الفصل الثاني
“أنا لم أعد أعرف. لا تندم لاحقاً.”
في ذلك الحين، بدا أن الرجل قال ذلك بوضوح.
والآن، ما فائدة الندم بعد وقوع الأمر؟
إلينا كانت غارقة في الأغطية البيضاء الناصعة، ترمش بعينيها. أمالت رأسها قليلاً فرأت الرجل الذي قابلته لأول مرة ليلة البارحة، غارقاً في نوم عميق تحت أشعة الشمس الدافئة.
لقد كان لطيفاً جداً معها الليلة الماضية.
على الأقل كلماته كانت كذلك، وإن لم تكن أفعاله تشي بذلك إطلاقاً.
“لابد أنكِ شعرتِ بالكثير من الأسى. أنني أردت مساعدتك، لكن… لا، لم أستطع مساعدتك.”
كان غريباً أن شخصاً لم تلتقه من قبل استطاع التسلل إلى أعماق قلبها ومواساتها.
“هل أنتِ آنسة من بيت عريق؟ يا للعجب… أنا لست سوى نبيل صغير لا قيمة له.”
راح يهذي بكلام غير مترابط وقد بدا عليه أثر الشراب القوي.
ولما سألتْه بخفة عن سبب شربه الكثير من الخمر الليلة الماضية، أجابها بحدة:
“لا أستطيع أن أخبرك.”
ثم أغلق فمه بإصرار.
ومع ذلك، مجرد أنه لم يسخر من قصتها — كونها لم تتلق سوى القسوة في القصر حتى اضطرت للخروج باحثة عن أي حب كيفما كان — كان كافياً ليجعلها سعيدة.
بينما كانت إلينا شاردة في ذكريات الليلة الماضية، نهض الرجل فجأة من السرير.
“لماذا أنا هنا….”
فتحت عينيها نصف فتحة تنظر إليه، فرأته مرتبكاً للغاية. مرّر يده بخشونة عبر شعره وهو يقطب جبينه.
هل يعقل أنه لا يتذكر ما حدث ليلة أمس؟
“… هل قلتِ إن اسمك إيلا؟”
لحسن الحظ لم ينسَ كل شيء. تمتم بذلك وهو يمد يده ليلامس خدها.
الخمر قد تلاشى أثره كلياً، لكن ماذا تفعل الآن؟
لأنه لم يرفع يده عن خدها طويلاً، اضطرت أن تتظاهر بأنها استيقظت للتو.
“أه… أهلاً.”
“نمتِ جيداً، إيلا؟”
كان من الغريب أن تسمع اسم التدليل على لسان رجل غريب، لكنه لم يكن شعوراً سيئاً.
صوته كان مشبعاً بالحنان.
لكن، هل كان من الصواب ارتكاب مثل هذا الانفلات تحت تأثير الخمر؟
راودها فجأة القلق… ربما هو الآخر نادم الآن.
“ف… في الحقيقة—”
لكن ماذا عساها أن تقول في هذا الموقف، وهما تحت غطاء واحد وعلى نفس السرير؟
هذا ما حيّرها.
باستثناء الاسم الذي باحت به وقصتها العائلية الطويلة، لم يعرفا شيئاً يذكر عن بعضهما.
كيف ستخرج من تحت الغطاء؟
ألقت نظرة على الملابس المبعثرة على أرضية الغرفة فتأكدت مما فعلاه الليلة الماضية.
لقد نزعا كل شيء بلا وعي، حتى أن بعضها قُذف بعيداً فلا يمكن الوصول إليه من على السرير.
لو غادرت هي متسترة بالغطاء، سيتسبب ذلك في إحراج للرجل.
فاكتفت بالانكماش أكثر تحت اللحاف، ضاغطة رأسها بيدها.
“إذا كنتِ متعبة، نامي أكثر.”
لكن الرجل بدا وكأنه أساء فهم حركتها.
“هل تريدين أن أضمكِ؟”
ثم جذبها إلى صدره وعانقها بشدة. ومع هذا العناق، بدأت ذكريات البارحة تعود شيئاً فشيئاً.
كانت قد أخبرته أن حياتها أصبحت صعبة منذ أن توفي والداها واختارت وصياً خاطئاً. وأن كل الناس يكرهونها. وأنها ظنّت أنها اعتادت على ذلك لكنها لم تفعل.
حين باحت بأنها تريد أي نوع من الحب، همس لها بأنه يحبها.
كان أول شخص في حياتها يظهر لها كل هذا اللطف… فلم تجد نفسها إلا متعلقة به.
كلاهما كان غارقاً في حزنه الخاص وتحت تأثير الجو، لكنها وصلت إلى حد أن تقول له بأنها تحبه.
“لماذا أنت طيب هكذا… تجعلين المرء يسيء الفهم.”
تمتمت وهي تدفن وجهها في صدره.
الليلة معه كانت جميلة.
لقد أقنعت نفسها أن هذا النوع من الحب — حتى لو كان عبر مثل هذا الفعل — يبقى حباً. وأن هروبها من القصر لم يذهب هباءً لأنها تلقت دفئاً يفوق ما توقعت.
لقد كان الحب الذي تلقته لأول مرة منذ زمن بعيد عزيزاً عليها للغاية.
لكن الرجل قال ما هو أبعد من توقعاتها.
“حتى وأنا ثمل، لا أرتبط بأي امرأة عابرة. لذا هذا ليس مجرد وهم.”
كان صادقاً، قال إنه أحبها حقاً.
رغم أنها لم ترد أن تصدق، إلا أن كلماته بعثرت كل وضوحها.
إلينا شعرت بالحب منه، لكنها كانت تعتقد أنه بالنسبة له مجرد ليلة عابرة.
صحيح أن كليهما كان ثمِلاً، لكنه هو كان أكثر سُكراً منها.
“… هل تؤمن بذلك حقاً؟”
“إن لم يكن هذا حباً، فماذا يكون إذن؟”
أجاب سؤالها بسؤال.
يا لها من كلمات رومانسية… أن يقول بأنه أحبها بعد ليلة واحدة فقط!
عقلاً، هذا غير منطقي. كأن تدّعي السيدة لاشيت — التي اعتادت اضطهادها — أنها أصبحت فجأة طيبة بلا سبب.
لكنها أرادت أن تصدق.
هو نفسه قال ذلك.
لقد أحبّها، وهي أحبته… أليس هذا حباً إذن؟
حتى لو لم يكن، أرادت أن تؤمن به. في النهاية، عندما تعود، لن يبقى سوى ذكرى ليلة واحدة.
بقيت طويلاً بين ذراعيه دون أن تحرّك إصبعاً. جسدها ساكن لكن عقلها لم يتوقف عن الدوران.
النهار أشرق، وعليها أن تعود إلى قصر فالوا. خرجت خلسة في غياب السيدة لاشيت، ولم يعد بإمكانها التأخر.
لذلك وجب أن تنهض من حضنه.
“شكراً لأنك أحببتني. … أظن أنني أحبك.”
“وأنا أيضاً أحبك.”
أحياناً يحدث أن يتوافق قلبان بعد ليلة واحدة.
رفعت رأسها لتنظر إليه، وفجأة انتابها شعور غريب.
هل أنا في كامل وعيي وأنا أفعل هذا؟
“هل أستطيع أن أقبلكِ؟”
ولمّا لم تتوقع سؤاله، وجدت نفسها تهز رأسها موافقة.
في ضوء الصباح الدافئ، بعقل صافٍ تماماً، تسللت ثانية تحت اللحاف ليلتقيا بشفاههما.
وظلا هكذا.
إلى أن تحولت أشعة الشمس من خلف النافذة من صباحية إلى نهارية.
ولأنهما استحيا من الحديث عمّا حصل الليلة الماضية، كانا يتناولان مواضيع أخرى.
مثل سبب مجيئها إلى هنا البارحة، ولماذا كانت تبكي، ولماذا كانت تتوق إلى الحب.
حتى وهي تحكي قصتها المروعة، انتبهت ألا تكشف عن هويتها بوضوح. فمعرفة حقيقة بعضهما لن تجلب أي خير.
لكنه أصغى إليها بصمت، مهتماً بما تقول.
كانت تظن أنها قالت له هذه الأمور ليلة البارحة، لكن كلاهما لم يكن بكامل وعيه حينها.
بين دفء الغطاء، وبين شفاههما التي لم تفارق بعضها، تمنت لو يستمر هذا الحال لأيام، لا لساعات فقط.
الرجل بجانبها كان يمنحها راحة، وأخبرها بأنه… يحبها.
“… يجب أن أعود الآن، أليس كذلك؟ سأغتسل أولاً.”
“حسناً.”
أدركت أنها تأخرت في التردد. فذهبت إلى الحمام وغسلت جسدها، ثم بدأت ترتدي ملابسها. وفي تلك اللحظة، بدا الارتباك فجأة على وجه الرجل.
كان ممسكاً بساعة صغيرة، وعقربها يشير إلى الثالثة.
ربما تذكّر الواقع المنسي. الثالثة وقت متأخر حقاً.
أما هي ففكرت أنه يجب أن تسرع، فالسيدة لاشيت ستعود إلى القصر عند المساء.
لكن فجأة، دوّى طرق سريع وعنيف على الباب، يقطع الأجواء بينهما.
صاحب المكان قال لهما بوضوح: اللقاء هنا مسموح فقط للحديث، لا للمبيت. لكنهما قضيا ليلة كاملة، فلا غرابة أن يحدث هذا.
“يجب أن تخرجوا حالاً! السيّد—!”
مع الطرق العالي، جاء صوت رجل لم تسمعه من قبل. بالتأكيد لم يكن يبحث عنها هي.
إذن هو جاء يبحث عن “فل”.
“أسرع بالخروج—!”
كان الصوت يزداد استعجالاً، لكن فل لم يُبد أي نية للاستعجال. ثم فجأة، اختفى كل صوت من العالم من حولها.
آه. إنه يغلق أذنيها بيديه…
لكن، لماذا يفعل ذلك؟
“… اللعنة.”
“سأخرج، لذا التزمي الصمت.”
يبدو أن فل يعرف صاحب الصوت الطارق.
ويبدو أن اللقاء القصير بينهما قد وصل إلى نهايته.
أحست بالأسف. هل لا يوجد وسيلة لتبقيه أكثر؟
لا. في النهاية، هي وهو لم يكونا سوى شخصين قضيا ليلة عابرة.
“أظن أنه يجب أن أعود الآن…”
“إيلا…”
لا تزال التردّدات عالقة في قلبها، لم تختفِ بعد.
حتى مع الطرق المتواصل بلا انقطاع على الباب المغلق بإحكام، لم يخطُ الرجل خطوة واحدة لفتحه.
“لا أريد أن أذهب. لا أريد الرحيل…”
وهكذا راحت تضيف كلمات عبثية لا جدوى منها.
كانت قد خرجت في نزوة صغيرة هرباً من قسوة القصر، لكنها وجدت نفسها وقد انقلبت الأمور رأساً على عقب.
من ذاق الحب مرة، لم يعد قادراً على نسيان حلاوته.
وبينما كانت لا تزال جالسة في الغرفة، تلمس طرف فستانها دون أن تتحرّك، بدا وكأن الرجل تذكّر شيئاً فجأة.
فاندفع إلى زاوية الغرفة، وبعجلة راح يفتش هنا وهناك حتى أخرج ورقة وقلم. ثم كتب عليها أرقاماً غامضة، بينها خطوط متكررة، وسلّمها إليها.
رغم أن خطه كان مكتوباً على عجل، إلا أن أناقة خط اليد لم تخفَ.
“هذا عنوان بيتي.”
في الأصل، الذين يلتقون لقضاء ليلة واحدة لا يتبادلون عناوينهم. بل كثيراً ما يقضون الليل دون أن يعرف أحدهما اسم الآخر حتى.
فهل يعني هذا حقاً أنه يحمل لها مشاعر؟
تسلمت إلينا الورقة مذهولة، وهي تعلم أن لحظة الفراق قد حانت.
العنوان الذي أعطاها لم يكن عنواناً مألوفاً. لم يتضمن اسم قصر أو بيت، بل مجرد أرقام طويلة متتابعة لا يمكن فهمها.
تساءلت إن كان عنواناً حديث التغيير، لكن المؤكد أنها حصلت منه على خيط يربطهما.
“إن حصل شيء، تعالي إليّ. آه… وبالمناسبة، أنا لست سوى نبيل صغير. فهمتِ؟”
قال ذلك وهو يرمق الباب بعينٍ جانبية، بينما ما يزال الطرق يتردد بقوة.
أما هي، فلم تشعر إلا بالأسف لأن وقت الوداع قد أزف.
“فل…”
“مع ذلك… من الأفضل ألا تأتي إلا للضرورة القصوى.”
جرّ صوته وهو يضيف كلماته الأخيرة، ثم انحنى ليطبع قبلة سريعة على خدها.
بعدها فقط فتح الباب الذي ما زال يُطرق بعنف.
وما إن فُتح الباب حتى اختفى فجأة.
الساعة المعلّقة في الردهة كانت تشير إلى الثانية وخمسٍ وخمسين دقيقة.
نظرت إلينا إلى الغرفة الفارغة، ثم إلى الردهة الخالية، قبل أن تخطو بخطوات يائسة.
لا تزال بقية من الحنين تسكن قلبها.
كانت تريد أن تبقى معه قليلاً بعد، فقط قليلاً. أن تنهل أكثر من الحب الذي منحها إياه، ومن دفئه وحنانه.
سارت وهي تنحني بخفة تحت الرداء حتى لا يلحظها أحد، ثم غادرت المبنى الذي قضت فيه الليلة الماضية.
لقد حان وقت العودة إلى الواقع.
إلينا فالوا.
فتاة القصر الملطخة بالرماد. الوريثة الوحيدة لكونتية فالوا.
لم تكن تدري أي نتائج سيجلبها هروب اليوم، لكنها أظهرت وجهاً بريئاً لا يعرف شيئاً.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات