06
بدأ صوت الفرسان بعيدًا وكأنه يتلاشى تدريجيًا، مختفيًا عن سمع كايو الواقف يحدّق في الأرض. وجد صعوبة في فهم وتحليل ما وصل إلى أذنيه، فكان الخبر صدمة ثقيلة كوقع حجر على رأسه حتى توقّف عن التفكير. أراد أن يحسم الصراع بين عقله وقلبه، بين المنطق والمشاعر، لكنه انغمس في التفكير. قبض على يديه حتى تركت أظافره أثرًا على كفّيه.
آخر ما كان ينقصه هو سماع صوت كايجين، الذي ترك الفرسان وسار وهو يرتدي قبعته الحريرية ليخفي رأسه الأصلع. لحقه كايو برأسٍ منخفض، وقلبه معلّق بالفرسان الذين اتجهوا في الجهة المعاكسة.
عليه أن يحارب مشاعره ويخدم سيده الصغير، بدلًا من الركض لمعرفة ما حدث لوالدة صديقه، التي توفيت بسببه. حقيقة أنها ليست والدته الحقيقية ما زالت مجهولة بالنسبة إلى جينتا، الذي سيصدم لاحقًا بخبر وفاتها.
“ليافي، تيواني.”
لوّح كايجين للطفلين الواقفين بجانب الإسطبل في انتظار سيدهم ولعبته. استقبلاه بانحناءة بسيطة، وبدأوا تبادل أطراف الحديث.
هبّ نسيم الخريف البارد يلسع جسد كايو كما عقله، وهو واقف، غير مصغٍ لما يدور حوله من أحاديث.
لم تكن الحرب تُخاض بالجنود والأسلحة فقط. هناك حربٌ أخرى تُدعى حرب الذات. على أرض المعركة تموت لمرة واحدة، ولكن عقلك قد يقتلك ملايين المرات. ولا مجال للاستسلام أو الهروب.
“كالو!”
صدح صوت ليافي السمين، موقظًا كايو من غرقه في أفكاره. لم يلحظ حتى مغادرة كايجين.
“ألا تسمع؟” رفع تيواني يده، مُمثلًا أنه سيصفعه. سارع كايو بالانحناء معتذرًا: “خالص أسفي لكما.”
“أتجرؤ على التفكير بعيدًا بدلًا من الطاعة والخدمة؟”
فرك ليافي وجنته الملطخة ببقايا الطعام، وكان صوته ثقيلًا كجسده.
“يفكر؟ لا تُهن البشرية بهذا القول! لو كان العبيد قادرين على التفكير لما كانوا عبيدًا أصلاً! أخبرتني والدتي بذلك كثيرًا.”
أضاف تيواني بجزم، واثقًا من معلوماته، وهو الذي أمضى عمره في الدراسة لتحقيق حلم والدته بالعمل كموظف حكومي في العاصمة.
“هل هناك شيء تريدان مني فعله؟”
رفع كايو رأسه أخيرًا، وتحدث بأدبٍ زائف. أراد أن يسألهما عن مكان كايجين، لكنه عرف عاقبة ذلك السؤال.
“جهّز الأحصنة قبل عودة كايجين.”
أصابه كلامهم ببعض الإزعاج، فلم يكن من المفترض أن يأخذ الأوامر منهما. لم يكن مُلزمًا بالخدمة إلا لسيده، وكان يجهل إن كان كايجين قد أوصاه فعلًا بتجهيز الأحصنة أثناء غيابه الذهني.
“سيد ليافي، تبدو في صحة جيدة تكفي لتجهيز عشرات الأحصنة.”
مزج بين الإهانة والمدح، بصوتٍ ذليلٍ كاذب.
“عبد نذل حقير!”
احمرّ وجه ليافي، وثار دافعًا كايو حتى سقط أرضًا. ارتطم كفه بصخرة صغيرة، وأطلق أنينًا خافتًا.
“والآن تشكو؟”
أضاف تيواني، ثم ضرب رأسه بمروحةٍ ثمينة كان يحملها دائمًا. بالرغم من برودة الجو، إلا أنها كانت رمزًا للعلم والسياسة.
“أتظن أن لك الحق في اختيار الأوامر وتنفيذها؟!” صرخ ليافي كبقرة تلد، ثم أكمل: “عليك الطاعة، دون أن تفتح فمك الكريه. هل تحاول التظاهر بأن لديك عقلًا؟”
“أعتذر لكما.”
نهض كايو وانحنى مرة أخرى.
“ولعنة عليك، أنت تثير حنقي!”
دفعه ليافي مرة أخرى، ولكن هذه المرة لم يكتفِ بالدفع. بدأ يركله بعنف.
“الآن سأُعلّمك كيف تطيع الأوامر، وألا تستخدم الحذاء داخل جمجمتك!”
كايو لم يستطع سوى حماية نفسه بذراعيه. لم يكن سهلًا الادعاء أن الركلات لم تؤلمه، فوزن الفتى وحده كافٍ لجعل كل ضربة تُشعره بالثقل.
“لا يعجبني هذا الوضع.”
تمتم الآخر، وسار من خلف كايو ليركله في ظهره، فسقط وجهه على التراب. داس على ظهره مبتسمًا وقال بانتصار:
“اركله عندما يبدو ذليلًا، فلِمَ يرفع العبد رأسه أمامنا؟”
ضحك ليافي مظهرًا أسنانه الصفراء، وشارك في الدوس عليه، مردفًا:
“كما هو متوقع من الموظف الحكومي القادم!”
إهانتهم الجسدية واللفظية؟ لم يعرف كايو أيّهما أشد ألمًا، خاصة عندما ارتطم وجهه بالحجارة الصغيرة.
“ماذا تفعلان؟!”
أوقفت صرخة قوية الضرب، ولم تكن صرخة تبشّر بالخير. ابتعد الفتيان فورًا، فاستقام كايو لاستقبال سيده برأسٍ محني.
اقترب كايجين بسرعة، مكملًا صراخه: “لماذا تضربان عبدًا لا يخصكما؟ أأنتم حقودون؟” ثم التفت لكايو المثخن بالجراح وقال باحتقار: “أيها الذليل العفن!” ربما طارت بعض الطيور من الأشجار من ذوي الصفعة. “تسمح لهما بضربك؟ ألا تعلم من تكون؟!”
“أرجوك، اقتلني يا سيدي…” انحنى حتى التصق رأسه بركبتيه بنبرة يملؤها الندم: “وما يمكن لعبد وضيع مثلي فعله أمام رفاق سيدي؟”
التفت كايجين إلى الفتيين المرتعبين، فبادرا بوضع الأعذار:
“هو من بدأ بإهانتنا!”
“صحيح، فقط قمنا بتهذيبه!”
⸻
هزّ كايو رأسه المتورّم وجرّ جسده المثخن بالجراح نحو المنزل، حيث كانت الشمس تغرب معلنة نهاية اليوم الثاني من عقاب جينتا، ولم يتبقّ سوى يومٍ واحد على عودته إلى أحضان التحرش.
فتح باب منزلهم الخشبي المهترئ، متوقعًا رائحة طعام والدته وابتسامتها، لكنه لم يجد سوى أمّه تحدق في الأرض، ووالده جالس يطوي قدميه.
“ماذا هناك؟”
قال بصوت خافت.
“علمتك وكررت على مسامعك منذ لحظة ولادتك…”
وقف جونها ببنيته الضخمة وعينيه السوداوين واقترب من ابنه القصير بخطوات ثقيلة:
“لا نشهد ولا نشارك… لا نسمع ولا ندري.”
ابتلع الفتى ريقه، وارتجف جسده عندما رفع رأسه ليرى النظرة المرعبة في عيني والده.
“أخبرتك أنك لن تفلت من ذلك بسهولة!”
ثوانٍ فقط، ثم دار عقل كايو من قوة اللكمة التي حطّت على وجنته، فوقع أرضًا.
“جونها! وعدتني أنك لن تلجأ للعنف!”
صرخت تاري وهي تهرع لحماية ابنها النحيل.
“كنت مشغولًا بما يكفي، ولم يصلني الخبر إلا اليوم! هل أردت إخفاء الأمر عني يا ابن العاهرة؟!”
ارتفع صوته، وركل تاري التي تدخّلت لحماية كايو.
“أمي!”
عاد وعي كايو مع رؤية والدته تتألم.
“اصمتي! وهل تظنين نفسك أفضل منه؟ ما كان ليخرج عن طاعتي لولا تدليلك!”
ألقى بالأواني الخشبية على من تمسّكا ببعض أرضًا.
“أخبرتك أنك لم تعودي نبيلة، بل عبدة لعينة يجب أن تربي أطفالها كالعبيد!”
تعرض والدته للضرب بسببه بدا ككابوس أقبح من كل ما مضى، وأثار في قلبه ذنبًا يصعب تحمله. لم يكن بوسعهما سوى الصبر على نوبة غضب جونها العنيفة، حتى خرج من المنزل وهو يتمتم بالشتائم.
أسرعت تاري باحتضان وجه ابنها بين يديها، محاولة إخفاء خوفها من إصابته.
“طفلي الصغير لا يستحق أن يُعامَل بعنف…”
أدمعت عيناها، فأخفت وجهها الباكي في صدره.
“أنا بخير يا أمي، لقد تلقيتِ كل الضرب بدلًا عني.”
تمتم مختنقًا من شدة حضنها له.
“لست بخير يا عزيزي كايو… عليك البكاء، وإظهار ضعفك على صدر والدتك.”
“أخبرتك أنني بخير.”
ابتعد عن حضنها حتى التقت أعينهما. لم ترَ تاري إلا وجه طفلٍ جميلٍ غارق في الجروح والكدمات، يبتسم رغم الألم.
جهلت تاري عدم مقدرة ابنها على ذرف الدموع.
_______
حلّ الظلام وتأخر الوقت، نام الجميع أسيادًا كانوا أو عبيدًا، إلا ذلك الفتى الجالس في الغابة، يستمع إلى صخب أفكاره، مانعًا إياه من النوم.
حدّق في سماء هاولين الصافية، ونفخ يراقب الهواء المنبثق منه لشدة برودة الجو. انتظر طويلًا نوم الجميع حتى يتسنّى له التسلل، حيث يقبع قلبه وعقله منذ يومين.
تورّمت وجنته من صفع كايجين إلى لكمة والده، وأُثخن جسده بجروح وكدمات من ركل الفتيَين، أكثرها ألمًا الجرح في كفّه إثر سقوطه على الصخرة.
بدا اليوم تعيسًا، تلقّى فيه ما يستحق من الضرب، وظن أن السماء تعاقبه لتسببه في قتل روح، فلم يشتكِ أو يتذمّر.
أغمض عينيه مقابل الكوخ الخشبي الصغير حيث وجد صديقه، وطرق طَرقتين خفيفتين وهمس:
“أنمت؟” وكز وجنته الداخلية عند عدم تلقيه ردًا، وأعاد التحدث: “أعلم أنك تسمعني.”
“غادر.”
أجاب الفتى من الداخل بصوت منخفض، كان يحشر وجهه في حضنه.
“لماذا قدمتُ إذًا، إن كنت سأغادر هكذا؟”
“أنت قتلت والدتي.”
تمتم جينتا. لم يرمش كايو أو يصدم لما سمع، فقد قال الشيء ذاته لنفسه حتى سئم سماعه.
“أجل، فعلت…”
أجاب كايو واتكأ على الباب الخشبي الفاصل بينه وبين صديقه، الذي رفع رأسه مصدومًا.
“لكنني قتلت العجوز الشابة، لا والدتك.”
قطّب جينتا حاجبيه وردّ بحنق:
“أتمزح معي يا كايو؟ أنت من تسبب بجرّ والدتي إلى السجن وإصدار حكم الإعدام!” سكت قليلًا يعيد أحداث تلك الليلة في عقله.
“رأيتك… رأيت عيونك وابتسامتك التي تبادلتها مع والدتي. لن أنسى الشماتة المتلألئة في مقلتيك عند جرّها.”
“لن أنكر قولك، لكنها لم تكن والدتك، جينتا.”
“توقف عن اللعب ومضايقتي!” صرخ بصوت مكتوم خوفًا من الإمساك بهم. “هل التلاعب بالآخرين يجعلك تشعر بأنك أفضل منهم؟” اهتزاز صوته فضح كذبه.
“سمعت الحارس نوا والسيدة العجوز يتحدثان في تلك الليلة…”
رفع رأسه ينظر إلى السماء وكأن أعباء العالم كلها حطّت على قلبه.
“رأيتك في منزل الحارس، ثم بدأتُ البحث لإيجاد حل، وكل ما أردت فعله هو سجنك ووالدتك لثلاثة أيام حتى أضع حدًا لما يحدث، لكنني عرفت شيئًا غيّر مجرى خطتي.”
توقفت حِدّة جينتا، ورغبة البكاء حلت محلها الدهشة. فكما توقّع، كان كايو موجودًا، وليس مجرد خيال.
“أنت هجين، من والدة عامية، أُجبرت العجوز الشابة على تربيتك، لكنها كرهتك لخيانة زوجها، فكانت هي من سلّمتك للحارس نوا.”
الصدمة المرعبة التي تلقاها جينتا جعلت كل جزء من جسده يتوقف عن الحركة.
“لم تكن والدتك، ولم تحبك يومًا. أرادت موتك، لكن موتك كان موتها، ولهذا ربّتك.”
كان يعلم أنها تكرهه، لكنه بالمقابل أحبّها، فهي والدته المسكينة التي لم تتلقَّ حبًا حتى من العبيد.
سامحها على كل ضربة أو إساءة، وكلّه تحطّم حين عرف أنها من باعته كماشية لإشباع شهوات رجل عجوز.
لكنها الآن ميتة، ولا يعلم ما الصحيح ليفعله أو يشعر به.
ابتعدت مشاعره كل البعد عن الفرح لموتها، لكن الحقيقة كانت مؤلمة، حتى علت نبضات قلبه.
أمسك الفتى الصغير بقلبه، وجثا على ركبتيه، مقاومًا الألم المتراكم هناك.
ثوانٍ، حتى دوى صوت نحيبه اليائس، عاكسًا ما تحمّله طوال الأشهر الماضية.
ذرف الدموع، وصارت شهقاته أشبه بصرخات استغاثة لإنقاذه من هذا الجحيم… جحيم جهل ما يجب عليه الشعور به.
رحل كايو عائدًا إلى المنزل، تحت صوتٍ يطعن قلبه كسكاكين.
تمنّى أن تمنح صديقه تجربة مؤلمة كهذه القوةَ للعيش والاستمرار…
تمنّى لو كان قادرًا على شفاء قلبه الجريح، لكنه فقط أعطاه مساحة لذرف الدموع حتى يفرّغ ما بصدره
________
أشرقت شمس صباح اليوم الأخير من سجن جينتا. عمّ المكان الكثير من الأقاويل المتداولة عن مقتل العجوز الشابة. أكان انتحارًا أم جريمة قتل؟
اشتبَه العبيد بكونها مشعوذة، وفضّلت الموت بطريقتها على إطاعة الأوامر، فقد عُرف نسل المشعوذين بحبهم للتمرد على الحكام، حتى صاروا النسل الأكثر كرهًا في المملكة… هذا إن وُجدوا حقًا.
مضى صباح كايو بهدوء طبيعي. نظّف غرفة دروس كايجين، وباشر مسح وتنظيف الغبار عن المخطوطات والرفوف، يداه تتحركان وأذناه تستمتعان بعناية إلى درس تشريح الجثث وأعضاء جسد الإنسان.
اعتاد كايو التنصت على دروس السيد الصغير، وأحيانًا قراءة بعض الكتب والمعلومات. شدّ الدرس انتباهه، وقول المعلم:
“هناك نقاط حيوية تكون الإصابة بها قاتلة، فيميل الجنود بالحروب للتركيز على تفادي الإصابة بتلك النقاط.”
وقف بجانب كايجين يذيب الحبر من أجله، حيث عيناه تصبّان على رسم جسد الإنسان بالمخطط. أثار الدرس انتباهه أكثر من غيره، فكان يتضمّن الموت… الموت الذي طغى على أفكار كايو مؤخرًا.
الرأس، الرقبة، الصدر، الجزء العلوي من العمود الفقري.
نظر إلى الإشارات الحمراء على تلك المناطق المميتة قبل أن يقلب السيد الصفحة. فهم كايو بشكل مؤلم ما تعنيه تلك الصفحة.
طفل في العاشرة مثل كايجين درس طرقًا لتعذيب العبيد دون قتلهم. أليس فعلاً لا يمتّ للإنسانية بصلة؟ كيف سيكبر فتى يتعلم عن العنف والقتل منذ طفولته…
امتاز كايو بذاكرة جعلته يحفظ ما يُكتب بعد قراءته لمرة واحدة، وهذا ما ساعده على التعلم بمجرد تقليب الصفحات أو التنصت على الدروس.
انتهت الدروس على خير وهدوء، لولا الاقتحام المفاجئ بعد خروج المعلم. وقف كايو خلف كايجين المغادر، الذي توقّف للترحيب بطفلته الصغيرة والجميلة، صاحبة الوجنتين الممتلئتين.
“أخي، وعدتني بتناول الطعام رفقة صديقاتي اليوم.”
قصدت بصديقاتها مجرد دماء محشوة.
“ولن أُخلِف وعدي.” ربّت على شعرها مبتسمًا: “أكملت الدرس الآن، وكنت متجهًا إلى غرفتك.”
قفزت من الفرحة، وتمسّكت بذراع أخيها، قبل ملاحظة الواقف خلفهم.
“كايو!”
نفخت وجنتها منزعجة: “وعدتني بحضور حفل الشاي الذي أقمته والدتي سابقًا، ولكنك لم تأتِ!”
أنزل كايو رأسه، نقرًا لسانه بسقف فمه:
“اعذريني، سيدتي الصغيرة، فذلك كان طلبًا يفوق قدرتي ومكانتي.”
“ولكنني من طلبت!”
ردّت منزعجة.
“توقفي عن الإلحاح، فأنا من منعه. كيف تأخذين عبدًا كهذا معك أمام النبيلات؟ إنه محرج.”
“اصمت، كايجين! كايو جميل، وليس محرجًا.”
ابتسمت لكايو، وأعادت التمسّك بأخيها والتحدث معه مبتعدين عنه.
رفع كايو رأسه راغبًا بالبصق حيث كانت تقف.
رغم معاملة كايجين القذرة، فقد كره تلك الطفلة أكثر. كره معاملتها له كشيء يخصها بشدة.
أخذ نفسًا عميقًا، والتفت بعد مغادرتهما.
بدأ بمسح الحبر عن الطاولة، ومسح اللوح، ولكنه تأكّد أولاً من قراءة كل ما كُتب به.
قلب صفحات الكتاب يقرأ تلك التفاصيل العجيبة عن جسد الإنسان، وعن الموت، أو بالأصح القتل.
القتل… ما فعله هو، بدون أن يُطبّق أيًا مما كُتب.
دعك جبينه طاردًا الصداع، تجاهله لعدّة أيام، لكنه يعود في كل مرة يحاول فيها التفكير بعمق، كما يفعل الآن مفكرًا بالموت والقتل.
طرد أفكاره، وأنهى التنظيف مستعجلًا كي لا يتأخر على توما واسايو بعد أن أخبرهما بالاجتماع ظهرًا.
وصل إلى مكان تجمعهم المعتاد بالغابة، حيث الصخرة التي يحب كايو الجلوس عليها… مقابلها كانت الشجرة المفضلة لجينتا، لكنه لم يقطف ثمارها منذ أشهر.
“تأخّرت!”
صرخ الطفلان بكايو فور ظهوره.
“درس السيد كان طويلًا.”
أجاب، واستقر فوق صخرته المفضلة.
“تبدو مرهقًا.”
ردّدت اسايو، الجالسة على العشب مقابله.
“أنا بخير.” زيّف ابتسامة، وحوّل نظره إلى توما: “أودّ سؤالك.”
“هذا يُذب القشعريرة في جسدي!” احتضن توما نفسه مرتعبًا: “في كل مرة سألتَ شيئًا، ألقيتَ قنبلة قاتلة.”
“فقط أخبرني عن ماهية علاقتك مع شينهانا.”
سقطت أذرع توما عن جسده، واختفت تعابيره الساخرة، كأنه غاص بأفكاره عميقًا.
“لم أفهم السؤال حقًا.”
“أنت تعمل في ساحة الفرسان، لا بد من وجود نوع من العلاقة بينكم.”
“إنه… يثق بي.”
لم تكن إجابة متوقعة. انبهرت اسايو بدورها مما سمعت.
“قائد الفرسان البغيض؟!”
عبّرت مذهولة.
“أجل. لاحظتم محبته لإذلال العبيد؟ … خفت منه، حتى تعوّدت على أن أحنِي رأسي بما يعجبه، فصار يعتمد عليّ في مهامه.”
“يثير حنقي! كم أتمنى سحبه من شعره القصير الذي يبدو مثل ذيل كلب.”
تذمّرت اسايو، عندما ثبت توما نظره بكايو.
“كايو… أتخطّط لشيء ما؟”
تحاشى الإجابة، وبدل ذلك، ذكر شيئًا آخر حتى لا يرتعبا كما يفعلان عادة.
“ألم تفكّرا يومًا لمَ توقّف جينتا عن التسكّع معنا؟”
“بسبب والدته؟”
أجابت اسايو.
“لأنه مشغول؟”
وتوما أيضًا بلحن الاستفهام ذاته.
“أيمكنكما قطع وعد، بالشيء الأحبّ لكما، ألا تخبرا أحدًا بما سأقوله؟”
ابتلع توما ريقه، كما اسايو، وعدّلا جلستهما خائفين من كايو، وبدون تردد أجابا:
“نعدك.”
كان يثق بهما، ويعرف أن إخبارهم هو دفعة ذكية لجعلهما يساعدانه. لم يقدر على تدبّر أمر الحارس نوا لوحده مهما فكّر بذلك.
سرد عليهما كل شيء عن جينتا، عذابه مع الحارس، وحقيقة والدته، كما أنها من أعطته للحارس، لكنه تحاشى ذكر الأشياء الفاحشة.
“هذا لا يُصدَّق…”
أحنت اسايو رأسها محاولة استيعاب ما قاله كايو.
“كيف جهلنا الأمر…”
أضاف توما، ممسكًا برأسه.
“كيف سنقابل جينتا بعد جهلنا لما يمرّ به!”
خرج صوت اسايو ممتلئًا بالقهر والندم وتسللت بضع دمعات على وجنتيها.
” كوني كنت أحاول التحدث معه دون معرفة أي شيء يثير حنقي. “
ضرب توما الأرض حزينًا.
“بدل النحيب يمكنكما مساعدته… هل تثقان بي؟”
أشرقت ابتسامة كايو لهما، كشعاع أمل اخترق العتمة.
______
تحت سماء الليل الباردة، خرج متمسّكًا بيد والدته ليغتسلا معًا. حتى لو كبر بالعمر على الحمام المشترك، كان ما زال يحبه. الأجواء اللطيفة، وابتسامة والدته، ولعبهما بالماء، خفّفت عنه كل حزن العالم.
“أمزال والدي غاضبًا؟”
سأل، وفتح قميصه العلوي المهترئ.
“عزيزي كايو… لا تكره والدك.”
وكم مَقَت قول أمّه لتلك العبارة مرارًا وتكرارًا.
“والدك كان خائفًا أن تتأذّى، ولهذا غضب بشدة.”
ولهذا قام هو بإيذائي… سخر في داخله.
“لا تقلقي، والدتي. أحبّ أبي، حتى لو كان مخيفًا.”
جلست تاري القرفصاء أمام ابنها، وابتسمت تتأمل ملامحه التي تراها لطيفة.
“طفلي يجيد التصرف بطريقة تؤلم قلبي.”
“سأكون دائمًا طفلًا جيدًا من أجلك، يا أمي.”
“كايو، والدتك لديها بعض الأخبار اللطيفة…” مسحت على شعره المملوء بالأتربة، وابتسمت. “ستصبح أخًا أكبر قريبًا.”
توقّف عن الفهم لتوانٍ، قبل أن يستوعب ما قيل.
“أخ؟ أخ أكبر؟ أمي! أيعقل؟!”
“نعم، والدتك حامل منذ عدّة أشهر، وسنستقبل طفلًا جديدًا مع تفتح أزهار الكرز.”
ابتسم كايو كما لم يفعل منذ شهور، وشعر بالفراشات تتطاير في معدته.
____
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "06"