ومع ذلك، فإن أول بشريّ أبدى له لطفًا لم يُظهر أي اهتمامٍ شخصيّ به على الإطلاق، وهو ما كان مزعجًا ومدعاةً للضيق.
راغبًا في أن يُبيّن للطفلة أنه ليس مجرّد أداةٍ للشفاء السحري أو مسؤولٍ مُكلَّفٍ بإحضار الطعام، قدّم آبشوليكتار نفسه باسم “ليتي” فقط.
وادّعى بدهاء أنه يعيش في هذا المكان بصفته تلميذًا خاصًّا لأحد التنانين، بعدما لفت أنظاره بموهبته الفطرية في السحر.
اتّسعت عينا إل بدهشة، وهمست:
“هل أخبر جلالة الملك؟ إنه يحبّ السحرة كثيرًا. أظن أنه سيعاملك بلطف.”
“لا. أبدًا. إن أخبرتِه، فلن أعطيكِ شيئًا لذيذًا مرة أخرى.”
“…!”
فزعت إل من قوله، وسرعان ما وعدته بكل جدية بأنها لن تقول شيئًا لجلالة الملك، حتى عقدت معه عهدًا بأصابعها الصغيرة، كما يفعل الأطفال.
ومنذ ذلك اليوم، بدأت بزيارته يوميًّا دون انقطاع.
كانت أحيانًا تطلب منه علاج بعض الحيوانات، لكن ما قاله عن كونه ليس طبيبًا بيطريًّا بدا وكأنه قد ترسّخ أخيرًا، إذ قلّت تلك الطلبات مع مرور الوقت.
وبدلًا من ذلك، كانت ترسم أشكالًا غير مفهومة في الطين، أو تصنع أكاليل زهور وتضعها على رأسه، وتثرثر دون توقّف.
ورغم سنوات حياته الطويلة، لم يسبق لآبشوليكتار أن التقى ببشريّ يعامله بهذه البساطة والعفوية.
ودون أن يشعر، أصبح ينتظر وقت زيارة إل بشوق.
بل إنه، ومن غير وعي منه، أخذ يتسلل إلى عالم البشر سرًّا، باحثًا عن أطعمة أشهى وأجود لإرضائها وكسب ودّها.
لكن مهما أطعمها، بقي جسد إل صغيرًا مقارنةً بأقرانها. فقد أدّى سوء التغذية في طفولتها إلى توقّف نموّها، وجعل جسدها ضعيفًا وعرضةً للأمراض.
وكلّما أُصيبت ولو بنزلة برد، كانت تبقى طريحة الفراش لأيام، غير قادرة على زيارته.
لذلك، بدأ آبشوليكتار يعاملها وكأنها قد تتلاشى مع أول نسمة هواء، أو تنطفئ إن ضمّها بقوة، وأخذ يعتزّ بها بشدة.
وفي تلك الأثناء، بدأ سكان القصر يلاحظون أمرًا غريبًا بشأن إل.
كيف لطفلةٍ كانت نحيلةً إلى حدّ الموت أن تبدأ فجأةً باكتساب الوزن وتتحسّن صحتها؟ فمن الطبيعي أن يُثير الأمر الشك.
“ما الذي تفعلينه هناك بالضبط…؟”
شقيقها، نوكس، تبعها سرًّا وهي تصعد الجبل المقدّس.
وما إن رأى الصبيّ الذي كانت تلتقي به، حتى أدرك فورًا أنه تنين.
صُدم نوكس، ووقع أرضًا، منبطحًا بجسده احترامًا:
“أحيي العظيم الجليل!”
قطّب آبشوليكتار جبينه حين رأى ملابس نوكس الأنيقة، التي لا تُقارن بملابس “إل” المهترئة.
ولم يكن هذا كلّ شيء— فمع أنه سمع أنهما توأمان، كان نوكس أطول منها بشبرين كاملين.
وحين أدرك أن كلّ ما كان يجب أن يُمنح لإل قد ذهب لهذا الفتى، اشتعل غضبٌ صامت في داخله.
وقد همّ بأن يأمره بالرحيل في الحال، لكن في تلك اللحظة تحديدًا، أدركت إل أن “ليتي” لم يكن سوى تنين، فصُدمت، وتبعت أخاها وجثت على الأرض.
“أ—أحيي العظيم الجليل!”
في لحظة، ازداد عبوس آبشوليكتار.
لم يُزعجه انحناء نوكس، لكن رؤية إل وهي تفعل ذلك أثارت في صدره ضيقًا عميقًا. لقد أخفى هويته كلّ هذا الوقت، تحديدًا كي لا يراها تنحني أمامه.
وفي ذلك اليوم، حضّر لها وجبة وكأنها العشاء الأخير.
وما إن أنهى الطفلان طعامهما، أمرهما بمغادرة الجبل فورًا.
“لن أنسى جميلك هذا اليوم، ما حييت.”
وبينما انحنى نوكس وغادر دون تردّد عند سماع الأمر، تردّدت إل، لكنها تبعت أخاها في النهاية.
ظلّ آبشوليكتار يحدّق في ظهرها المبتعد من بعيد، قبل أن يعود بصمتٍ إلى أعماق.
كان غاضبًا إلى درجةٍ شعر معها وكأن حشراتٍ تزحف في قلبه.
لطالما اعتاد أن يقدّسه الآخرون، فما الذي جعله يشعر بهذا القدر من الاستياء على وجه الخصوص اليوم؟
كما لو أن تروس ساعةٍ ميكانيكية قد انحرفت عن مكانها — وشيءٌ مهم قد فقد توازنه، وخرج عن موضعه الصحيح.
لقد كان كاملًا إلى حدّ أنه لم يشعر يومًا بالحاجة إلى التواصل مع الآخرين.
ولأنه لم يتواصل مع أحد، لم يكن يخوض أي توتراتٍ أو احتكاكاتٍ عاطفية، ما جعله عاجزًا عن التعامل مع البشر.
ولأنه لم يعرف كيف يتخلّص من هذا الانزعاج، قرّر آبشوليكتار، كما يفعل دائمًا، أن يدفنه بين طبقات الزمن.
راغبًا في ألا يرى “إل”، مصدر تلك المشاعر، مرةً أخرى، عاد إلى جسده الأصلي واستعدّ للدخول في سبات.
لكن، وفي تلك اللحظة بالذات—
“تنين! تنين!”
اقتحمت “إل”، التي ظنّ أنها عادت إلى منزلها، عرينه وهي تندفع مسرعةً إلى الداخل.
كان من الطبيعي أن ترتعب من هيئته الضخمة المتلألئة بلونٍ ذهبيّ، كما كان يُتوقَّع، لكنها هرعت باكيةً وتعلّقت بوجه آبشوليكتار.
وسألته بصوتٍ يتخلّله النحيب:
“هل… لم يعد مسموحًا لي أن آتي إلى هنا؟”
「…هل ترغبين في المجيء؟」
جاء صوته منخفضًا، يحمل نبرةً من الانزعاج. وككائنٍ تنين، دوّى صوته في الجبل كقصفٍ بعيدٍ هزّ الصخور.
لو كان أي بشريّ آخر في مكانها، لأصابه الرعب تحت وطأة هذا الصوت، إلا أن “إل” أومأت برأسها بسرعة، دون تردّد أو ارتباك.
“نعم، أريد أن آتي. لكن أخي قال إنه لا ينبغي أن أزعج من هو عظيم مثلك—هل هذا حقيقي؟ هل لن أستطيع رؤيتك مجددًا؟”
قالت ذلك وهي تشهق بحزن، وقد اختفى تمامًا ذلك الوجه المرتجف الذي كان يخاطبه بتقديس، وعاد الوجه الطفولي البريء الذي اعتاد رؤيته.
نظر آبشوليكتار مطوّلًا إلى “إل”، التي لا تزال تتصرّف معه بعفويةٍ تامّة.
…طقطقة.
عادت تروس الساعة التي توقفت في ذهنه إلى الدوران من جديد.
وفي الوقت ذاته الذي اجتاحه فيه شعورٌ غريب بالرضا، عاد كلّ شيء إلى موضعه الصحيح، كما لو أن اختلاله قد انتهى.
وبعد فترةٍ قصيرة، أغمض آبشوليكتار عينيه بهدوء. وانبعث من جسده وهجٌ ذهبيّ، ليعود إلى الهيئة التي كانت “إل” تعرفها.
مسح دموعها بطرف إبهامه، ثم قبّل وجنتها بلطف، كما لو كان يواسيها. كان طعم دموعها مالحًا ومُرًّا، لكن لسببٍ ما، لم يكن ذلك مزعجًا له.
ثم ابتعد عنها ببطء، وهمس بصوتٍ منخفض:
“بل يمكنكِ أن تزعجيني قدر ما تشائين.”
…فقط أنتِ، يُسمح لكِ أن تفعلي ذلك بي.
✧ 。゚ ✧ : * . ☽ . * : ✧ ゚。 ✧
انتشرت شائعة في أنحاء القصر الملكي في إلدورادو:
الأميرة الصغرى، التي كانت تعيش في غرفةٍ منسيّةٍ في جناحٍ خلفي، قد نالت محبّة التنين آبشوليكتار.
فما كان من الأميرات الأخريات، اللواتي كُنّ واثقاتٍ من جمالهن، إلا أن تزيّنّ بأبهى الحُلل، وصعدن الجبل المقدّس واحدةً تلو الأخرى.
لكن بدلًا من كسب قلب التنين، عدن وهنّ منهكاتٍ بعد أن لاحقتهن الوحوش، أو ضللن طريقهن وسط الغابة المتشابكة كالمتاهة.
وعندما رأى الملك ذلك، أدرك أن “إل” وحدها قادرة على تحريك قلب آبشوليكتار، ومنذ ذلك الحين، أغدق عليها كلّ أشكال الدعم.
لم يكتفِ بإعادة بناء القصر المتهالك ليصبح قصرًا جديدًا فخمًا، بل زوّدها أيضًا بأفضل أنواع الطعام والثياب والمجوهرات.
كما عيّن لها عددًا كبيرًا من الخدم، ليجعل حياتها مريحة.
وهكذا، مرّت السنوات، وفي اليوم الذي مرّت فيه ثمانية أعوام على لقائهما الأول—
“ليتي!”
نادته بصوتٍ يفيض بالحيوية.
الفتاة التي ظنّ أنها ستبقى طفلةً صغيرة إلى الأبد، أصبحت الآن شابةً ناضجة، تفوح منها رائحة الصيف النضر.
متى كبرت بهذا الشكل؟ البشر حقًّا يتغيّرون بسرعة.
وكما اعتاد على مدار السنين، غيّر آبشوليكتار مظهره ليتناسب مع عمرها، ومع ذلك، لم يستطع أن يُبعد ناظريه عنها.
وحين اقتربت منه، فتح ذراعيه واحتضنها بقوة.
تذمّرت “إل” بنبرةٍ فيها دلال، وهي محاصرة في أحضانه:
“آه، لا أستطيع التنفّس.”
“أنتِ فقط ضعيفة.”
قرب شفتيه من أذنها، حتى لامسها برفق وهو يتحدّث، ثم أطلق سراحها فورًا. لكنه لم يفوّت فرصة أن يشبك أصابعها بأصابعه بإحكام، كي لا تبتعد عنه كثيرًا.
“أحيِّي العظيم.”
وصل “نوكس”، الذي تبعهما من الخلف، متأخّرًا، وسرعان ما انبطح على الأرض في انحناءةٍ كاملة.
وبفضل أن شقيقته “إل” نالت محبّة آبشوليكتار، تحوّل من مجرّد ابن المحظيّة السابعة والثلاثين إلى وريثٍ قويّ محتمل للعرش، وعاش حياةً فاخرة لا يُضاهى.
[ أوهانا: ياخي يقهر ]
نظر إليه آبشوليكتار وعقد حاجبيه.
فالروح البشريّة دومًا تفوح منها رائحةٌ تشبه صاحبها.
وعلى عكس “إل”، التي كانت تفوح منها رائحة الزهور النقيّة، فقد كان “نوكس” تفوح منه رائحةٌ نتنة، متعفّنةٌ بالجشع والتعطّش للسلطة. ولو لم يكن من دم “إل”، لأحرقه آبشوليكتار بأنفاسه منذ زمن.
وفوق ذلك، لم يكن “نوكس” يزوره إلا عندما يريد شيئًا.
سواءٌ كانت مناسبة عيد ميلاد الملك، أو احتفال رأس السنة، أو استقبال وفدٍ دبلوماسي من الخارج—في كلّ مناسبة، كبيرةٍ كانت أو صغيرة، كان يأتي متوسّلًا حضور آبشوليكتار لتعزيز مكانته الاجتماعيّة.
وكانت محاولاته المكشوفة للاستغلال تثير اشمئزاز آبشوليكتار، الذي كان يتجاهل طلباته دومًا.
لكن عندما كان الأمر يتعلّق بعيد ميلاد “إل”، كان يستثنيها. إذ كان يفكّر بها، ويرسل إليها أثمن وأندر الهدايا.
واليوم، لم يأتِ “نوكس” عبثًا، بل لا بدّ أنه يحمل غرضًا ما.
من دون أن يأمره حتى برفع رأسه، نظر إليه آبشوليكتار بنظرةٍ باردة وسأله:
“ما الذي جئت تطلبه هذه المرّة؟”
“أعتذر… لكنني كنت آمل أن تشارك في حفل بلوغ أختي…”
كان آبشوليكتار على وشك أن يرفضه كما يفعل دائمًا، لكنه توقّف فجأة.
حفل بلوغ “إل”.
على عكس أعياد الميلاد التي تتكرّر كلّ عام، فإن حفل البلوغ يحدث مرةً واحدة في العمر. وإذا فاتك، فلن يتكرّر.
لكن هذا الحفل لم يكن يخصّ “إل” وحدها، بل كان يخصّ “نوكس” أيضًا—إذ من الواضح أنه أراد استغلال وجود آبشوليكتار لرفع مكانته السياسيّة في العلن.
هل عليه حقًّا أن يخضع لهذا المخطّط المقيت…؟
وبينما كان متردّدًا، تمتمت “إل” بتبرّم:
“أخي، ألم تكن أنت من قال ألا أزعج السيّد ريتي؟”
ثم أخرجت من صدرها شيئًا مطويًّا بعناية وقدّمته لآبشوليكتار. فتحه ليرى أنه رسم لقاعة الحفل المهيبة.
وأخذت “إل” تشير إلى التفاصيل وتشرح بفخر:
“هذه هي القاعة التي سيُقام فيها الحفل. وبما أنك على الأرجح لن تستطيع الحضور، طلبت من إحدى الخادمات أن ترسمها لك، حتى تتمكن من رؤيتها على الأقل.”
في تلك اللحظة، شعر آبشوليكتار بشيءٍ يخنقه.
أن تفترض بكلّ بساطةٍ أنه لن يحضر حفل بلوغها الوحيد في الحياة… شيءٌ ما في ذلك أزعجه على نحوٍ غريب.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 162"