4
المكان الذي اقتادت السيدة لاشيس “إلينا” إليه كان قاعة الطعام داخل القصر.
وهناك، كانت عشرات الأطباق المختلفة مصطفّة منذ الصباح الباكر، حتى إن مفرش الطاولة الطويل المطرّز بالدانتيل لم يعد يظهر من كثرة ما وُضع فوقه.
لكن، المهم لم يكن الطعام نفسه.
فقد كان هناك مقعد واحد فقط في منتصف الطاولة.
ما يعني أن هذه المائدة مخصّصة للسيدة لاشيس وحدها.
(إذن لماذا استدعَتني؟ وهي حتى لا تنوي أن تطعمني؟)
ابتسمت السيدة لاشيس ابتسامة مشرقة تفوق أشعة الشمس الصباحية، وجلست على الكرسي الذي أسرعت إحدى الوصيفات في سحبه لها.
وبينما كانت تستعد بهدوء لتناول إفطارها، وقفت “إلينا” على بعد خطوات قليلة منها.
وبما أنها لم تتناول الفطور قبل مجيئها، فقد سال لعابها بلا سبب واضح.
دخل رئيس طهاة قصر فالوا وهو يدفع صينية ضخمة، ثم وضع بعناية طبَقًا ساخنًا أمام السيدة.
الطبق الرئيسي لليوم كان جراد البحر المشوي والمغطّى بطبقة سميكة من الجبن الأصفر الفاقع.
ومن المرجّح أن الزبدة قد دُهنت بعناية حتى في أعماقه قبل أن يُشوى.
وكانت المصادفة أن هذا الطبق تحديدًا هو الإفطار المفضّل لـ”إلينا” حتى قبل عامين فقط.
فهل كانت السيدة لاشيس تعرف ذلك عمدًا؟ أم أن الأمر مجرد صدفة؟
ابتسامة لا تفارق وجه السيدة، وهي تلتقط اللحم الطريّ من جراد البحر وتضعه في فمها.
(وماذا تريدين أن تقولي بهذا؟)
حاولت “إلينا” أن تُبعد ذهنها عن الفكرة، سواء كان اختيار هذا الطبق مقصودًا أم لا.
(هل تريدين مني أن أغار، لأنني أتناول خبزًا يابسًا وحساءً فاترًا لا غير؟)
منذ أن كانت في السابعة من عمرها وحتى بلوغها التاسعة عشرة الآن، لم تستطع “إلينا” أن تفهم السيدة لاشيس أبدًا.
الشيء الوحيد الذي تأكدت منه هو أنها ليست امرأة يسهل التعامل معها.
تراجعت “إلينا” ببطء، خطوة بعد خطوة مبتعدة عن الطاولة المليئة بالأطعمة.
بصراحة، كانت تتوق بشدّة لذلك الطبق من جراد البحر المكسو بالجبن.
لكن رائحة الجبن الدسمة التي تصاعدت كلما اقتربت جعلت معدتها تنقلب، واضطرت مرغمة إلى الابتعاد أكثر.
حتى قبل بضعة أشهر فقط، لو وقفت هكذا لكانوا قد قدّموا لها طبقًا إضافيًا.
أغمضت “إلينا” عينيها بقوة ثم فتحتهما.
(لا… لا يجوز أن أضعف أمام قطعة جبن فوق جراد البحر.)
“إلى أين تذهبين يا إلينا؟”
جذبتها السيدة لاشيس فجأة نحوها، فيما كان طبَق آخر من جراد البحر بالجبن يدخل من باب القاعة.
“ظننتُ أنّك تحبين هذا الطبق. ما رأيك أن نتناوله معًا؟”
نظرت “إلينا” مترددة، ما بين الطبق الذي يقترب والسيدة التي أمامها.
إن هي أكلت الآن، فهذا يعني أنها ستكون الطرف الذي تراجع أولًا في هذه العلاقة المتوترة منذ تلك الحادثة.
“أنا؟ في الواقع… لا أتناول الإفطار عادةً.”
“الطعام ليس أكثر من طعام، انظري إليه على هذا النحو فقط.”
حرّكت السيدة حاجبها بخفة.
منذ أن اكتشفت “إلينا” نيّتها قبل عامين، بدأت تقلّل من شأنها تدريجيًا أمام الخدم والوصيفات.
ولذلك، حين نطقت “إلينا” بجملة مبهمة، راحت الوصيفات ينظرن إليها من طرف أعينهنّ، متذمّرات.
(هل سنُضطر لجلب كرسي آخر بسببها؟)
“أما عن الطعام… هه…”
مدّت “إلينا” يدها مترددة، وأمسكت قطعة من لحم جراد البحر من الطبق الذي وُضع أمامها، وقرّبتها ببطء من فمها.
لكن فجأة، اجتاحها شعور بالغثيان حتى كادت تتقيأ، فغطّت فمها بيدها.
(أهذا طعام سليم فعلًا؟ كيف تعطيه لي بهذه السهولة؟)
توقفت عن لفّ الجبن حول شوكتها، ثم أسرعت خارجة من القاعة.
كان شكل الجبن الذائب لذيذًا للغاية، لكنها لم تستطع تناوله، فشعرت بالأسف.
حتى بعد أن ابتعدت عن الطعام، ظلّت معدتها مضطربة، واضطرت أن تتقيأ جافًّا مرارًا قبل أن تتمكّن من العودة إلى الداخل.
وما إن فتحت الباب ودخلت، حتى انصبت عليها عشرات النظرات.
ابتسمت “إلينا” بتصنّع وكأن شيئًا لم يحدث، وسارت لتقف بجوار السيدة لاشيس.
“لقد شعرتُ بصداع مفاجئ. وعندما يأتيني الصداع أشعر بالغثيان…”
أجابت بسرعة قبل أن تتعمّق السيدة في الأسئلة. هي نفسها لم تفهم ما حدث، لكن شعرت أنّه لا ينبغي أن تفصح عن شيء.
“حقًا؟ كدتُ أظن أنّك حُبلى.”
قالتها السيدة بنبرة مازحة، لكن كلماتها كانت حادّة، وهي تحتسي الشاي بعد انتهاء وجبتها.
نظرت “إلينا” إلى طبق جراد البحر ثانيةً. شكله لم يكن مختلفًا عن المعتاد، والسيدة لم تكن من النوع الذي يعبث بمثل هذه الأمور.
صحيح أنّها ذات مرة سكبت كوب شاي بالحليب على رأس أحدهم، لكن…
“في الحقيقة… لم أنم جيدًا في الأيام الماضية. وعندما أكون مرهقة أشعر هكذا.”
اختلقت عذرًا آخر وهي تجاهد للحفاظ على ابتسامتها.
مهما كان معنى ما حدث اليوم، فلا يجوز أن تدعها تعلم.
بعد بعض العبارات العابرة، أفرغت السيدة كوبها، فأمرت وصيفة أن تُحضِر شاياً جديدًا.
ثم وجّهت نظرها نحو “إلينا” التي كانت واقفة بلا حراك.
“آه، بالمناسبة… قاعة الماغنوليا في القصر قذرة جدًا. وفيها أشياء ثمينة لا يمكن أن أوكل تنظيفها للخادمات…”
“وماذا بعد؟”
طَق — صوت اصطدام الفنجان الفارغ بالصحن كان أعلى من المعتاد.
قبل قليل كانت تتمنى لها الراحة… والآن؟
عرفت “إلينا” ما الذي ستقوله تاليًا، فكتمت ابتسامة ساخرة.
“أرجوكِ أن تتولي الأمر.”
قالتها بابتسامة أنيقة وبصوت رقيق.
(إذن… اليوم دوري مع قاعة الماغنوليا.)
كانت آخر مرة نظّفت فيها تلك القاعة الواقعة شمال القصر قبل ثلاثة أشهر.
“السيدة حقًا… كم هي عطوفة.”
فكرت بسخرية مُرّة.
فهي لا تكلّفها إلا بأعمال لا تُسقط عنها صفة “المحميّة” قانونيًا، وبالتالي لا يمكنها رفضها.
فقانون الإمبراطورية ينصّ أن الشخص، حتى بعد بلوغه، يبقى تحت حماية وليّه لعام كامل.
ربما عليها أن تشكرها، على الأقل لأنها لا تستخدم العنف كما يحدث في بيوت أخرى.
لكن حين التفتت “إلينا” تنظر علنًا إلى الوصيفات اللواتي تحلّقن خلف السيدة، تساءلت ببرود:
(كم واحدة منهنّ تعاملني حقًا كـ “آنسة” في هذا البيت؟)
عيناها الخضراوان، بعمق غابة صيفية، دارت ببطء وهي تفكر.
—
ذهبت “إلينا” إلى العلّية لتحضر مئزرًا يحمي فستانها من الاتساخ أثناء التنظيف.
وما إن فتحت الباب حتى وقعت عيناها على خزانة خشبية صغيرة بلا أي زخرفة.
فتحتها، وكانت صغيرة حقًا مثلما تبدو من الخارج.
بداخلها: بعض الفساتين الخفيفة للاستعمال اليومي، عدة مآزر، بعض ملابس النوم، رداء بقبّعة، وفستان حريري واحد لا ينسجم مع البقية.
ذلك الفستان الذي ارتدته يوم قابلت فولان.
تحققت مرة أخرى من أن باب الغرفة مغلق كما يجب، ثم جلست على السرير الصغير حيث كانت نائمة حتى الصباح.
كانت تعلم أن ارتداء المئزر فوق الفستان سيأخذ بعض الوقت.
أما الوصيفات اللواتي وضعتْهُن السيدة خارج الباب، فلم تشعر تجاههن بأي أسف.
فالوقوف بضع دقائق إضافية لن يضرّهن بشيء.
كما أن وجودهن لم يكن لمساعدتها، بل لمراقبتها بأمر السيدة.
وأخيرًا، وقد صارت وحدها تمامًا، زفرت بعمق، وأخذت منضدة صغيرة بجانب السرير حيث وُضع تقويم ورقي.
(اليوم منتصف أغسطس… متى كانت المرة الأخيرة؟)
انقلب وجهها قاتمًا وهي تقلّب صفحات التقويم.
ثم وضعته مُهمَلاً على السرير، وبدأت تعدّ الأيام بأصابعها.
فتحت وأغلقت كفيها مرارًا وهي تحسب، قبل أن تطلق تنهيدة قصيرة.
لم يكن الأمر غائبًا عن ذهنها تمامًا طوال الفترة الماضية، لكنها كانت ترفض تصديقه.
“هل يعقل أنني… حامل؟”
لقد مرّ أكثر من شهر منذ آخر دورة شهرية لها.
صحيح أن دورتها لم تكن منتظمة من قبل، لكنها عزت الأمر إلى الإرهاق الشديد الذي تسببت به السيدة لاشيس، والتي كلفتها في الأشهر الماضية بأعمال شتى حرمتها حتى من النوم.
كانت تحاول جاهدة أن تُبرّر لنفسها أنّها فقط تُفرط في التفكير، لكنّ الأمر بدا غريبًا للغاية.
مسحت “إلينا” شعرها البني المصقول في الصباح بيدٍ مباغتة كما لو كانت تقضي عليه بلا رحمة.
لم تنزل الدورة الشهرية منذ مدة، وكانت طوال أوقات الراحة تنام فقط، وكلما رأت الطعام انتابها غثيان — فكيف تفسّر كل هذا؟
“في ذلك اليوم، الوسائل…”
لم تتّبعها كما ينبغي.
لم يخطر ببالها التفكير في أمور كهذه في لحظة اندفاعٍ لم تكن مهيأة لها.
في ذلك اليوم التقت رجلاً غريبًا بدا له وضعه مشابهًا لوضعها، وكانت في حالة سُكر فلم تدرك شيئًا سوى أن تطلب منه أن يحبّها.
كان شعور الحزن لعدم محبة أحدٍ لها عميقًا لدرجة أنها رأت في هذا الرجل الوحيد من سيحبّها.
عندما عادت إلى القصر تناولت حبوب منع حمل لاحقًا — رغم أن مفعولها أضعف — فاطمأنت لبرهة. لكن إن لم تكن الحبوب فعّالة هذه المرة…
“الدواء لا يمنع كل شيء، لكن… آه…”
فكرت ربما عليها الذهاب فورًا إلى العيادة لإجراء فحص. كل هذه الخيالات جعلت رأسها ينبض بألم خفيف.
ولو كانت فعلًا حاملًا، فلم يكن للأب أن يكون غير ذلك الرجل.
لمست “إلينا” بقلق شريط خصْر المئزر الذي أخرجته من الخزانة ثم نهضت.
توجّهت نحو درج صغير في ركن العُلّية.
عندما فتحت الدرج الأوّل، قفزتْ ورقة مَجعودة من كثرة ما أخرجتها سابقًا؛ مذكرة بعنوان طويل مكوّن من أرقام بلا معنى.
كانت تلك الورقة الأثر الوحيد المتبقي الذي يربطها بالرجل الذي يُدعى فولان.
ضغطت “إلينا” جبينها بكفّ يدها بشدة.
لا، ليس الوقت بعد للانهيار.
لا بدّ أن الحمل لا يحدث بهذه السهولة. لقد كانت ليلة واحدة فقط.
التقطت المئزر الملقى على جانب السرير ولفّته حول خصرها، وأعادت الورقة المطوية إلى الدرج.
لم يكن ما فعلته سوى خروج واحد عن النصّ أثناء تحملها العيش في هذا البيت؛ لا يمكن أن يحدث كل هذا بسببه فقط.
(لو كنتُ حاملًا حقًا، فذلك يعني أنّ العالم قد تخلّى عني. ألا يبدو أن عقوبة ليلة واحدة قاسية جدًا؟)
ربما سيقول الطبيب إنها نتيجة إرهاق شديد. نعم، هكذا يجب أن يكون التفسير.
ربطت “إلينا” رباط المئزر دون أن تُفصح عن شيء، ثم ارتخى قبضتها على الشريط.
(لو كنتُ حاملًا… من سيتحمّل مسؤولية هذا الطفل؟)
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 4"