كانت الغرفة مظلمة، لم يُشعل فيها أي ضوء. رمشتُ ببطء.
رينوس، الذي كان يراقبني بقلق بالغ، حرّك شفتيه قليلًا.
“آنستي.”
“…السيّد ليتّي؟”
ما إن نطقتُ بلقب “ليتّي”، حتى ارتجف رينوس بشكل ملحوظ.
وبينما كنتُ أتساءل في حيرة إن كنتُ قد تفوّهتُ بشيء خاطئ، أدركتُ فجأة أنّه لم ينادني “إل” أو “أميرة”، بل “آنستي”. حينها أدركتُ أنّ هذا المكان ليس إلدورادو.
وفي اللحظة التي وعيتُ فيها ذلك، بدأت الذكريات التي طُمِست طويلًا تعود ببطء إلى السطح.
كنتُ سييلا لابرينث، سيّدة دوقية لابرينث.
ولم يكن ثَمّة سوى شخص واحد في هذا العالم يملك الحق في مناداتي بـ”آنستي”.
شمس الإمبراطورية الصغيرة، ولي عهد أرجينتايم—
الرجل الذي أحبّني.
“…صاحب السموّ.”
خرج صوتي متشققًا وجافًا كأرض عطشى، دلالةً على طول الفترة التي قضيتُها طريحة الفراش. كان حلقي يحترق ألمًا، فقبضتُ جبيني من شدّة الوجع، فسارع رينوس إلى غمس قطعة قماش ليبلّلها، ثم قرّبها إلى شفتيّ.
بعد أن بلّلتُ حلقي بالكاد، حدّقتُ فيه، أحثّه بعينيّ أن يقول شيئًا.
لكنه تهرّب من نظراتي، وخفض صوته قائلًا:
“أنا آسف… سأبقى فقط حتى يصل الآخرون.”
كان يقصد أنه سيظل هنا إلى أن يأتي “الآخرون” للاعتناء بي.
لكن لماذا يقول ذلك وكأنّه أمر يستحق الاعتذار؟
ولماذا بدت كلماته وكأنها تعني: لن أظهر أمامكِ مجددًا؟
كان شكله الهشّ يوحي بأنه سيتلاشى في أي لحظة، فمددتُ يدي تلقائيًا لأمسك بردائه. ثم هززتُ رأسي بضعف، محاوِلةً منعه من الرحيل.
“…”
حتى تلك الحركة الصغيرة جعلت رأسي يدور.
تأوهتُ من شدّة الدوار، حينها شحب وجه رينوس فجأة، كأنّه أساء فهم ما شعرتُ به.
“أنا آسف.”
ارتبك وتراجع خطوات عدّة إلى الوراء. يدي التي كانت ممسكة به لم تجد سوى الفراغ.
صرختُ به، بصوتٍ مبحوح يكاد يمزّق حنجرتي:
“توقّف!”
تجمّد في مكانه.
وبما تبقّى لي من قوّة، لوّحتُ له بيدي نحوه إشارةً أن يقترب. لكنه لم يتحرّك، فتنهدتُ بيأس وأغمضتُ عيني متظاهرة بالإغماء.
مذعورًا، هرع رينوس عائدًا إلى جانبي.
وفي اللحظة التي مدّ فيها يده تجاهي، انقضضتُ عليها بقوة، وفتحتُ عينيّ على اتساعهما. وقد تجمّد كدمية مكسورة، بينما خرج صوتي ضعيفًا لكنه غاضب:
“إلى أين كنتَ تنوي الذهاب؟”
كان صوتي مبحوحًا متقطّعًا، جافًا من شدّة العطش.
وحين حاول رينوس أن يقرب قطعة القماش المبلّلة إلى شفتيّ مجددًا، رفضتُ بعناد، مشدّدة قبضتي على معصمه بما تبقّى لي من قوّة.
“إلى أين كنتَ تنوي الذهاب؟”
كرّرت السؤال مرتين، لكنه لم ينبس ببنت شَفَة.
محاولته الإفلات من يدي غرست في صدري إبرًا حادّة. كان جسدي ضعيفًا بالفعل، لكن صمته استنزف صبري حتى منتهاه.
فانفجرتُ بمرارة:
“أنا أتألّم هنا!”
“…أنا آسف.”
“إلى أين كنتَ تحاول الذهاب؟”
عضَّ رينوس على شفتيه بقوة. وبعد لحظة صمت، وكأنه يزن كلماته بعناية، أجبر نفسه أخيرًا على نطقها كلمةً تلو الأخرى، بصوتٍ مرتجف يختنق بدموعٍ مكتومة.
“مكان… لا تستطيع الآنسة أن تراه.”
كان ذلك متوقَّعًا للغاية.
شدَدتُ قبضتي على يده من جديد، رافضةً أن أدعه يفلت بعيدًا عني.
أردتُ أن أطلب منه ألّا يظل واقفًا وأن يجلس عوضًا عن ذلك، لكن حلقي كان يؤلمني بشدّة، فانفجرتُ في نوبة سعالٍ حادّة ومؤلمة.
حين لاحظ أنني أتألم بسببه، اسودّ وجهه كأنما غشيه ظلّ ثقيل. ولأجل توفير ما تبقّى من طاقتي، أشرتُ بيدي نحو الكرسي وحسب.
بعد تردّد، جلس رينوس عليه مضطرًّا.
فتحتُ فمي بعدها، محاوِلةً أن أجعل صوتي رقيقًا وهادئًا قدر المستطاع، لئلّا أُجهد حلقي الجافّ.
“الآن أفهم… لماذا كان جلالتك متردّدًا في الحديث عن حياتنا السابقة.”
خفض بصره بضعف. اليد التي كنتُ أمسكها أخذت ترتجف مرارًا، كأنّه يتوق للهرب من هذا المكان.
لكن عند كلماتي التالية، ارتعشت عيناه وهو يعاود النظر إليّ.
“ومع ذلك يا جلالتك… ما زلتُ أحبّك. وحتى في حياتي السابقة، ظللتُ أُحبّك حتى لفظتُ أنفاسي الأخيرة.”
شحب وجه رينوس تمامًا، وكأنّه يرفض تصديق ذلك. فتح فمه، لكن ما انبثق منه لم يكن سوى أنفاس متقطّعة خشنة.
ذكرياتي كأميرة كانت قد انطبعت بداخلي بفضل رينوس، وكأنني قرأتُها من دفتر يومياتي.
إذًا، فلا بد أنّه قد قرأ يومياتي التي تركتُها خلفي في حياتي السابقة—ولهذا يتصرّف على هذا النحو.
[ ………ليت الزمن يعود مرّةً واحدة فقط.
عندها ما كنتُ لألتقي بك قط.
لا… حتى في تلك الحال، لكنتُ ما زلتُ—
لا.
لا ينبغي أن أفكّر هكذا.
…مهما حدث، آمل ألّا نلتقي مرة أخرى.
حقًا، آمل ألّا أراك مجددًا… أبدًا. ]
لو كنتُ أعلم أن ذاك التنين، الذي يعيش إلى الأبد، سيقرأ يومًا يومياتي، لما كتبتها أبدًا.
حين استعدتُ تلك السطور الأخيرة التي دوّنتُها في اليوم الأخير، أغمضتُ عينيّ بيأس.
لكن حين أحسست بأن رينوس يحاول أن يبتعد عني مجددًا بعد أن قرأ تعابيري، أجبرتُ نفسي على فتح عينيّ وثبّتُّ بصري على وجهه القَلِق.
“في حياتي السابقة، كنتُ أحبّك. أجل، كان الأمر مؤلمًا إلى حدّ لا يُحتمل، لكنني أحببتك من أعماق قلبي.”
“…لستِ مضطرّة للكذب لأجلي.”
“إنه ليس كذبًا. لماذا قد أقول شيئًا كاذبًا؟”
حرّكتُ يدي التي كانت ممسكةً بمعصمه، لأقبض هذه المرّة على يده الباردة برفق.
ارتجف رينوس بقوّة. أجل… لهذا السبب كان يخشى سماع الحقيقة.
ولأنني وجدتُ الشوكة المغروسة في قلبه، واصلتُ بنبرة واضحة، مصمّمة على إزالة سوء الفهم كلّيًا.
“كان ذلك لأنني خشيتُ أن يتكرّر ما حدث بسببي. لقد دفعني الخوف إلى قول إنني لا أريد أن أراك—لم يكن لأني كرهتك.”
صمت.
ولوقتٍ طويل، لم ينبس ببنت شَفَة. كان بصره شاردًا، كأنه لا يستوعب كلماتي بعد.
هل سيختفي من أمامي مجددًا؟ ما إن خطرت الفكرة حتى اعتصر الألم قلبي. تشبّثتُ بذراعه التي بدت فاقدةً للحياة، وهززتُه بيأسٍ كمن يتقيّأ دمًا.
“لم أكتب ذلك لأنني أبغضك، بل لأنني أحبك. لأنني أحببتك أكثر من اللازم، ولأنني لم أستطع تحمّل رؤيتك تتألّم مجددًا، لهذا كتبت تلك الكلمات!”
عندها فقط، عاد البريق إلى عينيه.
ظلّ يحدّق بي مشدوهًا بينما كنتُ أسعل بصوتٍ أجشّ، ثم رفع يده المرتجفة ليلمس وجنتي بحذر كما لو كان يمسّ ريشة هشّة.
“مرّة بعد أخرى… أظلّ أفسّر كلماتكِ كما أريد أن أسمعها…”
“صاحب السمو، إن تفسيرك صحيح.”
ما إن شعرتُ بأن كلماتي قد وصلت إليه أخيرًا، حتى خارت قواي تمامًا وارتميت على السرير بلا حراك. ومع ذلك، لم أنسَ أن أتم عبارتي:
“في حياتي السابقة، وحتى آخر لحظة قبل موتي… أحببتك حقًا من أعماق قلبي.”
انعقد صوتي في حلقي… بسبب ذلك اليومي التافه، لا بد أنه عاش طوال هذا الوقت مثقلاً بسوء الفهم والألم. لقد آلمتني الفكرة حدّ العجز.
غمرت عيني دموع ساخنة، فأسرعت أرمش لأطردها، لكن حين رأيت دموعه تنحدر على وجهه كطفل، أجبرتُ يدي المرتجفة على أن ترتفع وتمسح دموعه العالقة عند أطراف عينيه.
اقترب مني، مائلًا بجسده حتى لا يرهقني، ثم همس بصوت مبحوح:
“كذِب.”
“أنت تعلم أنني أكره الكذب.”
“أم لعلّكِ… لم تستعيدي ذاكرتكِ كاملة بعد؟”
“لا. لقد رأيتُ كل شيء. حتى ما آل إليه حالك بعد موتي… رأيته كله.”
مسحتُ دموعه التي لم تنقطع، تتفجر كعين ماء في غابة. وفي غمرة ذلك، أدركت أن عينيّ أنا أيضًا قد اغرورقتا بالدموع.
“أنا آسفة على الخيار الذي اتخذتُه. كنت أظن… بما أنك، يا صاحب السمو، تعيش إلى الأبد، فستنسى بسهولة صلتك القصيرة بي…”
“كيف لي أن أنسى؟”
ضغط رينوس شفتيه في راحة كفّي، فيما أغمض عينيه الغارقتين في الدموع بجمال آسر.
“كنتِ الأولى والأخيرة التي منحتُها قلبي… فكيف أنساكِ؟”
“أنا آسفة.”
“لا… بل كان كل الذنب ذنبي. لو كنتُ أذكى بقليل، لما اضطررتِ أن تمري بمثل تلك المأساة.”
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 177"