن الأسوأ كان أنها لم تستطع إيجاد مبرر قوي لرفضه مع الإصرار على البقاء والعمل في هذه الحانة بالذات. ‘هل أتخلى عن خطتي اليوم؟’ فكرت، وهي تتجنب النظر إلى عينيه، خوفًا من أن يرى ترددها.
في تلك اللحظة، تدخل ماوريتسيو، الذي كان يراقب الموقف من بعيد، وقال مترددًا: “دع هذه المرأة تذهب، أنطونيو.”
تجمدت ابتسامة أنطونيو، وتحولت نبرته إلى حدة كالسكين: “لا تتدخل في حديثي، أيها العجوز المتزمت. اذهب وصب الخمر ودعني أتولى أمري!” كانت نبرته مختلفة تمامًا عن تلك الناعمة التي استخدمها قبل لحظات، كأنه يمتلك شخصيتين مختلفتين.
“هيا، سيد أنطونيو،” حاول ماوريتسيو تهدئته بابتسامة ودودة، “ماذا ستستفيد من فتاة ساذجة لا تعرف شيئًا عن هذا العالم؟ تحتاج إلى شخص خبير، يعرف قواعد اللعبة هنا.”
ثم، بحركة حازمة، جذب ليليانا من ذراعها ليبعدها عن أنطونيو. شعرت بالامتنان لتدخله، لكنها لم تستطع تحريك قدميها بسهولة. ‘إذا غادرت الآن، ستنهار كل خططي!’ فكرت، وهي تشعر بالقلق يعتصر قلبها.
بينما كان الجدال بين الرجلين يتصاعد، فُتح باب الحانة فجأة بصوت حاد. “كيييك.” التفتت كل الأنظار نحو المدخل، وساد صمت ثقيل كأن الزمن توقف. دوت خطوات ثقيلة على الأرضية الخشبية، كأنها إيقاع طبول الحرب. تبعه عدد من الرجال، يرتدون بدلات سوداء، يحملون هيبة لا تُخفى.
“…أهلاً بك، سيدي.” انحنى ماوريتسيو باحترام، وهو يخفض بصره. مر الرجل الذي في المقدمة دون أن يلتفت إليه، وتوجه مباشرة إلى طاولة في الزاوية، حيث جلس بثقة ملكية. بدت حركته متعجرفة، لكنها في الوقت ذاته طبيعية تمامًا في هذا المكان. تم تجهيز الطاولة بسرعة مذهلة، ومع إشارة خفيفة من عينيه، تغيرت الموسيقى في الحانة على الفور.
كان هذا الرجل هو ثيودورو بينيديتي، الرجل الثاني في هرم عائلة بينيديتي. مع دخوله، انقلبت الأجواء رأسًا على عقب. تحولت الحانة من مكان صاخب إلى فضاء مشحون بالتوتر، كأنه ثكنة عسكرية. اختفى الجدال السابق كأن ماءً باردًا أُسكب عليه.
شعرت ليليانا بقطرات العرق تتجمع في راحتيها، فأملت قبضتيها بقوة، محاولة كبح الخوف والغضب اللذين اجتاحاها.
‘أخيرًا جاء!’ فكرت، وهي تشعر أن الوقت قد حان. كانت تنتظر هذه اللحظة. جاءت إلى هنا من أجل ثيودورو، لتعمل تحت إمرته، ولتبدأ خطة الانتقام التي طالما حلمت بها.
في أوائل السبعينيات، كان الجميع في عائلة بينيديتي يعلمون أن لوتشيانو، زعيم العائلة، يخشى شقيقه ثيودورو ويحذر منه بشدة. كان لوتشيانو يرفض أي قوة خارج دائرة العائلة، متمسكًا بسياسة تعتمد على الدم والقرابة فقط، بينما كان ثيودورو أكثر انفتاحًا ومرونة في تفكيره. مع تغير العصر واتساع نفوذ المنظمة، بدأ الأعضاء يميلون إلى ثيودورو، وكان من الطبيعي أن يُنظر إليه كزعيم محتمل. لكنه تجاهل هذا الدعم دائمًا، مفضلاً البقاء في الظل.
في عام 1968، بلغت مخاوف لوتشيانو ذروتها، مما أدى إلى ما عُرف بـ”التطهير الدموي”. قُتل عشرات الأعضاء الذين كانوا يدعمون ثيودورو كزعيم المستقبل في ظروف غامضة. ومع ذلك، ظل ثيودورو مواليًا لشقيقه، مما يعكس إخلاصه اللافت. لكن في نظر ليليانا، كان ولاء لوتشيانو ضعيفًا ومبنيًا على الخوف من فقدان السلطة. ‘هذا يخدم خطتي تمامًا’، فكرت.
كانت تنوي استغلال هذا الضعف إلى أقصى حد. ستنضم إلى ثيودورو، تعزز قوته ونفوذه، حتى يصبح تهديدًا لا يمكن للوتشيانو تجاهله. سيدفع ذلك لوتشيانو إلى إعلان حرب شاملة على شقيقه. هدفها النهائي كان أن يتناحر الأخوان، فيدمرا بعضهما، وتسقط المنظمة بأكملها معهما.
لذلك، لم يكن بإمكانها السماح بطردها من هذا المكان اليوم، أو أن تعمل تحت إمرة أنطونيو في مكان لا تريده. ‘الآن، وقد جاء الرجل الذي انتظرته، الخطة جاهزة.’ كل ما تحتاجه هو جذب انتباه ثيودورو.
بينما كان ماوريتسيو مشغولاً بترحيب بالوافدين، وأنطونيو يحاول التقرب من ثيودورو بنبرة وقحة، استغلت ليليانا الفرصة. تقدمت خطوة إلى الأمام، وبصوت واضح يقاطع همهمات الرجال، قالت: “كنت أبحث عن وظيفة هنا.”
توقف الصخب فجأة. التفتت كل الأنظار نحوها، كأنها فجأة أصبحت مركز الكون. وقفت ليليانا وحيدة، تشعر وكأنها حيوان معروض في قفص بحديقة حيوانات. لكنها لم تتراجع. كانت عيناها مشتعلتين بالعزيمة، مستعدة لاغتنام هذه اللحظة مهما كلفها الأمر. كانت تعلم أن هذه الفرصة قد لا تتكرر، وأن خطواتها التالية ستحدد مصير خطتها الانتقامية التي بنتها بعناية فائقة على صفحات قلبها.
~~~
لا تنسوا الاستغفار والصلاة على النبي!
حسابي انستا: roxana_roxcell
حسابي واتباد: black_dwarf_37_
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 5"