الفصل الخامس
إلينا، وهي تحمل قلبًا مضطربًا، اتجهت نحو قاعة الماغنوليا الواقعة داخل قصر فالوا.
ارتدت مئزرًا حول خصرها ليحمي ثوبها من الاتساخ، وفي كلتا يديها حملت: في اليمنى دلو ماء، وفي اليسرى قطعة قماش نظيفة.
خلف خطواتها البطيئة، تبعتها بعض الخادمات اللواتي ارتدين زيّ الخدم بترتيب أنيق، يبدين في هيئة أفضل منها.
تساءلت في نفسها:
أي عملٍ يقمن به أصلًا ليستحقن الأجر الذي يتقاضينه؟
فكل ما يفعلنه طوال النهار هو ملاحقتها أينما ذهبت.
ومع ذلك، وهي تعبر الردهة المفروشة بسجاد أبيض ناصع، لم تستطع إلا أن تنظر إليهن بغيرة خفية.
فهنّ، وإن كنّ من طبقة أدنى من عائلة فالوا الكونتية، إلا أنهن ما زلن ينتمين إلى النبلاء.
على عكس النبلاء رفيعي المقام الذين يتقيدون دومًا بالبروتوكولات والرسميات، كان بوسعهن العيش بحرية، يفعلن ما يشأن.
وقبل كل شيء، لم يكن عليهن أن يحملن وزر زلّة ارتكبتها لحظة غضب، كما حدث معها.
لماذا فعلت ذلك؟ لماذا بدا الأمر جرحًا غائرًا لا يُطاق؟
خفضت إلينا نظرها وتصلب وجهها وهي تسترجع ذكرى الماضي.
مجرد فنجان شاي انسكب عليها… فقط لذلك؟! هل كان يستحق أن ترمي كل صبرها الذي راكمته لسنوات؟
ذلك الحب الذي كانت تتوق إليه يومها… في الحقيقة لم تتذوقه منذ أعوام طويلة.
الحب الوحيد الذي نالته في حياتها كان من والديها الراحلين، وقد مضى عليه زمن بعيد حتى كادت تنساه.
فما الذي جعلها تتشبث بما لم يكن يومًا قريبًا منها؟
لكن، رغم كل هذه الندامة، لم تستطع إلينا أن تمحو صورة ذلك الرجل من ذاكرتها.
كان أول من منحها ترحيبًا صادقًا، أول من جعلها تشعر بما يسمى حبًا.
حتى في الأيام التي كانت فيها السيدة راشيتي (라시체 부인) تبدي لها لطفًا بعد وفاة والديها، لم تذق هذا الشعور.
ذلك اللمس الحنون الذي كان يربّت على جسدها المنهك، ذلك الصوت الذي كرّر لها كلمة “أحبك” مرارًا…
بلا جدوى، لم تستطع أن تمحو من ذاكرتها تلك الليلة.
رغم أن أكثر من شهر مضى، ورغم أن كليهما لم يكن سوى غريبين قضيا ليلة عابرة لا غير.
مجرد ليلة واحدة، لا أكثر.
علاقة هشّة لم يكن بوسعها أن تحمل أي معنى أو مسؤولية.
لكن… كم كنت أشتاق أن يُحبّني أحدهم.
غارقة في أفكارها، لم تشعر إلا وقد وصلت أمام قاعة الماغنوليا، التي كانت من أجمل ما في قصر فالوا.
دفعت الباب الكبير بقوة حتى ارتطم بالجدار، ثم أنزلت دلو الماء بجانبه.
رغم أنها لم تملأه حتى حافته، إلا أن ثقله أنهك ذراعيها.
لماذا أستمر في التفكير بذلك الرجل؟
غرقت قطعة القماش في الماء حتى تشبّعت، ثم عصرَتها بيديها.
وما إن تقدمت إلى وسط القاعة حتى استقبلتها الأرضية الرخامية البيضاء، وقد غطاها غبار تراكم ثلاثة أشهر كاملة.
صفوف من خزائن الزينة المنحوتة بعناية اصطفّت فوق الأرضية البهية.
كانت هذه القاعة مخزنًا لذخائر عائلة فالوا الثمينة، ولهذا حُظر على معظم الخدم الدخول إليها.
الخادمات اللواتي جئن معها، ما إن رأينها تدخل القاعة حتى وقفن عند الردهة يراقبنها من بعيد عبر الباب المفتوح، من دون أن يقتربن.
وحين تأكدت إلينا أنهن ابتعدن، جلست على ركبتيها وبدأت تمسح الرخام بالماء بعناية فائقة.
فكما قالت لها السيدة راشيتي: هذه القاعة لا يجرؤ أحد على دخولها بغير سبب وجيه.
حتى الرخام الأبيض الناصع لم يكن مجرد أرضية، بل رمزًا لقداسة المكان وما يحويه.
أما النبلاء ذوو الهيبة، فكانوا يرون أن مسح الأرضية عملٌ مشين، ويكتفون بالعناية بالخزائن والتماثيل فقط.
ومن بين هؤلاء كانت السيدة راشيتي نفسها.
فبعد وفاة الكونت وزوجته، أصبحت هي وصية على طفلتهما الصغيرة، ومنذ ذلك الوقت… أصبحت الأمور كما هي.
لذا اضطرت إلينا أن تقوم بعملٍ لا يليق إلا بالابن المنبوذ في العائلة، أو بولد غير شرعي يعيش على هامش قصرٍ لا ينتمي إليه.
بينما كانت تمسح، مرّت بجانب التماثيل العاجية والخزائن المصنوعة بإتقان، فوجدتها تلمع بلا غبار.
لا بد أن السيدة راشيتي تمسحها بنفسها يوميًا.
فالجميع في القصر يعرف شغفها بالدخول إلى هذه القاعة.
قالت إلينا لنفسها بصوت خافت:
“بضع أشهر فقط… عليّ أن أصبر بضع أشهر فقط.”
وبينما تتابع المسح، كانت تردد العبارة ذاتها مرارًا، متسخة القماش الأبيض بسواد الغبار.
لم تكن المهمة صعبة إلى درجة يستحيل أداؤها، لكنها كانت مرهقة بالفعل.
مرّت ساعتان وهي منحنية على ركبتيها، حتى بدأ ظهرها ورقبتها وركبتاها تصرخ ألمًا.
رفعت رأسها قليلًا لترتاح، فلاحظت أن الخادمات اللواتي كنّ يقفن في الردهة قد اختفين.
مدّت عنقها لترى من بعيد، فإذا بها تُفاجَأ بالمشهد:
لقد جلبن مقاعد صغيرة وجلسن عند طرف الممر يتبادلن الأحاديث والضحكات.
ابتسمت إلينا بسخرية مريرة:
إنه حظ أوفر من حظي.
ثم تابعت تنظيف الأرضية بعزم أكبر.
فهي اليوم مطالبة بإنهاء عملها مهما حدث.
أليسوا ينعتونني بـ “الفتاة المغبّرة”؟
قبضت على قطعة القماش بقوة وهي تسترجع ما قالته عنها الخادمات منذ أيام.
وتمتمت:
“أنا لستُ سندريلا.”
انقبض وجهها بكره وهي تتذكر عنوان تلك القصة التي طالما كرهتها.
لم تفهم قط كيف استطاعت سندريلا أن تتحمل ظلم زوجة أبيها وأخواتها، منتظرة أميرًا لا تعرفه إلا ليوم واحد.
قالت بحزم:
“لن أنتظر أميرًا مثله… حياتي سأصنعها بنفسي.”
كان مستقبل إلينا واضحًا: بعد أشهر قليلة سترث كل ثروة والديها، وستصبح من أغنى نساء الإمبراطورية.
أما وضعها الحالي فمجرد مرحلة مؤقتة لا أكثر.
—
مر الوقت أكثر مما توقعت، حتى غابت الشمس وبدأت حُمرة المغيب تتسلل عبر النوافذ الطويلة.
حاولت بين الحين والآخر أن تمد ساقيها وتدير عنقها لتخفف عن جسدها المتيبس من طول الانحناء.
وضعت القماش جانبًا، ثم مدت ركبتيها لتفردهما بعد طول جلوس:
“آه!”
ألم حاد اندفع من ساقيها إلى جسدها كله.
كان المئزر الأبيض قد تلطخ ببقع دائرية من الغبار حيث لامست ركبتيها الأرض.
نظريًا، لم يكن تنظيف الرخام القوي والناعم أمرًا صعبًا، خاصة مع قطعة القماش الجيدة.
لكن عمليًا، تنظيف قاعة الماغنوليا الشاسعة، المليئة بكنوز عائلة فالوا، لم يكن سهلًا على الإطلاق.
بعد جهد مضنٍ، مدت ساقيها فوق الرخام اللامع، ثم نهضت متكئة بيديها.
خرجت أخيرًا من القاعة بعد ساعات، ورغم أن قدميها كانتا تتعثران من الإرهاق، فإنها استطاعت أن تجر نفسها للخارج.
في تلك اللحظة، توقفت فجأة، واضعة يدها على أسفل بطنها المخفي تحت المئزر الواسع.
“آه…”
شعور مألوف لكنه مقلق اجتاح جسدها.
كشرت ملامحها من الألم وهي تكتم أنينًا صغيرًا.
عضّت شفتها المرتجفة، ثم أنزلت يدها عن بطنها متظاهرة وكأن شيئًا لم يحدث.
جمعت دلو الماء وقطعة القماش، وغادرت القاعة التي ظلّت أبوابها مفتوحة طوال النهار.
ولم تلتفت إلى الوراء إلا بعدما خرجت تمامًا.
رأت الأرضية من بعيد تلمع كأنها مرآة، شاهدةً على جهدها.
أما الخادمات، فقد كنّ غارقات في أحاديثهن وضحكاتهن، غير مكترثات بما كانت تعانيه.
ما إن خرجت إلينا بخطوات واثقة، وهي تفك المئزر المربوط حول خصرها، حتى انتبهت إليها الخادمات متأخرات، فاعتدلن من فوق المقاعد الصغيرة اللواتي كنّ يتكئن عليها.
قالت إحداهن:
“هل انتهيتِ بالفعل؟”
كان الخارج قد غابت فيه الشمس، وكأنهن كنّ يتمنين أن يستغرق الأمر وقتًا أطول.
أصوات الخادمات وهن يطرحن السؤال كانت مملوءة بضيق خفي لا يخفى.
فأجابت إلينا ببرود:
“أخبري السيدة راشيتي أنني أنهيت العمل.”
“نعم.”
ثم أضافت وهي تذكر شيئًا لاحظته أثناء التنظيف:
“آه، وأخبريها أيضًا أن التمثال الثاني من الجهة اليسرى ما زال عليه بعض الغبار.”
كان ذلك خطأ لا يليق بالسيدة راشيتي، وقد اكتشفته إلينا بنفسها.
ومع أنها تحدثت وهي تستند إلى درابزين السلم حاملة دلو الماء الصغير نسبيًا لكنه ثقيل بحد ذاته، فإنها كانت حذرة من أن تلمحها الخادمات.
فاليد الأخرى التي لم تكن تحمل الدلو كانت خفية، تضغط على أسفل بطنها بعد أن رفعت المئزر قليلًا.
في البداية ظنّت أنه مجرد ألم دورة شهرية، لكن حدسها أخبرها أنه ليس كذلك.
سألتها إحدى الخادمات ببرود وهي ترفع مقعدها:
“بماذا نعدّ العشاء؟”
كانت محظوظة لأن هذه الخادمة بالذات لم تكن تكترث لأمرها أصلًا.
تسألني رغم أنها لا تنوي أن تعطيني ما أطلبه كما هو؟
قالت إلينا ببساطة:
“همم… سأأكل في غرفتي. أحضري أكبر كمية ممكنة.”
“كمية كبيرة؟”
“نعم. كثيرة.”
أجابت الجملة نفسها للخادمات المتعجبات، ثم واصلت صعود السلم بخطوات سريعة.
كانت الغرفة التي تقيم فيها في علّية القصر، في أعلاه تمامًا.
غرفة صغيرة دافئة وأنيقة، من النوع الذي قد يحلم به الأطفال عند قراءة قصصهم الخيالية.
لكنها في الواقع مكان غير مريح أبدًا لشخص بالغ مثلها.
ومع ذلك، أرادت إلينا الوصول بسرعة، كي تستلقي على السرير.
لن تنام فور وصولها، لكنها كانت عازمة على تناول العشاء هذه الليلة مهما كان.
لكن ما إن وصلت أمام باب العلية حتى كادت تنقض عزيمتها كلها.
ذلك لأن شخصًا يثير اشمئزازها كان بانتظارها هناك.
قال لها بابتسامة:
“مرحبًا، إلينا. هل لديك وقت الليلة؟”
كان ذلك رينارد، الابن الوحيد للسيدة راشيتي.
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 5"