لحسن الحظ، بخلاف السنوات الثلاث التي قضيتُها في عالمي الداخلي، لم يمرّ في الواقع سوى ثلاثة أشهر فقط.
ففي العوالم الذهنية لا يسير الزمن على وتيرة واحدة مع الواقع؛ فلو ساءت الأحوال لكانت الأشهر الثلاثة هناك تعادل ثلاث سنوات هنا. لذا كان ما حدث نعمة عظيمة بالفعل.
ومع ذلك، فرغم أنّها لم تتجاوز ثلاثة أشهر، فإنّ غيبوبتي وسقوطي المديد بدا دهرًا لأولئك الذين من حولي.
“واااه، يا سيدتي الدوقة! وااااه!”
بمجرد انتشار خبر استيقاظي، انقلب قصر لابرينث رأسًا على عقب.
أما الماركيز السابق لابرينث، فقد بدا وكأنه شاخ ثلاثين عامًا في لحظة، ولم يستطع إلا أن يمسح عينيه بمنديله. وكذلك بدا الكونت روندل والحاشية جميعًا شاحبين منهَكين، قبل أن يطلقوا زفرات ارتياح جماعية.
“يا سيدتي الدوقة، هل أنتِ بخير حقًا الآن؟ حقًا؟”
“نعم، أنا بخير. صدقوني، أنا بخير تمامًا.”
ربّتُ على ظهر ماي المرتجف، وبينما كنت أواسيها، أصغيتُ إلى أحاديث الحاشية، متلهفةً لمعرفة ما جرى في الإمبراطورية خلال فترة غيابي.
“يا لها من نعمة أنكِ استيقظتِ.”
“لابرينث بلا سيدتها؟… آه، لم تكن مجرد كلمات، لقد كان الأمر لا يُحتمل بحق.”
“أخيرًا، يمكننا أن ننام ونحن مطمئنين. آه، لكن قبل ذلك—علينا أن ننشر الخبر بأنكِ استيقظتِ. لقد انهالت الاستفسارات علينا من كل حدب وصوب عن حالتكِ، يا سيدتي الدوقة.”
ارتجف التابعون وكأنهم لا يريدون تذكّر ما عانوه في تلك الفترة. ويبدو أن حدوث ذلك مباشرةً بعد وراثتي للقب الدوق قد زاد الطين بلة.
لكن ما أثار دهشتي هو كثرة التساؤلات عن صحّتي. لقد غمرتني مشاعر لم أتوقّعها، فقلت بنصف مزاح:
“أكان هناك حقًّا من يفتقدني إلى هذا الحد؟”
“أكثر مما تتصورين يا سيدتي. لقد غدت العاصمة حينها بحرًا من الدموع.”
“…ماذا؟”
تساءلت بدهشة؛ لمجرد أنني دخلت غيبوبة، تتحوّل العاصمة كلها إلى بحر من الدموع؟
“يا سيدتي الدوقة، الجميع ينظر إليكِ الآن باعتباركِ البطلة التي أنقذت الإمبراطورية.”
…ماذا؟ بطلة؟
حدّقتُ به في ذهول، لم أكن أتوقع قط أن أُوصَف بمثل هذا اللقب.
كان الكونت ينظر إلي بفخر، والحاضرون جميعًا رمقوني بالنظرة ذاتها.
لم أستطع أن أستوعب أيًا من ذلك. وبينما كنت لا أزال أرمش في حيرة، تنحنح الماركيز السابق وتحدث:
“لقد أخبرني سمو وليّ العهد بكل شيء. إنكِ استنزفتِ قواكِ في مقاتلة الشيطان الذي استحوذ على جسد الأمير الثاني.”
“كما سمعنا أنكِ، مع سمو وليّ العهد ودوق جاستيس، قاتلتُم معًا لتقليل الخسائر البشرية قدر المستطاع.”
“ولكي تُخفضي حذر الشيطان، تظاهرتِ بالمرض في احتفال سيف الشتاء، أليس كذلك؟”
ما إن فُتح الباب لهذا الموضوع حتى تدفقت الشهادات من كل جانب.
شيطان… إذن معركتي مع نوكس قد لُخِّصت بهذه البساطة. يا للأسف، أن يُختزل الأمر هكذا…
أصغيتُ باهتمام إلى مجرى الأحاديث. لكن فجأة، بلغني خبر مدوٍ جعل عينَيّ تتسعان من الذهول.
“ومع ذلك، الآن بعد أن استيقظتِ يا سيدتي الدوقة، يمكننا أن نتنفس بارتياح. فالإمبراطورية كانت مثقلةً في الآونة الأخيرة، لا سيما مع الحِداد الوطني. لقد كان الجو لا يُطاق.”
“…حِداد وطني؟ لمن؟”
تجمّد الحاضرون في أماكنهم، وقد ارتسمت على وجوههم علامات الذنب. تبادلوا النظرات فيما بينهم، متسائلين بصمت عمّا إذا كان من الصواب إخباري بأمر كهذا بينما صحتي لا تزال هشة.
لكن حين حثثتُهم بصرامة: “أخبروني… بسرعة” لم يكن أمامهم سوى الاعتراف.
“إنه من أجل جلالة الملكة والأمير الثاني. لقد تبيّن أن كليهما قد سقط ضحية للشيطان، وأُقيمت لهما جنازة رسمية منذ وقت ليس ببعيد.”
…إذن، في النهاية جرى الأمر هكذا.
فإقامة جنازة رسمية تعني أنّ الأمير الثاني قد شُيِّع بصفته عضوًا من العائلة الإمبراطورية. أمّا الملكة، فبحكم أنها تورطت في الفوضى، يمكن تفهّم الأمر. لكن أن تُعالج قضية الأمير الثاني على هذا النحو أيضًا؟
كان ينبغي له أن يدفع ثمن خطاياه بنفسه.
خالطني طعمٌ مرّ في فمي، كما لو أن كل شيء قد جرى طمسه على عجل. لو لم أدخل في غيبوبة، لما سمحتُ أبدًا بأن ينتهي الأمر على هذا النحو.
لكن بعد وقت قصير—
أخبرني روبليت، الذي جاء لزيارتي، بالسبب الذي جعلهم مضطرين للتعامل مع الأمر بهذا الشكل.
“لقد سُمّيت جنازة رسمية، لكنها كانت مجرد عرضٍ صوري. فقد انتشرت شائعات تقول إن للأمير الثاني صلة بموت الملكة.”
ثم أضاف أنّه في اليوم الذي اختفت فيه الملكة، أدلى الخدم والخادمات من قصر الأمير الثاني بشهاداتهم قائلين: “لقد كانت جلالتها شاحبة الوجه وترتجف بشدة.” الأمر الذي أثار ضجةً في أرجاء الإمبراطورية.
“لو أنهم جرّدوا الأمير الثاني من لقبه الإمبراطوري، لكان ذلك اعترافًا صريحًا بأن الشائعة صحيحة… ويبدو أنّ جلالته لم يرغب في إثارة بلبلة أكبر في الإمبراطورية.”
وبالفعل، كان من الأيسر على العائلة الإمبراطورية أن تُعلن أنّ الأمير قد وقع فريسة لإغواء الشيطان، بدلًا من أن يُكشف للعالم أنّ أميرًا من العائلة المالكة قتل أمه بيديه.
“إضافة إلى ذلك، بهذه الطريقة يصبح من الأسهل الكشف عن جرائم نوكس وتصحيح التاريخ المحرّف لإلدورادو.”
“…ماذا؟”
تصحيح تاريخ إلدورادو؟
عند كلماته المفاجئة، سألتُ بدهشة، فابتسم روبليت وأجاب ببساطة: “اسألي سمو ولي العهد لاحقًا بنفسك.”
ثم ضيّق إحدى عينيه وهو يحدّق بي للحظة، قبل أن يعقد ذراعيه متذمّرًا:
“كيف حال صحتكِ إذن؟”
“بخير. ليست سيئة.”
لم يأتِ تبادل المجاملات بيننا إلا آنذاك، إذ إنه ما إن دخل غرفة الاستقبال حتى بادرت بسؤاله عن سبب إقامة جنازة رسمية للأمير الثاني.
ورغم أن جسدي قد ضعف بعد ثلاثة أشهر من الرقود في السرير، لم أعانِ من مشكلات أخرى، فأجبت بخفة:
“حتى إنني أخرج في نزهات منتظمة أيضًا.”
“هذا مُطمئن.”
تنهد روبليت تنهيدة قصيرة، كما لو كان على وشك أن يقول شيئًا ثم تراجع. وقد خمّنت تقريبًا ما كان ينوي قوله—شيء من قبيل: “إذا تعلمتِ المبارزة ستستعيدين عافيتكِ أسرع.”
“أما أنا… فلم أكن بخير.”
بسبب هذا التصريح المفاجئ، لم أستطع الرد على الفور.
فهو لم يدخل المتاهة، ولم يُقاتل نوكس—فما السبب إذن؟
لكن حين لاحظ حيرتي، قست نظراته وأجاب ببرود:
“وأنتِ راقدة هناك بتلك الحال… أتظنين أنني كنت بخير؟”
“وهل هناك سبب يجعلك غير بخير؟”
“… لو حدث لكِ مكروه، فقد يتحوّل سمو ولي العهد إلى تنين شرير. أليس هذا سببًا كافيًا؟”
“…آه.”
لم أفهم ما قصده روبليت إلا حينها، فأومأت برأسي. أجل، بما أن مصير العالم بأسره كان يتوقف على تعافيَ، فلا بد أنه كان قلقًا للغاية.
“لقد مررتِ بالكثير.”
“إذا كنتِ تعلمين ذلك، فكوني أكثر حذرًا من الآن فصاعدًا.”
“وكأن أحدًا كان يتوقّع أن ينتهي الأمر هكذا.”
“لهذا السبب كان عليكِ أن تتعلّمي المبارزة. هل ترغبين أن تبدئين الآن؟”
“هل أفعل؟”
تصلّبت ساق روبليت، التي كانت تتأرجح بلا مبالاة، فجأة. وحدّق بي كمن يحاول التأكّد من أنه لم يسمعني خطأ.
رفعتُ فنجان الشاي أمامي، وألقيت نظرة على انعكاس وجهي المنعكس على سطحه البني، ثم تمتمت بجدية:
“هل يجب حقًّا أن أتعلم المبارزة؟”
انتظرت جوابًا، لكن روبليت لم يقل شيئًا.
همم… هل فكرة أن أتعلم المبارزة غريبة إلى هذا الحد؟ على أية حال، ففي هذا العالم القاسي، يجدر بي أن أملك وسيلة ما لأحمي بها نفسي.
شربتُ جرعة من شاي الفطر المفيد للصحة، أرويتُ بها حلقي الجاف، ثم خفّضت صوتي:
“هناك أمر أود أن أسألك عنه.”
ارتسم التوتّر على وجه روبليت من مقدمتي غير المعتادة، وأصبح جو غرفة الاستقبال أثقل بشكل مفاجئ.
وبينما كنت أمرّر إصبعي على حافة الفنجان، تردّدت في أن أطرح السؤال بشكل مباشر أو غير مباشر. وبما أنّه قد يصبح نقطة ضعفي، وجدت أن الخيار الثاني أكثر حكمة، فبدأت حديثي بحذر:
“بعد أن… مات نوكس، هل لاحظت أي تغيّر في قدرتك؟ أعني، بدقة، هو لم يمت تمامًا، بل تحوّل إلى روح شريرة وسيبقى مسجونًا إلى الأبد في المتاهة.”
“هاه؟”
“ألم يقل صاحب السمو رينوس ذلك؟ إن قِوانا مُنحت لنا من قِبل نوكس. ولعلّ ذلك السبب في أن المتاهة لم تستقر بعد أن أصبح نوكس روحًا شريرة.”
صحيح أنّ جسد الأمير الثاني قد هلك في الحمم، لكن روح نوكس ظلّت حيّة لتصبح روحًا شريرةً في المتاهة.
وبالنسبة لنوكس، الذي كان يظن أن هجومه سينهي حياتي، فقد كان ذلك أسوأ مصير يتخيّله.
وما إن استعدت وعيي، حتى أمرت سيربيروس أن يُلقي بنوكس في عذاب لا ينتهي.
وقد نفّذ سيربيروس الأمر بإخلاص، وحتى الآن ما يزال نوكس عالقًا في المتاهة، يعاني أشدّ العذاب الذي يمكن للبشر احتماله.
“آه.”
تنفّس روبليت بارتياح وأرخى جسده على ظهر الأريكة، ثم أجاب بنبرة رتيبة كأنما يتحدّث في شأن عادي:
“صحيح. لقد ضعفت قوّتي. ربما الآن، حتى لو ضحّيتُ بحياتي، فلن أستطيع قتل التنين الشرير.”
“……!”
اتسعت عيناي من الدهشة. لم أتوقع أن يتحدّث عن أمر خطير كهذا بتلك البساطة.
لكن روبليت لم يُبدِ أي اكتراث، بل طرح سؤالًا بهدوء:
“وأنتِ؟ هل ضعفت قوّتكِ أيضًا؟”
“نعم، لم أعد كما كنت. كنت أظن أنني الوحيدة التي تعاني من مشكلة.”
“بحسب ما قاله صاحب السمو، فإن قدراتنا ستتلاشى تدريجيًّا. ومن المرجّح أن الأمر نفسه ينطبق على تيـ… شيءٍ ما أيضًا.”
أفهم… بما أن مَن منحنا القوى قد مات، فلم يعد بالإمكان استمرار تلك القوى الممنوحة.
لقد أربكني التفكير بأن قدرات استمرّت لأكثر من ألف عام ستنتهي عند جيلي أنا.
فهل يعني هذا أن لعنة التنين الشرير ستزول
مع رينوس ولن تظهر مجددًا؟ آمل ذلك. لا بد أن أسأله في وقت لاحق.
ثم خطرت ببالي فكرة مفاجئة، فرفعت بصري وسألت:
“بالمناسبة… ماذا عن تيرييل؟ ماذا حلّ بها؟”
═══∘ ° ❈ ° ∘═══
ترجمة : أوهانا
الانستا : han__a505
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 178"