07
تدفّق صوت قطرات المطر على البلاط الأسود أعلى جناح الآنسة الصغيرة ميناكي .تركت الباب السحاب الخشبي مفتوحًا حتى تشاهد المطر يداعب حديقة أزهارها المُطلة على شرفتها.
“أطرافي تتجمّد لمجرد التفكير بحلول الشتاء. “
تذمّرت الطفلة ميناكي للفتاة الواقفة خلفها تسرّح شعرها البني الحريري.
توقّفت اسايو للحظة عن تحريك يدها، تبدو وكأن ذكرى الشتاء كان قاسية للغاية. لو اشتكت الآنسة المدللة من تنام بجانب المدفئة مغطاة بالحرير، فما يمكن للعبيد قوله؟
“البرد قارس للغاية بهاولين، العيش هنا يجعلنا ننسى ماهيّة الطقس المعتدل. “
أجابت اسايو وأعادت تسريح شعر ميناكي، ثبتت دبوس الشعر المُزيّن بمجوهرات على شكل وردة بيضاء وعادت خطوتين للوراء منتهية من مهمّتها.
“أتمنى العيش بكازولين ورؤية الأمير الصغير، والبقاء بالأجواء المعتدلة.”
تأمّلت ميناكي تسريحة شعرها بالمرآة، مُحبّة لجمالها كأي فتاة صغيرة، حلمت بالزواج من الأمير واعتقدت أنه سيقع بحبّها بمجرد رؤيتها، فهي بظنّها جميلة ولا تُقاوم.
“الجو المعتدل يبدو مُغريًا للغاية. “
ردّت اسايو وباشرت ترتيب حزامها الحريري الأزرق المُسوّد المُكمّل لردائها الفاخر من طبقتين، طبقة بذات لون الحزام وأخرى بيضاء، جوارب بيضاء وحذاء ناعم بلونه ذاته.
“أعتقد أن الأمير أكثر إغراء… فكّري بالأمر قليلًا اسايو، العيش في قصر الملك، وحضور الحفلات الراقية وسط أكبر مدينة وأكثرها ضجيجًا وحيوية… ليست كئيبة مثل هاولين ومقاطعة ميراي. “
ابتسمت الطفلة مُشاركة أفكارها النقية.
“أعتقد بأنه سيكون مكانًا جميلًا. “
اختصرت اسايو ردّها وأعادت التحديق بالحديقة، يُضيف صوت المطر رنينًا لقلبها المُنقبض.
ما المهم بكازولين أو الأمير؟ فهي ربما لن ترى صباح الغد. أصابها الأرق منذ البارحة وحديثها مع كايو، ضميرها كان قاسيًا معها لجهلها بما مرّ به جينتا، ولم تتمكّن أبدًا من رفض خطة كايو بعد معرفتها بكل ما مرّ به صديقهم.
“اسايو؟” أمالت ميناكي رأسها أمام الغارقة بأفكارها: “تبدين غارقة بأفكارك. “
“لا… لا! ” حرّكت يديها نافية، ووضعت ابتسامة مزيفة: “يبدو المطر جميلًا بحديقة الآنسة. “اختلقت عذرًا.
على عكس كايو وكايجين، امتلكت اسايو وميناكي علاقة هادئة، ربما أقرب لكونهما أصدقاء. وجدت ميناكي بعض الراحة في رفقة العبدة التي لن تتحدث عن أي شيء تقوله، وأحبت اسايو لطف السيدة وابتسامتها البريئة.
لم تكن اسايو طفلة حقودة، حتى بكُرهها للعبودية وأمنيتها بالتحرر رفقة والدتها، لم تجعلها تكره أو تحقد على طفلة صغيرة لا دخل لها بأي شيء.
“أنا جميلة…” تمتمت ميناكي كأنه الشيء الأكثر تعاسة بالعالم: “جميع الفتيان بالإقطاعية يحاولون التقرّب مني، ولكنه يتجاهلني. “
“من؟”
“كايو… أنتما مقرّبان أليس كذلك؟”
ذكر ذلك الاسم جعل اسايو تركّز مع الطفلة بدل المطر بالخارج.
“نقضي أوقات الفراغ بالتسكّع معًا.”
“يبدو لطيفًا مع الجميع إلا أنا! “
قوّست شفتيها حزينة.
“لأنه عبد، وأنتِ سيدة، لا يمكنه التطاول معكِ سيدة ميناكي. “
“ولكنني منحته الإذن ليتحدث معي! “
“سيُقتل إن رآه أحدهم رفقتك سيدتي. “
أخفضت رأسها بتعابير حزينة بالكاد تُخفيها، مَقَتَت تعلّق الطفلة بكايو، ربما هي فقط من لم تلاحظ معاملتها له كإحدى ألعابها.
“من المُحزن أن والدته عبدة. يستحق جماله الولادة بطبقة نبيلة… حسنًا، والدته نبيلة سابقة، ذلك يُبرر كونه أجمل من بقية العبيد. “
جميل؟
وجه كايو شيء لم تفكّر به اسايو قَبلاً، فكل ما تعلمه عنه أنه صاحب عقل يكبرهم جميعًا سنًا، ولن يرضخ لألعاب السيدة ميناكي الطفولية.
“ولادته كعبد أمر لن يتغيّر، فقط تجاهليه. “
نفخت خديها غير معجبة برد اسايو رغم إدراكها بواقعيّته.
“عزيزتي ميناكي. “
دخلت بواقر، جاعلة العبدة تتراجع للخلف مرتعشة… سيدة الإقطاعية، بشعرها البني الطويل مثل خاصّة ابنتها، وردائها الحريري الأسود الفاخر الممتزج بزخارف ذهبية انسدل على كتفيها. عيونها الزرقاء زادتها وقارًا، وهي تسير رافعة رأسها بغرور واضح. خلف السيدة، وقفت جيلانا محنيّة رأسها في خدمة سيدتها. تبادلت النظرات مع ابنتها بالموقف ذاته.
“تجهزت يا أمي. ” دارت حول نفسها متباهية: ” كيف أبدو؟”
“كما العادة، ابنتي هي الأجمل على الإطلاق. “
وضعت السيدة لانيان ابتسامة صغيرة لا تنقص من وقارها شيئًا، ووجّهت نظرها للعبدة الواقفة مخفضة رأسها.
“ما زلتِ لا تعرفين مكانتك. “
جعل صوت السيدة الصارم يدي اسايو ترتعشان، وشفتيها تجفّان.
“كم على الإعادة على مسامعك لفهم أنك عبدتها ولستِ صديقتها! “
علا لحن صوتها قليلًا، جعل الارتعاش يمرّ بكامل جسد الطفلة.
“توقّفي أمي… اسايو فقط تستمع إلى حديثي. ” قفزت الطفلة للإمساك بيد والدتها محاولة تهدئة نظراتها التي تكاد تخترق العبدة الصغيرة. “والدتها هنا ستكون حزينة إن وبّختِ ابنتها أمامها.”
“طفلتي أنتِ حقًا…” تنهدت لانيان والتفتت رفقة ابنتها دون النظر إلى العبدتين:
“طفلتي حقًا طيبة القلب. من الخطأ معاملة العبيد بطيبة، سيتطاولون وينسون مكانتهم. علمتك ذلك كثيرًا، لا تنسيه. ”
“حاضر أمي. “
ابتعدت السيدة وابنتها، عندما وقفت العبدتان بعيدًا بظهر منحني حتى اختفوا عن أنظارهما أخيرًا.
بدا الأمر وكأنهما أخيرًا كانتا قادرتين على التنفّس.
“كنتِ خائفة؟”
سألت جيلانا ابنتها، تصطنع الابتسام، أرادت إبعاد الخوف عنها.
“السيدة لانيان مخيفة!” تذمّرت تفك عقدة يديها: ” لا أُصدّق أنها والدة ميناكي اللطيفة. “
“لا يبدو كل الأطفال مماثلين لأهاليهم. ” جلست جيلانا على ركبتها أمام طفلتها، ممسكة بيدها المرتعشة:
“كوني حذرة، اسايو… أعلم جيدًا أنكِ طفلة عاقلة وذكية. لا تثقي بالسيدة الصغيرة، فلا يُصادق النبلاء العبيد. “
“السيدة ميناكي طيبة القلب حقًا، لا داعي للقلق أمي، فأنا حذرة بما أتفوّه به، فقط أستمع إلى ما تقوله هي.”
ربّتت على رأس ابنتها الصغيرة، تُخفي حزنها على نضوج ابنتها المُبكّر خلف ابتسامة مزيفة:
“أحيانًا أشعر بأنكِ أكبر مني سنًا… إلهي، كيف ربيتكِ حتى تصيري بالغة وأنتِ بالثامنة!”
تأثير كايو…سخرت بداخلها.
“توقّفي عن ذلك، ما زلتُ طفلة صغيرة، وأنا جائعة!”
“سأعدّ لكِ أفضل غداء بالكون”
أمسكت بيدها الصغيرة تُعطي ابنتها كل حنان الكون مع ابتسامتها اللطيفة التي تُخفي عينيها. كانت جيلانا أمًّا مثالية، عيبها الوحيد أنها وُلِدت عبدة.
_________
داعب رأس كلب الحراسة الأسود جالسًا القرفصاء أمامه. حتى كايو لم يخطط لترويض الكلب من أجل وضع نهاية للكلب، للمرة الأولى يلعب الحظ دورًا إيجابيًا في حياته.
اعتاد كايو على محاولة كسب مودة كلب الحراسة عندما رغب بسرقة لحم الظأن، حفظ عندها كل عادات الحارس نوا غير عالمٍ بأنه سيستفيد من تلك الأيام من المراقبة والتخطيط لجره إلى نهايته بدل سرقة قطعة اللحم…من ضمن تلك العادات كانت تمسكه بكلبه وتنظيف أوقاته، فالظهيرة هي وقت راحة الكلب كما يفعل هو.
“كلب جيد. “
ابتسم كايو للكلب الذي أجابه بنباح ممتلئ بالود، فربما هو رأى كايو أكثر حتى من مالكه.
“لو فشلت سنموت جميعًا. “
تمتم مذكرًا نفسه بعبء القادم، لكنه فقط يذكر بشيء لم ينسه من الأصل.
“لو نجحت، لن يتواجد ما يهدد جينتا. ” صمت قليلًا يفكر أكثر عمقًا. “لا يمكنني السماح لأختي الصغيرة بالعيش في مكان واحد مع نوا. “
تخيّل كثيرًا بالليلة الماضية، ماذا لو حلّ بالمولود الجديد مثل جينتا؟ تلك الفكرة أضافت غضبًا صارخًا لقلبه زاد من إصراره على إنهاء مغتصب الأطفال.
“سأحميها.”
أعاد التمتمة مقابل الكلب. جهلت والدة كايو إلحاحه على كون المولود فتاة، واستمراره بالتحدث عنها كفتاة… بالحقيقة هو تمنى طفلة صغيرة جميلة تُشبه والدته الحبيبة.
توقّف عن مصارعة أفكاره ودفع نفسه للأمام. الخوف هو العائق الأكبر، فلو استمر بالارتعاش من كل حدث، لن يتمكن من إنقاذ أحد… سيموت المقرّبون له واحدًا تلو الآخر.
“هل يمكنك إيجاد ملابس بهذه الرائحة من أجلي؟”
وضع للكلب قطعة الملابس التي تحمل رائحة اسايو. استجاب الكلب بالنباح فور شمّ الرائحة، وانطلق حيث يعلم كايو بأن قد تقرر لهم الالتقاء.
اختار فترة الظهيرة، حيث الوقت الأكثر هدوءًا بعد الليل… عمل أغلب العبيد بالمناجم، وانشغلوا بأعمالهم الخاصة في هذا الوقت. كانت فترة راحة الفرسان، الذين اجتمعوا بالصالة الخاصة بهم لتناول وجبة الغداء، كما أخذ الحارس نوا قيلولة كمن لا يحمل همًا.
ركض الكلب، ولحقه كايو سريعًا نحو المكان المحظور… نحو غابة الأسياد.
كان مكانًا محرّمًا دخوله، ويُعاقَب أي من يدخله، وسيموت إن لمس أي شيء من الممتلكات المقدسة للسيد.
سببت الغابة رعبًا للعامة كما العبيد، للدرجة التي لم يتعب الأسياد بها وضع حراس، فمن يتطاول على مكانتهم لا يلزمه العيش.
بكل خطوة ركضها خلف الكلب، كان صوت نبضاته يضرب بأذنه كقرع طبول مزعج، جعل كل الأصوات الأخرى بعيدة بالكاد يسمعها. اخترق الهواء البارد رئتيه وتنفس بصعوبة، جاعلًا صدره يعلو ويهبط. تلطخ حذاؤه المهترئ من مستنقعات الماء والوحل التي تسبب بها المطر الذي هطل صباحًا، وما زالت الغيوم بالسماء تُنذر بهطول المزيد.
كان الجو باردًا، ليس كقلبه الساخن.
دخل الكلب غابة الأسياد دون تردد، عكس كايو، وقف يتأمّل الأشجار العالية وأوراقها الذهبية والبنية التي ترقص بهبوب الرياح. تشابكها مع الغيوم الملبدة بالسماء جعل الغابة مظلمة. قدمه عجزت عن التقدّم، وعاطفته رفقة الرجفة بجسده دلّته على الابتعاد…
ولكن اسايو بالداخل. وعدته بالالتقاء داخلًا، ووصول الكلب للغابة أكبر دليل على تواجدها. تلك الطفلة الخائفة، من كانت تصرخ دومًا عند مشاركته مخططاته وأفكاره… تلك الطفلة دخلت لمكان سيؤدي لقتلها، لأنها آمنت به ورغبت بإنقاذ صديقها، وصدّقت أن كايو يمكنه فعلها.
ألقى بالخوف والتوتر بعيدًا، وانطفأ وميض الحياة من مقلتيه السوداوين لتغدو كخاصة قاتل سفّاح قتل الملايين، ولكنه فقط طفل بالتاسعة يتخطى قوانين لا يجد معنى لها.
صوت نباح الكلب دلّه على مكان اسايو، فلم تبتعد كثيرًا وتتغلغل بالغابة، فقط انتظرت كما أُمرت، رفقة سكين وأرنب.
“توقّعت فشلك.”
همس كايو وكأنه الأشجار ستوصل كلامهم للأسياد.
“لو كنت سأفشل، لما وافقت على فعلها منذ البداية.”
ابتسمت بتعجرف، ولكنه لاحظ الارتعاش بيديها حتى كاد السكين يقع منهما. أمسك بيدها قبل أن يأخذ السكين بيد، والأرنب باليد الأخرى، وتمتم:
“تعلمين ما عليكِ فعله تاليًا.”
هزت رأسها إيجابًا، وتركت السكين بيد كايو.
“تأكد من الخروج سريعًا.”
سارت للذهاب وتنفيذ جزئها الأخير من الخطة، ولكنها توقفت للحظة:
“لا تمت، فلو متّ، سينتهي أمرنا جميعًا.”
” أخبري توما بتنفيذ دوره. ”
ركضت مسرعة للخارج، فعليها الآن التظاهر بإنقاذ الحارس نوا وإخباره بأن كلبه اقتحم غابة الأسياد.
فور اختفاء اسايو، نظر كايو إلى الأرنب والسكين بين يديه، وعادت الرعشة تحتلّهما. جلس الكلب كمن ينتظر الأوامر يراقب كايو المتردد.
عليه قتله… الكائن اللطيف ذو العينين اللامعتين، والفراء الأبيض… عليه قتله، ووضعه أرضًا كي يتمكن الكلب من أكله دونه، وتمكنه من الهرب دون إفساد الخطة.
ابتلع ريقه، محاولًا طرد الخوف للمرة الألف في اليوم ذاته.
“ستصبح أخًا أكبر مع تفتّح أزهار الكرز.”
وجه والدته وابتسامتها… تذكّره أنها ستُعاقب معه لو أُمسك بهم، جعل يده تتحرّك لوحدها مُسبّبة فتحة بعنق الأرنب. انتشرت الدماء، ملطّخة ملابس كايو، لكنه تجاهلها، يعطي الجثة للكلب الذي ينتظر جائزته بفارغ الصبر.
انهال الكلب على لحم الأرنب الميت، وحانت لحظة كايو للهرب، ولكن لا تسير الخطط كما يتمنى مخطط طفل.
“أقسم لك رأيت كلبك الأسود بالداخل! “
سمع صوت اسايو خارج الغابة.
“لو اتّضح كذبك، أقسم بأني سأتناول لحمك على العشاء، يا طفلة…”
أجابه صوت الرجل المثير للغثيان لكايو.
نظر حوله شاعرًا بالعجز، فكان هذا المدخل والمخرج الوحيد للغابة، الذي لا يطل على منزل الأسياد. أضاع الوقت بالتردد، وربما الآن سيموت، كما قُتل الأرنب المسكين.
نباح الكلب حين سمع صوت سيده دعم كلمات اسايو، وما يعني توغل الحارس نوا للغابة… ولكن كايو…
عرف أن التردد يعني الموت، فأسرع بتسلق أعلى شجرة موجودة… شجرة علوها يتخطى بقية الأشجار. لم يكن تسلق الأشجار إلا لعبة لعبها كايو رفقة جينتا لقطف الفواكه، فكان الشيء الأسهل لفعله.
حطّ على مسمعه صوت دوس حذاء الحارس على الأوراق المتساقطة، معلنًا اقترابه، وما زال كايو يتسلق، يتصبّب العرق من جبينه، بملابس مليئة بالدماء وصل اعلى الشجرة.
______
انقبض قلب اسايو بعد تسليمها للسكين والأرنب لكايو بالغابة. لا تصدق حقيقة خروجها من غابة الأسياد على قيد الحياة، وها هي تركض مبتعدة حتى تكمل باقي دورها في الخطة… خطة ستتسبب بموت أحدهم.
هزت رأسها طاردة الأفكار غير المجدية، فما تكونه روح حارس أحب إزعاجهم برائحة اللحوم أمام قلب صديقها العزيز جينتا. كانت تثق بكايو وتعلم أنه أكثر من يحارب نفسه والعالم من أجلهم.
أبعدت الشك وتمسكت بمن تثق، متجهة إلى نقطة لقائها مع توما، مفترق الطرق بين مكان الفرسان ومنزل الحارس. وقف الفتى مجعد الشعر برأس منخفض ويدين تفركان بعضهما، يمكنك من بعيد معرفة أن الفتى يقدم على فعل متهور.
“توما.”
أحنت اسايو ظهرها محاولة التقاط أنفاسها.
“حان الوقت.”
همس الفتى الذي يقطر عرقًا على الرغم من برودة الجو.
“سننفصل الآن، اذهب إلى رأس ذيل الكلب وسأكمل إلى العجوز الشاذ.”
استقامت بثبات تشرح خطة هو يعلمها بالفعل. لاحظت الخوف والرهبة بملامحه المرتبكة، شيء ليس بجديد على توما طيب القلب.
“هل… هل ما نفعله الآن صحيح؟”
علت نبرته بالكلمة الأخيرة.
“هل فقدت عقلك؟”
فهمته ولكن شكه بكايو لم ينل إعجابها.
“لا… لا أستطيع فعلها اسايو… التسبب بقتل شخص ما… الموت مخيف. أخاف الموت، لا… لا أريد أن يكون لي يد بموت أحد… أنا خائف…”
ارتعش جسد الفتى وامتلأت عينيه بالدموع، تحت السماء الملبدة بالغيوم بدا كلامه شؤمًا.
“وماذا إن نجحت الخطة؟ نحن نراهن بحياتنا، ربما بعد موته سنلحقه جميعًا، أنتِ ووالدتك، أنا وجدي، وكايو وعائلته.”
“توما! “
صرخت به ممسكة أكتافه تهزه محاولة إعادة تركيزه إلى أرض الواقع.
“هل تريد أن تقف متفرجًا حين يسلب ذلك العجوز من جينتا حياته؟ ألست من أعجب بالملوك والجنرالات وتمنى العمل بالجيش؟ بمجرد ولادة العبد، لا يمكنه العيش كطفل في عالم كهذا. ستموت إن لم تحارب. “
توقف عن الرجفة والارتعاش، وكأن كلمات اسايو صبت على جلده كماء بارد.
“ولكن…”
حاول إيجاد المزيد من المبررات، ولكن الطفلة منعته صارخة.
“لا لكن، لو كان بقلبك حب لجينتا ولصدقتنا، لن تتوقف هنا توما. “
عجز عن الشعور بالشجاعة، فقرر تزييف مشاعره. ربما سيصدق كذبه على نفسه، اسايو الفتاة الصغيرة كانت أشجع منه، وحتى تسللت إلى غابة الأسياد بينما يقف هو هنا خائفًا باكيًا. أحس بالإحراج، ولملم شتات نفسه بصفع وجهه.
“أجننت؟”
صرخت به من صُدمت بالصفعة المفاجئة.
“لنذهب اسايو، لا وقت لدينا.”
أومأ لبعضهما وسلك كل منهما طريقه.
ركضت اسايو يسارًا حيث منزل الحارس. رأته نائمًا بابتسامة كمن لا يحمل همًا، ذلك الرجل البغيض نام سعيدًا بمعدة ممتلئة وضمير فارغ. نظرت إلى منزله الخشبي وتمنت لو تشعل به النيران كما أشعلها بقلب صديقها المسكين. أخذت نفسًا عميقًا وركضت بهَول وصدمة تعلو محياها، صرخت مستنجدة الحارس قائلة بأن كلبه سيؤدي إلى قتله. لم يصدقها في البداية، ولكن عدم إيجاده الكلب بمنزله على الرغم من تذكره أنه أقفل عليه جعله يركض بدون تفكير.
بالاتجاه المعاكس، يمينًا، ركض الفتى الخشن ذو القلب الناعم. صرخ بعقله وكرر:
جينتا، جينتا، كايو، الحياة، جينتا، جينتا…
حتى يتمكن من الاستمرار دون خوف أو تردد، كي لا يعود للبكاء وحيدًا، خوفًا من المساعدة… خوفًا من التغيير والقوانين.
حفظ طباع شينهانا السيئة وتكابره الذي يصنع فخره، فلو اقتحم قاعة طعامهم للتحدث لن يخرج برأس على جسده. عاد له التردد أمام بوابة قاعة الفرسان، ولكنه هز رأسه طاردًا تلك الأفكار.
من أجل كايو وجينتا… من أجل اسايو التي تكافح.
أدرك جيدًا بأن الفشل قد يؤدي بحياة اسايو من رأت كلب الحارس نوا، فهو لن يتركها حية وهي تهدد أمانه. تخيل موتها جعله يندفع إلى القاعة، وبدون حتى أن يلقي نظرة على ما حوله، أنزل جسده كاملًا، راكعًا على الأرض، تلامس الأرضية الخشبية جبهته المتعرقة.
“عبد وضيع مثلي اقتحم وقت طعام الفرسان المبجلين الذين يحمون الإقطاعية، أستحق قطع رأسي على هذا.”
كلماته بدت كخطاب حربي بصوت عالٍ جعل القاعة المتقدة بالفرسان هادئة.
“وظيفتي كعبد حماية أسيادي، فلا يمكنني السكوت عما رأيت والعيش بهناء بعد خيانة أسيادي.”
توتر لسماع صوت خطوات تقترب منه وسط الهدوء، رأى مقدمة الحذاء الأسود اللامع تليها نبرة متعجرفة يدركها جيدًا.
“العبد أشعث الشعر، قل ما عندك. “
ابتلع توما ريقه قبل التحدث، مخفضًا نبرة صوته الصارخة.
“إنها الظهيرة، سيدي، وهو الوقت الذي يصبح به المكان هادئًا. أخذت مكانًا فارغًا لتساعدني عبدة عن تنظيف القمل من شعري، وعندها رأينا ما رأينا.”
صمت قليلًا وكأنه ينتظر قطع رأسه، ولكنه سمع:
“أكمل.”
ابتسم وما زال رأسه بالأرض.
“رأينا معًا… الحارس نوا وكلب حراسته يدخلان غابة الأسياد.”
انفجرت القاعة بالضجيج والأقاويل، بدأ الرجال بالتهامس، وعم التوتر الأرجاء. بعضهم سارع بحمل سيفه، والبعض الآخر شكك بكلام العبد الصغير.
“تعلم ما سيحل بك لو كان بلاغًا كاذبًا.”
سمع النبض العالي لقلبه بأذنه حين قول شينهانا تلك الجمل.
“أعلم، ومع ذلك لم تسغنِ نفسي بتجاهل حرمة الأسياد. “
غير شينهانا نظره من توما على الأرض، وتوجه لبقية الفرسان بكلمات ثقيلة. حل الصمت عند التفاته.
“لن يأتي أحد معي، سأذهب لوحدي. “
قتل الفضول الرجال عن سبب الأمر الغريب وغير المنطقي بالنسبة لهم، ولكنهم فقط راقبوا شينهانا يستلم سيفه، ويحكم العقدة على ردائه.
“الحق بي.”
همس قاصدًا توما، وخرج حيث يعلو صوت الرياح، تطير أوراق الأشجار المتساقطة وكأنها تنذر بقدوم الجلاد.
كان سعيدا لقدوم فرصة قتل فريسته دون بذل مجهود، فقط صرخ له إحساسه بانه الحارس نوا هو من قتل العجوز الشابة ومن مكره فشل بإيجاد أي دليل وقد حانت لحظة موته…موت من تطاول على قانون الأسياد وتجرا على قتل المحكوم عليه قبل موعد إعدامه.
____________
من فوق الشجرة راقب كايو الحارس المرتعب، وهو يحاول إبعاد كلبه عن جثة الأرنب الذي كان متلذذًا بتناوله، مكافأته على إيجاد اسايو. تصبب العرق من جبين نوا، ويده تسحب طوق الكلب. حرّك رأسه باتجاه المخرج، خوفًا من قدوم أحدهم وإعادته، فيما يرفض ترك وجبته.
“تحرّك أيها اللعين.”
شتم، ولم يُستقبل كرد إلا بنبحه.
كان كايو يراقب من أعلى الشجرة، باردًا كما الجو. تلطخت ثيابه بدم الأرنب، وخلت مقلتيه من الحياة. خائفًا من فشل توما، تأمل محاولات نوا بهدوء شديد حتى نجح.
أنهى الكلب وجبته، وصار أخيرًا جاهزًا للخروج من الغابة.
“كما هو المتوقع من الحشرة التي تحب التطاول على القوانين.”
جحظ كايو عينيه، غير مصدق لتواجد شينهانا بالغابة. تسلّل دون صوت أو ضجة. قدماه لم تُزعجا حتى أوراق الأشجار المتيبسة، وتواجد أمام نوا برمشة عين دون أن يسمح لأحد بإدراك الوضع، واللحن الساخر الذي خرج منه فجأة رفع صدمتهم وتوترهم.
عجز الحارس عن الرد، حتى اختفت كلماته مصدومًا من الموقف الذي وجد نفسه به.
غيّر شينهانا نظرته بين نوا والكلب ودماء الأرنب على العشب. ضغط على سيفه، لمعرفته أنه لم يكتفِ بخرق حرمة الغابة، ولكنه جعل كلبه يتناول من حيواناتها.
“ص… صدقني أنا… أنا لم أفعلها… فقط…”
انهار العجوز على ركبتيه، لمعرفته بأنها النهاية. شحبت بشرته وجف ريقه، فنظرات شينهانا لم تبدُ إلا كملك موت لن يغيّر قراره.
“قتلتها.”
همس الفارس، معيدًا تركيز من ينتظر موته.
“العبدة القبيحة العجوز، أنت من قتلها.”
“لا… لا، هذا أنا… أبدًا.”
خوفه ورعشته، مقلتيه المهتزة، تعابيره عند ذكرها، كانت أدلة أكثر من كافية لإدانته بالنسبة للفارس.
“أرجوك لا…”
سُلبت منه كلماته الأخيرة عندما حط نظره أعلى الأشجار. كان يتمنى الدعاء، ولكنه رأى طفلًا أشبه بالشيطان، بعيون سوداء وابتسامة شماتة.
أدرك عندها أنه وقع في حيلة الطفل…
“ستُولد من جديد كحيوان في هذه الغابة، كما انتهكت حرمتها.”
ألقى بكلماته الحادة مثل نصل سيفه الذي خرج من غمده، وبلمح البصر، وبحركة خفيفة جعلت كايو يدرك لماذا شينهانا هو قائد الفرسان، انفصل رأس نوا عن جسده، وحطّ بحجره. كان يبدو كثَمَل بالمعبد.
ارتفعت شِفاه الكلب واتضحت أنيابه، مزمجرًا لموت صاحبه. قفز الكلب غاضبًا للانتقام، ولم يتلقَ إلا المصير ذاته، وصار جسدًا بلا رأس.
قطرة… قطرتان، بدأت الأمطار تهطل مجددًا، كما لو أنها تغسل جريمة الفتى الجالس بأعلى الشجرة، يراقب الموت الأول بحياته، دون أن يرمش له جفن.
مسح شينهانا سيفه بملابس الجثة، وخرج من الغابة، تاركًا لها عملية تحليل الجثث، فمن يقتحم حرمة الغابة، ستبقى جثته بها حتى يُعاد ولادته كجزء منها. تلك كانت معتقداتهم.
“أنتما.”
قال شينهانا بنبرة صارمة، لإسايو وتوما الواقفَين خارج الغابة.
“لو عرف شخص ما بما حصل هنا… ستُعدمان.”
هزّ الطفلان رأسيهما، والرعشة تحتل جسديهما. راقبا مغادرة الفارس، وعدم خروج كايو جعل أسوأ الأفكار تتدفّق إلى مخيلتهما.
كايو الذي نزل من الشجرة، ونظر بصمت، أسفل مطر غسلت الدماء عن ملابسه. تأمل جثة الحارس، رأسه الجالس بحضنه، ومقلتيه المفجوعة، فمه المفتوح، وعينه الفاقدة للحياة، والدم المتسرب من عنقه.
المرة الأولى لرؤية جثة بحياته، ولكنها لم تكن بذلك السوء.
هذا الشخص فعل أقبح الأمور بصديقه، وها هو الآن مجرد جثة. أصبح جثة بسببه، ولكن ذلك لم يهز به شعرة.
اقتل أو ستُقتل… هذا العالم كان غابة، إن لم تفز بها، ستقطع جثّك الحيوانات المفترسة.
غادر الغابة بالتعابير ذاتها منذ قتله للأرنب. استقبلته اسايو رفقة توما بعيون ممتلئة بدموع، لا يصدق كلاهما ما فعلاه. استغلوا القانون لصالحهم، ولعبوا بالكبار، كل ذلك خُطط له فتى واحد.
نظر الاثنان لكايو مصدومان من بين دموعهما، فتى رأى الموت للتو، لم يعُد باكيًا بل ضاحكًا.
تابعوني على انستا wattpad.milly
التعليقات لهذا الفصل "07"