لطالما كنتُ كيانًا يُستهان به من الجميع.
أتُرى لأن شقيقي، وهو لم يزل يافعًا في سن المراهقة،
تولى منصب رئيس الأسرة بعد فقدان والدينا؟
أم لأن الندبة التي تشوّه وجهي سلبتني الثقة بنفسي؟
أم لأنني أعجز حتى عن الردّ على من يهينني بطبعي الهادئ المتردد؟
قد أفكّر بأسباب لا تُعدّ،
لكن أيًّا كانت، فإنني لم أكن أملك حيلة لتغيير شيء.
أول مرة التقيت فيها بالآنسة سوفيلا، التي ستصبح في المستقبل أختي الكبرى، كانت في يوم اختبار المهارات.
كنت أكره رؤية الفتيات من الطبقة النبيلة اللواتي لا يمللن من السخرية مني، فكنت أُبطئ الخطى في طريقي إلى مكان التقييم، وأتوقف لأستريح بين الحين والآخر، فيما كان شقيقي يصبر عليّ ويرافقني طوال الطريق.
في تلك اللحظة، ظهرت الانسة سوفيلا.
كانت فتاة ذات عينين حمراوين لم أرَ مثلهما من قبل،
ولم تُبدِ ذرة تردد أو انزعاج حينما رأت وجهي الملطّخ بالندبة.
ولأول مرة منذ الحادثة التي أودت بحياة والدينا،
لم أتذكّر أن على وجهي ندبة حين نظرتُ إلى عيني غريب.
عادةً ما كانت نظرات الناس تُعيد إليّ ذاك الوعي المؤلم بندبتي، فتغمرني كراهيةٌ صامتة لذاتي.
قالت حينها.
“هل من الغريب أن يكون على الوجه ندبة؟ عالمي صغير جدًا، لذا لا أفهم ما الغريب وما الطبيعي. لكن أعينكما تتلألأ كالجواهر، وقد سحرتني أكثر من أيّ شيء آخر. لذا، لم ألتفت إلى ندبتك أبدًا.”
رغم أن الانسة سوفيلا لم تكن قد تلقت تعليمًا جيدًا آنذاك،
إلا أن كلماتها البسيطة والصادقة، والتي نطقتها في سنّ العاشرة، بقيت محفورة في قلبي كأثمن كنز.
كان الوقت الذي قضيناه معًا قصيرًا،
لكنه كان كافيًا ليجذبني إلى سوفيلا بشدة.
ولم تكن بحاجة إلى أن تقول شيئًا،
فقد شعرت أن شقيقي هو الآخر كان يحمل ذات المشاعر تجاهها.
لذلك تمنيت من كل قلبي أن أراها مجددًا،
وأن ألتقي بتلك العينين الحمراوين المتلألئتين مرة أخرى.
وهكذا، بدأت أدرّب مهارتي الوحيدة في هذا العالم—الحُلم— بكل ما أوتيت من عزيمة.
وأخيرًا، التقيت بالآنسة سوفيلا مجددًا… في الحلم.
“…ما هذا المكان؟ هل هو… حلم؟“
“انسة سوفيلا!”
“رين؟ وأنتَ أيضًا يا ليو؟ ما الذي…”
“إنها مهارتي. إن كان الشخص المستهدف نائمًا، أستطيع استدعاءه داخل حلمي. أردت التحدث معك أنا وشقيقي مجددًا، لذا استدعيتك.”
تفاجأ الاثنان بشدة حين أخبرتهما بتفاصيل مهارتي التي لم أكشفها لأحد من قبل.
“انسة سوفيلا، ما هي طبيعة مهارتك؟ أعني… ‘المرآة‘؟“
طرحت سؤالي مدفوعة بفرحة اللقاء، دون تفكير،
لكن نظرة الحزن التي خيمت على وجه سوفيلا أوجعتني.
“لا أعلم كيف أشرحها… لا أستطيع استخدامها في القصر، فهي محظورة.”
ولأول مرة أدركت أنا وشقيقي مدى قسوة الظروف التي عاشت فيها سوفيلا.
حتى في لقائنا الأول، شعرت أنها لم تنشأ مثل باقي النبيلات.
ورغم ذلك، لم تبدُ تعيسة. فقد بدا واضحًا أنها تثق بالخادمة ماري ثقةً مطلقة، ولم يكن في عينيها الحمراء أي أثرٍ للعتمة.
لكن الأمور تغيّرت بعد اختبار المهارات.
حتى تلك العينين اللتين كانتا تتلألآن بجمالٍ خالص،
خفت نورهما إلى حدّ مؤلم.
نريد لعيني سوفيلا أن تبقيا دائمًا كما رأيناهما أول مرة،
متألقتين، تنبضان بالحياة.
تلك كانت أُمنيتي وأُمنية شقيقي.
لذا، عقدنا العزم على أن نفعل كل ما بوسعنا من أجلها.
مرت الأيام، وبعد مسيرة طويلة، حين رأيتُ عينيها الحمراوين تتلألآن مجددًا بعد أن تزوجت شقيقي، شعرت بفرحٍ غامر لا يُوصف.
★☆★
كانت الانسة سوفيلا قد حضرت في السابق بعض حفلات الشاي بصفتها دوقة، لكنها لم تحضر أبدًا حفلاً رسميًا حتى هذا اليوم.
أما أنا، فكنت دومًا أخفض رأسي خشية تعليقات الفتيات على ندبتي، لكنني قررت أن أكون ثابتة، شامخة بجوار سوفيلا هذا اليوم فقط على الأقل.
ولكن، ضعفي تغلّب عليّ كعادته…
“أوه، انسة رين! أليس مكياجك اليوم أثقل من المعتاد؟“
“هاها، لكن علامتك المميزة على البشرة لا تزال بارزة، ولم تنجحي في إخفائها.”
“حقًا، لا داعي لإخفائها، فهي مميزة ولا تُنسى، أليست كذلك؟“
“نحن نحسدك، فبشرتنا عادية بلا ملامح تميّزها.”
مجرد ضحكاتهم الساخرة جعلتني، مجددًا، أخفض رأسي بصمت.
كانت الآنسة ميرابيل وصديقاتها يضحكن بمرح، وكأن إحباطي متعة لهنّ.
“أما التي بجوارك، الانسة سوفيلا، فقد سمعت عنها شائعات. أليست تلك الابنة غير الشرعية لعائلة ستانلي التي ظهرت في اختبار المهارات بلباس أشبه بالخادمات؟ لم تظهر منذ ذلك الحين، أليس كذلك؟“
كنت أظن أن سخرية هؤلاء النبيلات مني سببها أنني مجرد شقيقة الدوق.
لكنني صُدمت حين امتدت استهزاؤهنّ إلى سوفيلا، وهي دوقة رسمية.
ربما ظنن أنه لا بأس بالإساءة إلى من كانت محتقرة داخل عائلتها في السابق، أو ربما رأينها مثلي، فظنوا أن لها نفس المرتبة التي يسخرن منها.
“أليست سوفيلا تملك مهارة نادرة، الوحيدة في العالم؟“
“‘المرآة‘، أليس كذلك؟ يبدو أنها عديمة الفائدة كمهارة ‘الحلم‘ التي تملكها الانسة رين، أليس كذلك؟“
“الانسة رين، أليست مهارتك فقط لرؤية الأحلام الممتعة؟“
رغم أنهم يهينون سوفيلا بسببي،
لم أستطع النطق بكلمة… لضعفي المعتاد.
“أوه! لماذا لا تعرضين علينا مهارتك الآن كنوعٍ من التسلية؟“
هنا فقط فتحت سوفيلا فمها للمرة الأولى، وردّت بنبرةٍ هادئة وثابتة.
“ليست مهارة تُستعرض في مثل هذه الأماكن.”
كان لصوتها وقعٌ قويّ جعل حتى ميرابيل تصمت للحظة.
لكن هذا الصمت لم يدم، إذ بدا أن كرامة ميرابيل قد جُرحت، فاندفعت بإلحاحها السخيف.
“لا بأس ببعض الترفيه، أعدك ألا أضحك مهما كانت تافهة مهارتك. أم أنك لا تعرفين كيف تستخدمينها أصلًا؟“
“لا أرغب باستخدامها إن أمكن…”
“لكننا مضيفو هذا الحفل. هل سترفضين طلبًا من المنظمين؟“
بدأ الحضور جميعًا يلتفتون إلى ميرابيل وسوفيلا، وقد تصاعد التوتر.
“…حسنًا. بأمر من الآنسة ميرابيل، سأستخدم مهارتي.”
رفعتُ رأسي أبحث عن شقيقي، فوجدته أخيرًا يلتفت إلينا بعدما كان يتحدث مع بعض النبلاء.
“ميرور.”
ما إن نطقت سوفيلا بالكلمة حتى غمر الضوء ميرابيل وصديقاتها.
وبعد أن انقشع الضوء، تعالى الصراخ.
“آآآه!!!”
كانت صرخات ميرابيل ومن معها.
“انـ… انسة ميرابيل! و… وجهك… إنه مشوّه بندبة!”
“ما الذي تقولينه؟ أنتنّ من ظهرت على وجوهكنّ ندوبٌ بشعة فجأة!”
“لا يُعقل… أيمكن أن تكون وجوهنا جميعًا قد أصيبت بنفس ندبة الانسة رين؟“
“مرآة! أحضروا مرآة فورًا!”
وحين نظرن إلى وجوههنّ في المرآة، أصابهنّ الذعر الشديد،
إذ رأين ندبتي ذاتها مرسومة على وجوههنّ.
“انسة سوفيلا! ما معنى هذا؟ ماذا فعلتِ ببشرتنا؟!”
” ‘ميرور‘ تعني… مرآة. وبما أنكنّ قلتم إن ندبة رين ‘مميزة‘ و‘لا تُنسى‘، فقد عكستها لكنّ كما هي، تمامًا كمرآة..
“ماذا؟! أتظنين أن لكِ الحق بفعل هذا؟!”
“أنا فقط نفّذت أمرًا من الآنسة ميرابيل بأن أُظهر مهارتي.
والجميع هنا سمع ذلك.”
هزّ الحاضرون رؤوسهم تأكيدًا لكلامها.
“حسنًا! كفى! نرجوكِ، أوقفي هذه المهارة حالًا!”
“لا يمكنني ذلك.”
“ماذا؟!”
“‘المرآة‘ لا يمكن إيقافها.”
“كذب! هذا مستحيل… لا يعقل…”
“هذه المهارة لا يستخدمها سواي، ولا يعرف حقيقتها أحد سواي. أنتنّ طلبتن مني استخدامها دون أن تعرفن طبيعتها، أليس كذلك؟“
وقفت سوفيلا شامخة، وصرّحت بذلك بكل ثقة،
مما جعل ميرابيل تصاب بالذهول.
…وبالمناسبة، أنا أعلم أن مهارة ‘المرآة‘ قابلة للإلغاء…
“لا… لا! لا أستطيع تحمّل رؤية وجهي بهذه القباحة! أرجوكِ! أزيليها! سأعطيكِ كل ما تطلبين! نعم! ألم تقولي إنك تفتقدين الحب العائلي؟ حسنًا! سأكون صديقتكِ! أرجوكِ، فقط…”
كانت ميرابيل ترتجف وتتوسل، حتى لم أعد أصدق أنها هي ذاتها التي طالما سحقتني وأهانتني.
وشعرت أن خوفي منها بدأ يتلاشى.
“كلا. ما أريده هو الحب الحقيقي من العائلة، لا صداقتكِ المزيّفة.”
أجابت سوفيرا بصوتها الهادئ الواثق.
وبينما خيم اليأس على ميرابيل وصديقاتها، عادت سوفيلا للكلام.
“لا يمكنني إلغاء المهارة، لكن… هناك طريقة لجعل الندبة غير مرئية.”
“حـ… حقًا؟ رجاءً! قولي لي كيف!”
“وجوهكنّ لا تحوي الندبة حقًا، بل تعكسها فقط مثل المرآة. لذا، إن استطعنا إزالة الندبة عن وجه رين، ستختفي تلقائيًا عن وجوهكنّ أيضًا.”
وحين قالت ذلك، التفت الجميع إليّ.
“انسة رين، ما نوع العناية التي تتبعينها لبشرتك؟ لدي كريم أود أن تجربيه.”
“لدينا طبيب مختص بالبشرة، سأتشاور معه من أجلك.”
“في بعض الدول المجاورة، يُجرى نوع من الجراحة لترقيع الجلد.”
“هل جربتِ العلاج السحري؟ قد تكون مهارة الشفاء مفيدة…”
…يا للعجب، أولئك الذين كانوا قبل قليل يُرعبونني ويسخرون مني… اصبحوا فجأة أعوانًا حريصين على مساعدتي.
وبينما كنت أراقب ردّات فعلهم المرتبكة،
تلاشى خوفي منهم تمامًا.
وبدلاً منه، تسرّب إلى قلبي أملٌ جديد كنتُ قد فقدته… أملٌ في شفاء وجهي.
وحين التفتُّ إلى سوفيلا غير مصدقة، كانت تبتسم لي بتلك العينين الحمراوين المتألقتين، بنظرةٍ دافئة كضوء الفجر.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 6"