08
هطلت الأمطار بدون توقف، وكأنها ترسل التعازي للأموات الذين لا يُلقى لهم أحد بالًا. تحتها جلس كايو متجاهلًا ملابسه وشعره المبتلّين أمام منزل الحارس، منزل كان يعج بالحياة ورائحة الطعام الشهية، صوت نباح الكلب المتردد بكل لحظة، كل ذلك ذهب، ولم يتبقَ إلا صوت قطرات المطر.
ذكريات الأمس لا تفارقه، منظر الجثة ورائحتها، كيف يبدو الجسد الفارغ من الروح، كم هو بسيط الموت.
نعيش سنين ونموت بلحظة، ولكنه لم يكن مرعبًا بالطريقة التي تخيلها دائمًا…
ضحك على ذاته، على عدم خوفه أو حزنه، لأنه فقط لم تنتبه أي مشاعر سلبية، بل عكس ذلك تمامًا… كان سعيدًا بإتمام خطته على أكمل وجه، سعيدًا لأن جينتا سيخرج اليوم، ولن يُضطر للعيش في الجحيم.
“شخص مات… شخص سيولد.”
تمتم تحت المطر، وما زال متربعًا مثل المجنون يراقب المنزل المهجور.
“مهما مات من أشخاص، لن تتوقف الحياة.”
أظلمت مقلتيه السوداوين.
“ما المهم بموتهم، مقابل عيش أحبائي.”
بدا وكأنه يصارع نفسه… يقنع ذاته بأن لا خطأ في القتل، بين ضميره والمنطق غاص هو بعقلٍ محطم.
“لا أهتم… ليحلّ الموت عليكم جميعًا.”
استقام بملابسه الرديئة، وابتعد تاركًا الكثير خلفه، خوفه وقلقه، وضميره الإنساني.
تمضي الأيام سريعًا وتصبح أشهرًا. حلّ الشتاء، المشابه للجزء البارد من الجحيم. مهما ارتديت من ملابس، وحتى لو جلست داخل النار، لن تدفأ أطرافك المتجمدة. كبرت بطن تاري مع تغيّر الفصول، وزاد شوق كايو من أجل مقابلة الطفل الصغير.
تدريجيًا أعادت الحياة الروح لفاقدها، والعمل المُجهد لإصلاح المطبخ المحترق أنسى جينتا مصائبه، فلم يجد وقتًا حتى للنوم الكافي. فرح بالعمل الكثير، فكان التعب هو الحل الوحيد له ليتمكن من النوم بدل الأرق. ساعده العيش في منزل كايو على التأقلم، فابتسامة تاري، والأجواء المليئة بقدوم طفل جميل، أضافت سعادة لقلب الفتى الصغير، فعاد للابتسام حتى لو لم ينسَ… كما تفتحت أزهار الكرز فوق الأشجار.
استمرت اسايو بالعمل يوميًا عند ميناكي، وبدا أن للفتاتين علاقة تتحسن بمرور الأيام. انشغل توما بالركض لتنظيف مخلفات الفرسان، وترتيب سيوفهم ومكان تدريبهم، ومرت الحياة كما كانت… كما لو أن قصة الحارس والعجوز الشابة لم تكن موجودة يومًا.
وفي صباح بنسمات رياح تحمل رائحة أزهار الكرز، عكّر هدوء غابة العبيد صوت الصرخات المتألمة.
وقف كايو خارج منزله رفقة اسايو وجينتا، يقضم إبهامه، وصراخ والدته يخترق قلبه مثل سكاكين.
“هل ستموت؟”
همس جينتا لاسايو خائفًا.
“لا تتفوه بأشياء تجلب النحس، أيها الأحمق! “
صرخت بصوت منخفض، خوفًا من أن يسمعهم كايو.
“هل سبق لوالدتك المساعدة في الولادة؟”
أعاد جينتا السؤال للفتاة المتوترة.
“ولدت والدتي كل أطفال العبيد هنا.”
زفر الفتى مرتاحًا. والدة كايو، تلك المرأة الجميلة، كانت مثل شعاع أملٍ له.
تحت الأجواء المشحونة، غاب شخصان مهمان؛ توما، من كان لديه عمل، وأب الطفل القادم للحياة. فحتى للعبيد، امتلكوا الحق في البقاء مع زوجاتهم أثناء الولادة، لكنه تجاهل ذلك الحق وصرخات زوجته، وذهب للعمل، ما جعل سخط ابنه يزيد.
صوت البكاء، الذي انتشر بعد اختفاء الصراخ، نشر ابتسامة سعيدة عند من وقفوا بالخارج، واجتمعوا جميعًا حول جيلانا بعد خروجها.
“إنها فتاة.”
لمعت عيون كايو، وصفقت اسايو قافزة بسعادة، وابتسم جينتا.
دخل الفتى لرؤية وجه والدته المتعب، والعرق المتصبب عليه، والفتاة الصغيرة التي أصغر من أن تكون إنسانًا بجانبها. غادرت اسايو رفقة والدتها لعملها، كما فعل جينتا، وتبقى فقط الطفل ووالدته.
“إنها صغيرة.”
نظر لها كقطعة ثمينة.
“تبدو كبيرة الحجم مقارنة بك عند ولادتك.”
مدّت تاري يدها المرتعشة تمسح على وجنة ابنها.
“إنها جميلة، تشبه أمي.”
“عزيزي كايو، أنت أخوها الحبيب، ما رأيك بتسميتها؟”
تلألأت أعينه بسعادة، وأشار على نفسه:
“حقًا؟ يمكنني؟ أنا؟”
أومأت والدته موافقة، ما جعل الابتسامة تطغى على وجهه.
“رين نيان… تبدو مثل قطة لطيفة وصغيرة الحجم.”
ضحكت تاري بخفة، معجبة بالاسم.
“ريننيان؟ لطيف للغاية، أحببته.”
مسحت على رأس ابنها بفخر، وهو يراقب شقيقته الصغرى باهتمام.
منذ نطق اسمها للمرة الأولى، اعتاد كايو النطق بذلك الاسم عدّة مرات في اليوم. سريعًا ما باتت ريننيان جزءًا لا يتجزأ من المنزل، وتحديدًا بكاؤها الليلي الذي أرهق الجميع، وأبعدهم عن النوم. امتلأت يداها، حتى صارت قادرة على التلويح بأطرافها لأي مَن يقرّب وجهه لها. اعتاد جينتا على حملها وإسكاتها، أكثر حتى مما فعلت تاري. ربما أحبت الطفلة وجه جينتا الجميل، كما تعلق بها هو كحبل نجاة. ضحكتها تبعد عنه الكوابيس… كما بكاؤها يحرمه من النوم.
أحبّ الأطفال ريننيان، وأحبّها كايو، وعشق شبهها من والدته. وهنا، حيث بدأت حياة الرباعي، من مخططين للقتل، إلى تربية أطفال.
جلس الثلاثة حول كايو الممسك بأخته في حضنه، يتبادلون الأنظار.
“هل حقًا علينا نحن الاعتناء بالطفلة؟”
فرك توما شعره، متأملًا الملاك النائمة.
“أخبرتنا عمتي تاري بأنها مشغولة الليلة، ولا يمكنني رفض طلبها.”
رد عليه جينتا، وحاول مد إصبعه للمس وجنتها، ولكن كايو صفعه.
“لو أيقظتها، سأخنقك باللحاف.”
هدده.
“هل سنبقى الليل بطوله جالسين نحدّق بها؟” سألت اسايو، محدقة بالفتيان الأغبياء، ثم أكملت: “لا أرى والدك مؤخرًا؟”
أظلمت عيونه للحظة عند ذكر ذلك الشخص، ولكنه سرعان ما أعاد الابتسام:
“يزعجه بكاء ريننيان، فصار يقضي الليل في الخارج.”
“هل يسبّب ملاك كهذه الإزعاج؟ “
صرخ توما مشيرًا عليها، فلَسعته اسايو خوفًا من إيقاظها.
“ملاك…” تمتم جينتا. “ملاك كهذه.”ردّد كايو من بعده.
“صرت أستمع إلى طنين بكائها طوال النهار، أكاد أذرف الدموع لتذكره.”
هزّ جينتا رأسه متظاهرًا بالبكاء.
“فهمت الآن لماذا يمتلك كلاكما هالات تحت عينيه.”
سخرت اسايو.
“بحلول الغد، ستمتلكين مثلها.”
غمز لها جينتا، يردّ السخرية.
“لنحظَ ببعض النوم قبل استيقاظها.”
استلقى كايو، ولفّ اللحاف عليه وعلى ريننيان في حضنه. استقامت اسايو لنفخ الشموع، وانتشر الجميع تحت أغطيتهم، مقفلين أعينهم.
“أتمنى أن تدوم هذه الأيام طويلًا.” همس توما مقاطعًا الهدوء. ” أودّ لو نعيش فقط كأطفال، وأن نبتسم رفقة ريننيان… أن نقطف الفواكه، ونستمر بالضحك معًا.”
استمع الجميع لكلماته بصمت، يشاركونه الشعور. فقط العيش معًا، والابتسام دون وجع أو حزن، يكفيهم.
ولكنهم أدركوا جيدًا كم هو بعيد المنال حلم كهذا…حتى بليلةٍ كانت هادئة قبل تحوّلها إلى كارثة من الصراخ.
“بدأنا…” تذمّر جينتا كمن يحاول كبح دموعه. ” لا يمكنني أبدًا الاعتياد على بكائها.”
حمل كايو الطفلة، ووقف يهزّها محاولًا إسكاتها.
“لماذا تبكي الآن؟ هل هي جائعة؟”
سألت اسايو، ووقفت رفقة كايو.
“تناولت حليبها منذ وقتٍ قليل.”
أجاب جينتا بدل كايو، الذي كان يحارب.
“أفسدت هذه الطفلة لحظاتي الحكيمة… شعرتُ بأنها تسخر مني.”
تذمّر توما، راكلًا اللحاف بعيدًا.
“كان وقت بكائها مثاليًا للغاية.” استغلّ جينتا الفرصة للسخرية، فرد الآخر بإلقاء الوسادة عليه: ” جد لنفسك وظيفة أفضل من السخرية من الأخرين! “
” هل تريد أن تبقى طفلا للأبد توما؟ تخاف لو كبرت لن تتمكن من البكاء واااء كما تفعل الآن. “
امسك جينتا بالوسادة وتظاهر بالبكاء.
” أتشتهي الموت؟ “
بدل الوسادة قرر توما الهجوم شخصيا ما جعل جينتا يقف هاربا فتوما يفوقه طولا وقوة.
“أنا آسف، سامحني، لا تكن حقودًا.”
اختبأ خلف اسايو التي تحاول إسكات ريننيان مع كايو.
“سأسامحك بشرط ألا تكررها مجددًا.”
“أريد أن نبقى أطفالًا معًا دائمًا يا رفاق.”
أعاد جينتا تقليد لحظات الفتى الحساسة وهو يستنشق ماء أنفه المزيف.
“سأقتلك!”
كان سيقتله فعلًا لولا اسايو التي تحدثت لإيقاف لعب الاثنين.
“الرائحة…” ركز الجميع بها: “ألا تشمون؟”
بضع ثوانٍ قبل أن يقفل الجميع أنوفهم صارخين.
“فعلتها…” ردد كايو بهدوء، والتفت إلى جينتا المختبئ خلف اسايو، مدّ الفتاة إليه بملامح فارغة:”اعتمد عليك.”
“صحيح، أنت لها جينتا!”
شجعته اسايو ولحقت بكايو خارج المنزل.
“هذا جزاؤك.”
ربت توما على كتفه وأقفل باب المنزل بعد خروجه.
“لا يمكنكم فعل هذا بي!!”
تجاهلوا صرخة الظلم من جينتا، فصرخته كانت أقل رعبًا من رائحة الحفاظات.
⸻
وكأنها وضعت فنجاني شاي على عينيها، اتجهت اسايو لعملها بعيون تحيطها الهالات السوداء.
أبت الطفلة الصغيرة أن تنام بهدوء، تارة تبكي وتارة تصرخ، استيقظت لتلعب قبل شروق الشمس واضطر جينتا لتغيير الحفاظ مرتين وإطعامها الحليب لعدة مرات، حتى عجزوا في لحظة عن النوم خوفًا من استيقاظها مجددًا.
تفهمت سبب تعب جينتا وكايو المستمر، ومن ليلة واحدة قضتها معها رغبت بالنوم لبقية اليوم.
بعيون نصف نائمة، مسحت الغبار عن طاولة تجميل الآنسة ميناكي التي كانت تجلس على الأريكة المنخفضة الحريرية، تلاعب احد الدمى المصطفة أمامها.
“تبدين متعبة اليوم.”
قالت ميناكي بدون أن تبعد تركيزها عن دميتها.
“لم أحظَ بنوم كافٍ في الأمس.”
“لماذا؟”
رفعت رأسها عن الدمية للفتاة.
“اعتنيت بريننيان الصغيرة ولم تتوقف عن البكاء طوال الليل.”
هزت رأسها متذكرة المأساة، ثم عادت لمسح الغبار.
“ريننيان؟”
تسائلت.
“أخت كايو الصغرى، وُلدت قبل ثلاثة أشهر.”
“سمعت عن هذا من أخي.” تمتمت بملل غير مهتمة: “هل تشبه كايو؟”
“ليس حقًا، تبدو أكثر شبهًا بوالدته.”
نفخت بملل قبل أن تخطر بعض الأفكار على ذهنها:
“كيف يبدو كايو كأخ أكبر؟ هل هو لطيف؟ أيبتسم لها؟”
توقفت اسايو عن التنظيف تفكر قليلًا بكيف يبدو، ابتسم كايو أكثر مما فعل سابقًا عندما يكون حولها، اهتم بها أكثر مما فعلت والدتها وركض للمنزل فقط للعب معها.
رأت بعينيه السوداوين المنطفئتين لمعان الحياة للمرة الأولى منذ زمن طويل، كانت ريننيان تبدو أشبه بحبل نجاة يتمسك به كايو وجينتا للاستمرار بعد كل الفواجع.
شقّت الابتسامة شفتيها لتذكر كم كانا لطيفين معها وأجابت بصوت تملأه العاطفة:
“أصبح لطيفًا للغاية، لم يعد دائم العبوس على الأقل.”
“هذا رائع.” ضحكت ميناكي مصفقه بسعادة: “أريد رؤية كايو المبتسم.”
“يصعب عليك فعل هذا سيدتي… وعدتني ألا تورطيه بالمشاكل.”
عبست الآنسة على وعدها مع اسايو، تعلم كم هو صعب لقاؤها بالفتى ولكنها أرادته، وكم كل ممنوع مرغوب.
“لن أجلس معه أو أتحدث معه، أريد فقط رؤيته معها.”
تركت ميناكي أريكتها الدافئة وأسرعت لاحتضان ذراع اسايو:
“أرجوكِ اسايو… ألسنا صديقتين؟ أود ذلك بشدة، أرجوكِ.”
سيدة تتوسل لعبدة، لو رأى الموقف أحدهم ربما ستتعرض للإعدام. تذكر وقار السيدة لانيان جعلها تبعد يد الطفلة مرتعشة.
“حسنًا، حسنًا…” أبعدت نظرها عن ميناكي قبل أن تتذكر: “بعد اسبوعين !” تمتمت.
“بعد اسبوعين؟”
أعادت ورائها متعجبة.
“عيد ميلاد كايو بعد اسبوعين بمنتصف الشهر، قررت مع الفتيان أن نفاجئه عندها.”
“سآتي!”
صرخت الطفلة بحماس.
“وعدتني أنك سترين فقط.”
“أجل فقط، سأراقب من بعيد!”
عدلت كلماتها منزعجة.
“وعد؟” مدت اسايو خنصرها، فوضعت ميناكي خنصرها مع ابتسامة طفولية: “وعد.”
_______
خلف الملحق الخاص بتعليم السيد الصغير، وحيث يتم إلقاء المخططات والأوراق المستعملة، تواجد كايو. متظاهرًا بأخذ الأوراق لإحراقها كما هو عمله، كان يسرقها. جمع كل الأوراق لمكان لا يدخله أحد… إلى منزل جينتا السابق أو منزل العجوز الشابة.
خاف العبيد من الدخول هناك ونعتوه بالمكان الملعون، ولم يكن الفرسان والخدم يدخلون لغابة العبيد إلا في أوقات المصائب.
كل ليلة منذ بداية السنة الجديدة، جلس كايو بالمنزل البارد مستمعًا إلى صك أسنانه لشدة البرد، لكنه حارب نفسه ورعشة جسده للقراءة؛ مواضيع مختلفة وأحيانًا ناقصة؛ فلسفة وطب، حساب ولغة، تجارة وتشريح وجغرافيا، تاريخ وسياسة.
لم تكن فقط دروس السيد الصغير، فحتى الكتب القديمة والبالية وبقايا علم السيد.
مرت الأشهر الخمسة سريعًا، فصار الكوخ البارد أكثر دفئًا كما امتلأ عقل كايو بمعلومات تفوق سنه.
تذكر ليلة الأمس أثناء تنظيف مكتبة السيد، فهربت من بين شفتيه ابتسامة صغيرة، ابتسامة أزعجت أحدهم بشدة.
استندت قدماه على الطاولة، يعيد ظهره للخلف محركًا الكرسي. تخلص من قبعته قبل دخول معلمه، ما جعل شعره المجعد الذي اعتاد ما يخفيه أو يحلقه واضحًا.
“ما المضحك؟”
تمتم، يقيظ كايو من أفكاره.
“لم أضحك، سيدي.”
توقف كايو عن مسح الغبار والتفت، جامعًا يديه معًا وعيونه تحدق بالأسفل.
“أنت عبد ولكنك لست مجنونًا، لم ستضحك أثناء تنظيف الغبار؟”
علت نبرته قليلًا.
“أعتذر لك سيدي، فلم ألحظ تصرفي.”
“هل تعلم…” وقف كايجين، ما تسبب بوقوع الكرسي مصدرًا صوتًا مزعجًا. تقدم ناحية كايو ووكز وجنته بأصابعه: “لا أكرهك لأنك عبد.”
جملته جعلت حتى كايو يتعجب من كلام بدا بشكل غريب صادقًا.
“لم أكرهك لأنك عبد، فلست أهتم بالعبيد والتنمر عليهم، وهذا يبدو طفوليًا حقًا، وأنا وريث العائلة لا وقت لدي لهذا.” للمرة الأولى بدا كايجين عاقلًا ومهيبًا كما النبلاء:
“أنت يا كايو ونظراتك… تبدو بحالة يُرثى لها بملابس رديئة، فلماذا عيناك تقول بأنني الشخص الأسفل هنا؟ أكره اعتذارك الكاذب وتظاهرك بالأسف وكلماتك الفارغة التي تحمل رغبة عميقة بقتلي. كل مرة أراك تعتذر أتخيل فصل رأسك عن جسدك. عبد قذر مثير للغثيان مثلك التفكير بأنك أعلى من سيدك. هل تعلم ما عقاب هذا؟”
“أستحق الموت لجعلك تظن بأن عبدًا وضيعًا مثلي يفكر بهذا الشكل الحقير.”
أحنَى رأسه كما اعتاد، ولكن عينيه لم تفعل. مقلتيه فضحتاه، وتلك كانت مشكلة لم يفكر بها قبلاً.
“توقف عن هذا أيها المتطاول اللعين!” صرخ كايجين رافعًا يديه: “وهل تظن أن كلماتك الجوفاء تنطلي عليّ؟” أوقف يديه وصفعته دخول المعلم، ما جعله يتراجع عائدًا إلى طاولته.
أسرع كايو لحمل الكرسي الواقع لسيده، الذي جلس بنظرات تكاد تخترق جمجمة الآخر. وكما مر بقية اليوم وكلمات كايجين لا تفارق ذهن كايو.
فور عودته للمنزل، وبعد ملاعبة أخته اللطيفة، وقف أمام المرآة كالأحمق.
“تعلم الابتسام.”
تمتم لنفسه.
“نغمغمغم.”
بدت وكأنه ريننيان ترد عليه.
“هذا صحيح، ريني.” انحنى أمامها مبتسمًا: “إنه سهل عليك.”
“أممغغغ.”
جعلته أصوات الطفلة وحركة يديها الفوضوية يضحك كأنها تجيب عليه. قرص وجنتها وهي تتحرك بحماس.
“يمكنني تزييف الابتسامة لو فكرت فقط بلعابك الذي يملأ ملابسي دائمًا.”
“غم غم ناا.”
قهقه على أفعالها، تزامنًا مع فتح باب المنزل ودخول النسخة الكبيرة المشابهة للطفلة.
“كايو لقد عدت!”
“أمي، أنا جائع.” استقام لمساعدة والدته بإدخال أكياس الخضروات. “ماذا ستعدين للعشاء؟”
“ألست تحب البطاطا المشوية وحساء السمك؟”
“الأفضل على الإطلاق!”
ابتسم متحمسًا وخرج صوت آخر من خلفه:
“نمم ناغغ!”
كانت ريننيان كأنها تؤيد كلامه. نظر لها الآخران قبل أن يضحكا على لطافتها
__________
مملكة لين… مملكة كانت مجرد تقاطع طرق للممالك العُظمى المحيطة بها قبل توحيدهم من قِبل الملك تارولين وتقسيمهم إلى أربعة أقاليم. أعطى كل زعيم نفوذًا للحكم على إقليمه والتحكم بكل سادة الإقطاعيات في منطقته. يحد مملكة لين البحر من الغرب حيث أطلت العاصمة كازولين وتشالين، أما هاولين فتشاركت الحدود مع مملكة كاميرون العُظمى، وكما غطت حدود اندولين مع مملكة جانارا العُظمى، وحدت بينهما صحراء الثعالب حيث وجدت على الحدود الجنوبية لاندولين أيضًا مملكة روسال الصغرى.
ضمت القارة منذ 521 عامًا ثلاثة ممالك عُظمى: لين، جانارا، كاميرون. ولم تمتلك الممالك أفضل علاقة فاحتدت الحروب والمكائد بينهم لسنوات حتى نزفت الحدود من كثرة الدماء. فقط بعام 508 كتب الملك السابق تارولين السابع اتفاقية سلام لثمانية عشر عامًا مع الدول المجاورة، ولم يتبقَ منها إلا عشرة سنوات. ومات بعد توقيع الاتفاقية بسنتين.
اهتز البلاط الملكي ومجلس الأعمدة الخمسة بكل عام يقتربون فيه من حل معاهدة السلام. لم تكن السنوات الماضية مجرد وقت للراحة والترفيه، فقد أعدت كل مملكة الجيوش والأسلحة خوفًا ممن سيبدأ الحرب القادمة، رهبةً من الحقبة المقبلة.
اجتمع الأعمدة الخمسة حول الطاولة المستديرة حيث تتزحلق الأقمشة الحريرية الحمراء أعلاها، وامتلأت بأجود انواع الخمور. أحاط القليل من نور القمر من ثقوب الشبابيك وزينت الطاولات اسفلها بالورود الحمراء.
لم تكن الغرفة واسعة على الرغم من كبر حجم من يجلسون بداخلها، فهي غرفة الهمس والمشورة حيث يُمنع الملك من الدخول، مكانٌ يتفق فيه الأعمدة الخمسة على قراراتهم قبل طرحها على الملك ويُمنع دخوله لكي لا ينحازوا بالحقائق بسبب الخوف.
تشكلت الأعمدة الخمسة من ركائز الدولة: الجنرال المسؤول عن الجيش، مدير الخزنة المالية الإمبراطورية، وزير الثقافة والشؤون الخارجية، سيد الحكمة والتعليم، وأخيرًا الاستراتيجي المخطط للمملكة ورئيس الأعمدة وصاحب أكبر مكانة بعد الإمبراطور.
“لن يتوج طفل وُلِد من رحم أسود كولي عهد!”
ضرب سيد الحكمة الطاولة بقبضته، رجل عجوز بنهاية عقده السادس بلحية تشبه لحية الماعز.
“يؤسفني تأييد رأي الرجل العجوز.”
مشبكًا يديه أمام صدره أجاب وزير الشؤون الخارجية بشعره العاجي الطويل المنسكب على كتف واحدة، واضعًا ساقًا فوق الأخرى ووجه نظره بعيونه الزرقاء للجالسين.
“سيكون مشؤومًا… سيجلب الدمار بعد فك اتفاقية السلام.”
تمتم مدير الخزنة الأصلع الشاحب النحيل بصوت منخفض كما كان رأسه.
“لا تهمني تراهات الشؤوم!” ضرب رجل طوله متران الطاولة حتى اهتزت، وأكمل بصوته الغليظ: “دع الحرب تبدأ، وأقسم بأني سأزحف لكل الممالك وأغزوها.” صوته العالي ناسب مكانته كجنرال أكبر للمملكة، رجل بمنتصف الخمسينات زين وجهه ببعض الندوب من الحروب التي خاضها، تثبت اللحية السوداء على وجهه بشكل أنيق ولم تزده التجاعيد إلا وقارًا كما كان سواد شعره.
“جنرال لم يحارب منذ ثماني سنوات، هو مثل الكنوز المدفونة، كلاهما لا يمتلكان أي فائدة.”
سيد الحكمة ليامو سخر مداعبًا لحيته.
“ماذا قلت؟”
صرخ الجنرال تونجا ردًا على الإهانة، ما جعل الأعمدة يفزعون جميعًا بينما غطى الأصلع أذنيه، ورفع صاحب الشعر العاجي رأسه باستغراب.
“قلت إنك بلا فائدة، كل ما تفعله التسكع على الحدود وشرب النبيذ مع جنودك والنوم مع النساء.”
بصوته المهتز أكمل ليامو سخريته.
“نساء! لا أعرف امرأة غير زوجتي!”
آلمته تهمة خيانته الزوجية أكثر من إهانته كجنرال الدولة.
“رجل بمترين يخاف من امرأة.”
لم يتوقف العجوز عن سرد الإهانات واحتساء النبيذ، ما جعل أذني تونجا تخرجان دخانًا من الغضب.
“أيها الــ…”
“انتهيتم؟”
بصوت خافت وهادئ وكأنه يحمل وزن الأرض بكلماته، خرجت الجملة التي أطفأت نار تونجا وأسكتت العجوز حتى أعاد كوب النبيذ إلى الطاولة.
“لنصوت لمن يمانع تنصيب ولي العهد.”
عندما حل الهدوء أعاد الموضوع لوضعه الأساسي، رجع الجميع للجلوس بأدب مثل أطفال المدرسة بعد قدوم المعلمة.
انغمس الأعمدة بكتابة الورقة الصغيرة بالريش والحبر ثم وضعوها في الصحن الزجاجي الأحمر. بهدوء، يزحف خلفه رداؤه الأسود كما شعره، استقام رئيس الأعمدة لأخذ الصحن، بعينين سوداوتين منطفئتين وشعر يصل إلى خاصرته بلون عيونه، نظر بوقار وهدوء يليق بمكانته كرجل الأكثر دهاءً بالمملكة.
تيانلين، الابن الثاني الوحيد الحاصل على لقب لين خصيصًا من الملك. رجل نبيل في الثالثة والثلاثين من عمره، الابن الثاني لزعيم عشيرة هاولين والمخطط الاستراتيجي الذي حصل على مكانته منذ ثلاث سنوات كأصغر رجل يحوز على موقعه.
كان لقب لين يُعطى فقط لزعماء العشائر الكبرى وورثتهم وليس لكل الأبناء، ولكن الرجل تيان تمكن من الحصول عليه بجدارة بعد كل المعجزات التي قام بها، فقد كان أحد الأركان الأساسية التي ساعدت على عقد معاهدة السلام.
فتح الأوراق وقرأ ما اجتمع عليه الأربعة قبل أن ينظر لهم معلنًا النتيجة:
“اجتمع الأعمدة على رفض تعيين الأمير الأول تورامي كولي للعهد… لنتجه للاجتماع مع جلالته.”
يجر رداؤه الأسود خلفه، خرج تيان من غرفة الهمس والمشورة بوقار كما سار الأربعة وراءه.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "08"