1
الفصل الأول
المقدمة – البركة الأخيرة
كان المكان تحت الأرض يضيئه نور شمعة خافتة بالكاد يُرى.
وفي هذا الظلام، كانت “راينا” مستلقية وكأنها جثة هامدة، إلى أن أيقظها صوت خطوات غريبة.
“من هناك؟”
منذ أن فقدت بصرها، أصبحت حواسها الأخرى حادة للغاية، فاستطاعت أن تعرف:
هذا القادم ليس الإمبراطور.
ظهر شخص غريب في مكان لم يكن يُسمح بالدخول إليه سوى للإمبراطور وحده.
عندها جلست راينا ببطء، أدركت أن النبوءة التي نطقت بها أخيرًا قد تحققت، وأن التمرد الذي ظل يراوح مكانه قد نجح أخيرًا.
“هل مرت عشر سنوات؟”
كانت تُدعى يومًا ما “الأميرة الإمبراطورية”،
أما الآن، فلا أحد يذكرها.
فمنذ أن ظهرت قدرتها على التنبؤ، حُبست في هذا المكان أبدًا، عمياء لا ترى شيئًا.
النبوءات كانت تستهلك الحياة.
والإمبراطور لم يكن يهتم قط بحياة ابنته،
بل استخدم قوتها ليشن بها حربًا عظيمة لطموحه في الغزو.
> “حتى لو كلفك هذا حياتك، أثبتي أنك نافعة. فالمصير الوحيد لكاهنة عديمة الفائدة… هو الموت.”
كان يجبرها على الكلام مهما كلّف الأمر.
ولم يكن يشفق أبدًا على جسدها النحيل الذي أنهكه استخدام القوة.
وربما لهذا السبب، اغتنمت راينا لحظة غفلة الإمبراطور وكذبت عليه:
> “إن دوق كرينسيا، هذه ستكون حربه الأخيرة.”
وعندما تنبأت بموت خصمه اللدود، ارتسمت على وجه الإمبراطور ابتسامة رضا، وغادر.
دون أن يدرك المعنى الحقيقي لـ”الأخيرة” التي قالتها.
ومنذ ذلك الحين، لم يزرها الإمبراطور مرة أخرى، ظنًّا منه أن قواها قد نضبت تمامًا.
والآن…
بعد راحة قصيرة بالكاد حصلت عليها، بدا أن لحظة موتها قد وصلت أخيرًا.
“أخيرًا، سأرتاح.”
جلست راينا كمن يستسلم للموت، تنتظر القادم.
وبعد لحظات، توقفت الخطوات أمامها،
لكن القادم لم يتكلم على الفور، وكأنه يتحقق من حالتها.
وبعد صمت خانق، قال:
> “الأميرة راينا، هل يمكنك النهوض وحدك؟”
“!”
رفعت راينا رأسها دون قصد عند سماع هذا اللقب الذي لم يُنطق منذ زمن طويل.
لكن لم يكن السبب مجرد اللقب، بل لأن الشخص الواقف أمامها خالف كل توقعاتها.
لم يكن أحد ليتخيل أن الأميرة التي قيل إنها ماتت بسبب المرض، كانت مسجونة في أعماق القصر الإمبراطوري.
ابتسمت راينا ابتسامة باهتة، وقالت:
> “لا تقل لي أنك جئت لإنقاذي؟”
“ولو كان كذلك؟”
“لا. لا يجب أن تفعل. أنت قائد المتمردين، وأنا ابنة الإمبراطور. يجب أن تحافظ على شرعيتك. والآن، أصبحت تعلم أنني ساعدت الإمبراطور في حربه.”
> “…سخيف. هذا ليس أسلوبي.”
“على أي حال، حياتي…”
“آه!”
قاطَعها “كايدن” بحركة مفاجئة، وحملها بين ذراعيه.
كان جسدها خفيفًا بشكل يصعب تصديقه، مما جعله يعبس.
> “هل كنتِ تأكلين شيئًا؟ تبدين كخيار مجفف.”
“الصيام يسهل استخدام القوة.”
“ذلك الإمبراطور اللعين…!”
تمالك كايدن نفسه عن الغضب،
وقال بنبرة حازمة:
> “عليك أن تأكلي شيئًا أولاً.”
ثم غادر المكان المظلم بسرعة حاملاً إياها.
✧✧✧
نجح التمرد.
تمت تصفية الإمبراطور الظالم ومن معه، وتوّج دوق كرينسيا إمبراطورًا.
لكن كانت تلك نصف انتصار فقط.
فكايدن كرينسيا، رغم نيله العرش بعد صراع طويل، فقد أعزّ من كان معه، وكأن ذراعيه قد قُطعتا.
ومن تسببت في ذلك… كانت راينا.
لو لم يكن هناك نبوءة، لما انكشفت خططهم، ولا خسروا رجاله.
لذا، كان من الطبيعي أن يكرهها كايدن.
السبب في موت أحبائه.
كان من حقه أن يمزقها أشلاء إن أراد.
لكن كايدن لم يقتلها، بل أحضر لها طبيبًا وخادمة.
> “عليك أن تأكلي أولًا. وتحصلي على العلاج.”
راينا لم تفهم لماذا يعاملها هكذا.
كيف يمكنك أن تكون طيبًا معي؟
كلما زاد لطفه، زاد عذابها.
وعندما رفضت الطعام، جاء بنفسه.
> “هل تحاولين إثارة غضبي؟ إن كان هذا هدفك، فقد نجحتِ تمامًا، أيتها الأميرة.”
> “لا فائدة من ذلك. أعرف جسدي جيدًا. لم يتبق لي الكثير. فانتقم مني بقتلي.”
عندما كررت راينا كلماتها، زمجر كايدن بانزعاج:
> “كفى هراءً.”
ثم ناولها وعاء حساء.
“كلي. حتى لو أردت الانتقام، فلن أفعله من شخص يحتضر.”
“…”
“وأنا أعلم أنك لم تفعلي ذلك برغبتك.”
نظرت إليه راينا مصدومة.
لم يكن هناك أثر للكراهية في عينيه.
كيف يمكنه أن يكون هادئًا هكذا؟
راينا كانت تكره الكثيرين:
الإمبراطور الذي حبسها.
عائلة أمها التي هجرتها.
وأخوها الذي اختفى بلا أثر.
كان ذلك الكره هو ما أبقاها على قيد الحياة.
أمسكت بذراع كايدن وقالت:
> “بسببي ماتت عائلتك، وأصدقاؤك، وخسرت جنودك… كيف يمكنك أن تتركني وشأني؟”
نظر كايدن إلى يدها المرتجفة، ثم إلى عينيها:
> “سؤال غبي. لماذا تعتقدين أن ذلك بسببك؟”
“أنا فقط… كنت أريد أن أعيش. لم أرد أن أُضرب. اشتقت لعائلتي. لأنني كنت أنانية، نطقت بنبوءات أدت بك إلى الهاوية.”
نعم، لقد أطاعت الإمبراطور لتنجو.
وكان الثمن أن يخسر كايدن كل شيء مقابل عرش لم يرغب به.
سمعت ما قالته إحدى الخادمات:
> “يشرب الخمر كل يوم، ومع ذلك لا ينام.”
“يقولون إنه ينوح على موتى لا يعودون. ما الفائدة من العرش؟ الشمال أصبح أرضًا ميّتة.”
امتلأت عينا راينا الزرقاوان بالدموع.
كانت أشبه بطفلة تائهة.
> “لا أستحق الحياة.”
> “ذلك هو الغرور بعينه، أيتها الأميرة. لا يحق لأي إنسان أن يحكم إن كان يستحق الحياة أم لا. ما دمتِ حية، فعيشي. هذا هو الإنسان.”
“…”
“وإن كنتِ مصرة على الموت، فحاولي العيش. ربما حينها أرغب في قتلك حقًا.”
قالها كايدن وهو ينهض ببرود.
وفي تلك اللحظة، شعرت راينا بالضيق لأنها لا تستطيع الرؤية.
أرادت أن ترى وجهه، لا فقط إحساسه.
“هل هذا ما جعل الإمبراطور يخاف منه؟”
رغم كلماته القاسية، قلبه دافئ.
يملك قوة عظيمة ومسؤولية ثقيلة.
فعلت كما أمر، وأمسكت بوعاء الحساء وبدأت تأكل.
وحتى لا تبكي، أخفضت رأسها.
فقال كايدن بصوت منخفض وهو يأخذ الوعاء الفارغ:
> “أحسنتِ. سأراقبك في كل مرة، فلا تفكري في الإضراب عن الطعام، أيتها الأميرة.”
التعليقات لهذا الفصل " 1"