ولأنّني بقيتُ صامتة، مستندةً إلى النافذة دون أن أنبس بكلمة، كرّر رينوس عبارته بنفس الهدوء:
“أنا حقًّا لا أعرفكِ.”
“…….”
“كيف لي أن أعرفكِ؟ صحيح أننا تبادلنا بعض الكلمات من قبل، لكن من تكونين في الحقيقة… لا علم لي بذلك.”
تبادلنا الحديث من قبل، ومع ذلك لا يعرف من أكون؟ أيّ منطقٍ هذا؟
كان من الواضح أنّه يكذب لحماية كرامتي، حتى وإن اضطر إلى التناقض، الأمر الذي جعلني أضحك بسخرية، ودموعي تنهمر بصمت.
صحيح أن القناع يُخفي ملامحي، لكنّ دموعي كانت تُرى.
وبينما كنتُ جامدةً لا أتحرّك، بدا رينوس غارقًا في تفكيرٍ جاد، ثم أضاف:
“……حتى تلك المحادثة لم تكن معي، بل مع شخصٍ أعرفه. أنا لم أتحدّث معكِ من قبل.”
كان يحاول يائسًا ترميم تناقضه بالكلمات.
وأنا… كدتُ أنفجر بالبكاء.
لم يسألني عن سبب إدارتي لنقابة متخصّصة في الخيانات، ولا عن الشائعات المقرفة التي أحاطت بي كـ”الزعيمة”، ولا حتى عن سبب صناعتي لدمية التنّين الأسود. لم ينبس ببنت شفة عن أيّ شيء، بل فكّر فقط في حالتي النفسيّة البائسة.
وهذا… كان مؤثّرًا للغاية.
صحيح أن واقع توصياتي المجنونة له بالكتب الحمراء لا يزال قائمًا، وكذلك خزي اكتشافه لمقتنياتي المخزية…
لكن، رغم كل شيء، شعرتُ بشيء من السكينة.
حتى تلك اللحظة، كنتُ لا أزال مستندةً إلى النافذة، ثم عدّلتُ جلستي بهدوءٍ وبتهذيب.
ثبّتُّ نظري عليه، رغم أنّه كان يرغب في الفرار بعيدًا عني، وقلتُ بصوتٍ مخنوق:
“هكذا إذًا… لقد ظننتُ، للحظة، أنّك تشبه شخصًا أعرفه.”
“يحدث ذلك، فأنتِ أيضًا تشبهين شخصًا أعرفه كثيرًا.”
وبهذا، خيّم الصمت على العربة.
لكنه لم يكن صمتًا خانقًا ومتوتّرًا كما كان في طريقنا إلى القصر الإمبراطوري، بل أقرب إلى سكونٍ هادئ يشبه السلام البسيط.
ثم قال رينوس مجدّدًا، وكأنّ فكرة راودته فجأة:
“ليس شخصًا أعرفه… بل شخصًا أحببته.”
“…….”
مرّة أخرى، شعرتُ أنّ دموعي على وشك الانهمار. لماذا يُصرّ هذا الرجل على إغراقي بالمشاعر بهذه الطريقة؟…
وهكذا، عدنا إلى نقطة الانطلاق.
“لقد عدتِ، يا سيدتي!”
تهلّلت ملامح ليدر بمجرد أن رآني أدخل بخطى مثقلة إلى النقابة.
يبدو أن الأمور قد تمّ تسويتها جيّدًا، إذ لم يكن في المكان سوى أعضاء نقابتنا.
ما عدا شخصًا واحدًا—”روبليت”، التي كانت واقفة عند الطاولة، متّكئةً بجانبٍ واحد، ووجهها جامدٌ كالصخر.
ليدر، الذي التصق بي فور دخولي، نظر إليّ نظرة محرجة، وأشار بخفّة إلى روبليت:
“حاولتُ طرده، لكنه رفض المغادرة تمامًا.”
بالطبع. فهو ليس من النوع الذي يستسلم بهذه السهولة.
لكنّني كنتُ منهكةً بالكامل بعد كلّ ما مررتُ به، ولم أملك طاقة للحديث أو التفكير في طريقة لطرده مجددًا.
لذا، أومأتُ لليدر بإشارة خفيفة تعني: أحسنت.
وفي تلك اللحظة، اقترب روبليت، ونظر إليّ من رأسي حتى قدمي.
“…تبدين بخير.”
ثم، دون أن يقول كلمة أخرى، غادر النقابة مباشرة.
هاه؟
كنتُ أظنّه سيتشبّث بي ويسألني عشرات الأسئلة، ففوجئتُ بخروجه بهذه السهولة.
وبينما كنتُ أحدّق بذهول في الباب المُغلق، هزّ ليدر رأسه بأسى.
“لا تسألي. لو لم يكن الطرف الآخر هو سمو وليّ العهد، لحدثت كارثة.”
“لماذا؟”
“كانت نظراته تقول إنّه على وشك قتل أحدهم. كان يجب أن تريها، يا زعيمة.”
“…….”
“الجميع كان حابسًا أنفاسه. ثم خرج فجأة إلى الخارج، فظننا أنه رحل أخيرًا، لكنه عاد بعد قليل. كان قد هدأ قليلًا على الأقل.”
“حقًا؟”
أملْتُ رأسي بتعجّب.
ترى، إلى أين ذهب روبليت في تلك الأثناء…؟
“لا يكون قد عاد ليتأكّد ممّا إذا كنتُ قد اعتُقلت؟”
لم يمرّ وقتٌ طويل حتى تأكدتُ أنّ شكوكي كانت في محلّها.
فور عودتي من مقابلة وليّ العهد، ورغم أنّني كنتُ أبدو بخير إلى حدٍّ يثير الاستغراب، سألني “ليدر” بحذر:
“سيّدتي، لماذا طلب جلالته رؤيتكِ؟”
“فقط… قال إنّه يرغب في أن يكون الراعي الرسمي لنقابتنا.”
اتّسعت عينا ليدر، وانفتح فمه من شدّة الدهشة، بينما أكملتُ أنا حديثي بنبرةٍ خالية من الانفعال:
“سأرفض ذلك.”
“…صحيح، لأنكِ لن تعودي قادرة على التحرّك بحرّية بعدها.”
أومأ ليدر برأسه، وكأنّه كان يتوقّع جوابي.
وقد كان محقًّا. لو أنّني قبلتُ عرض الإمبراطور، لكانت أمورٌ كثيرة ستتحسّن من نواحٍ عدّة. لكن في المقابل، سأكون مرتبطةً به كليًّا، ولن أستطيع الفكاك من نفوذه.
حتى وإن كان الإمبراطور شخصًا لطيفًا، لم أكن أرغب في ذلك.
الحرّية، حتى وإن لم تكن مصحوبةً بثروة طائلة، تظلّ أغلى.
أملْتُ رأسي قليلًا إلى الجانب، ثم خفّضتُ صوتي وهمستُ لليدر:
“يبدو أنّ جلالته يريد إنجاز أمرٍ ما عبر نقابتنا.”
كنتُ فضوليّة لمعرفة ما هو، لكن لا سبيل حاليًّا إلى ذلك.
الأمر الوحيد الذي يتبادر إلى ذهني هو الإشاعة التي تقول إنّ الأمير الثاني قد لا يكون الابن الحقيقيّ للإمبراطور…
بعد تناول عشاءٍ لذيذ، قرّرنا أن نحتسي الشاي قبل أن نفترق، فدخلنا مقهًى جميلًا.
لكن، ما إن دخلنا، حتى تبعنا شخصٌ إلى داخل المقهى، وهمس بشيءٍ في أذن رينوس.
وبعد لحظات، ارتسمت على وجهه نظرةُ اعتذارٍ شديد.
“أعتذر يا آنستي، لكنّ جلالته استدعاني بشأن ما حدث في النهار… لن أتأخّر. أو هل تُفضّلين العودة إلى المنزل الآن؟”
إن كان المقصود “ما حدث في النهار”، فلا بدّ أنّه يقصد ما جرى في نقابة سييل.
لم أكن أعلم لماذا دعاني، لكنّني قررت أنّ من الأفضل لي فهم الوضع بشكل عام قبل أن أذهب، لذا أجبته بأنّني سأنتظره.
“لا بأس، سأنتظر. تفضّل، اذهب.”
وهكذا، بينما غادر رينوس، جلستُ بهدوء أرتشف الشاي الدافئ في انتظاره.
وفجأة، انطلقت ضحكاتٌ مكتومة من الفتيات النبيلات الجالسات بجواري.
هممم؟
شعرتُ أنّ الصوت مألوف لي، فالتفتُّ ناحيتهن، وإذا بي أرى أليس ومرافِقاتها المعتادات.
غير أنّ شيئًا واحدًا كان غريبًا؛ فبينما كانت مرافِقاتها يبتسمن بسخرية، كانت أليس وحدها لا تضحك.
لماذا يا تُرى؟
نظرتُ إلى أليس، التي بدت متجهّمة كطفلة غاضبة عوقبت لتوّها، وفكّرتُ في داخلي:
“يبدو أنّ حالتها النفسية قد تحسّنت.”
بعد الإهانة القاسية التي تلقّتها من رينوس في الحفل الذي أُقيم لتهنئتي كوريثة للابرينث، تردّدت الشائعات بأنّها كانت تحبس نفسها في المنزل.
ويبدو أنّها بدأت الآن بالظهور مجدّدًا.
وما إن التقت أعيننا، حتى أطلقت أليس “همف” بتعجرف، وأدارت وجهها بامتعاض.
وعندما رأى أتباعها ذلك، أخذوا يتهامسون:
“يا إلهي، أن تأتي إلى مكانٍ كهذا مع سموّ وليّ العهد… يبدو أنّ الشائعات كانت صحيحة!”
“لكن آنسة لابرينث… الشائعات حول علاقاتها كثيرةٌ على أيّة حال.”
“أعرف ثلاث حالات حتى الآن: دوق أبشلكتي، ورئيس شركة لومينوس، والآن هذه!”
وللمرّة الثالثة، تمنّيت أن أصرخ قائلةً:
لم تكن هناك أيّ علاقة تربطني لا بالدوق، ولا برئيس الشركة.
حتى إنّهما أوضحا بنفسيهما الحقيقة قبل أن تنتشر شائعة علاقتي برينوس.
لكن أولئك اللواتي يكرهنني لن يعبأن بالحقائق.
لذا تجاهلت الأمر، وأكملتُ احتساء الشاي، رغم أنّ همساتهن المزعجة لم تتوقّف.
“همف! لا بدّ أنّها هي من بادرت بإغوائهم أوّلًا. وإلّا، فما الذي يدفعهم جميعًا لملاحقتها؟!”
“بالضبط! من كل الزوايا، الآنسة تشيريش هي الأجدر بكثير!”
في تلك اللحظة…
“كفى. التزمنَ الصمت.”
تدخّلت أليس، التي كانت حتى ذلك الحين صامتة، وأوقفت حديثهن.
هم؟
كنتُ أظنّ أنّها ستكون أوّل من يهاجمني، لذا فوجئتُ بردّة فعلها غير المتوقعة.
يبدو أنّها تدرك، ولو قليلًا، أنّني السبب في بقاء أصابع يدها سليمة.
على الأقل، ليست فارغة الرأس كـ تيرييل.
بينما كنتُ أُعجب بها في داخلي، صفّقت أليس مروحتها على راحة يدها، وغيّرت مجرى الحديث:
“دعونا نكفّ عن هذه الأحاديث التافهة، ونتحدث عن أمرٍ أكثر إثارة.”
بدت وكأنّها تنهاهن عن الاستمرار في إهانتي، فبادلتْ الآنسات النظرات بتردّد، لكن سرعان ما انصعنَ لتعليماتها، وبدأنَ بطرح مواضيع جديدة.
“…هل سمعتن؟ يُقال إنّ البارون ألفريد يجوب الأماكن يطلب من الناس الاستماع له.”
“يا إلهي، حقًّا؟”
“ما الذي يريدهم أن يسمعوه تحديدًا؟”
هكذا تغيّر الموضوع فجأة.
رمقتُ أليس بنظرةٍ جانبيّة تنمّ عن فضول.
كانت تتظاهر بالانشغال بالحديث، لكنّني لاحظتُ أن أطراف أذنيها كانت متورّدة قليلًا.
يبدو أنّها تشعر بالحرج لأنّها دافعت عنّي.
ليست فتاة عديمة الفائدة تمامًا، على ما يبدو.
أما عن البارون ألفريد…
لقد سمعتُ من جيرالد أنّه أقسم على الانتقام لما حدث له في حفل التهنئة، حين أُهين بشدّة.
حتى إنّه قدّم عدّة طلبات إلى النقابات السرية، راجيًا منهم إسقاط لومينوس.
لكن بما أنّ أعضاء تلك النقابة من معجبيني، لم يأخذ أحدٌ طلبه على محمل الجد.
وبعد ذلك، بدا وكأنّه اختفى لبعض الوقت—لكن يبدو أنّه وجد الآن طريقة للعودة.
ربّما ينوي اتّباع نهجٍ مختلف هذه المرّة؟
احتسيتُ ما تبقّى من الشاي بينما أنصتُ لحديث الفتيات.
وكنتُ منشغلةً بذلك لدرجة أنّني لم ألاحظ الشخص الذي وقف عند النافذة يحدّق بي بعينين متّسعتين، والذي كان على الأرجح… تيرييل.
بينما كنتُ مركّزة على الاستماع…
“هذه المقهى مخصّصة للنبلاء فقط! غادري فورًا!”
“لكنّي… أنا أيضًا نبيلة…”
ارتفعت الأصوات من جهة مدخل المقهى.
وعندما نظرتُ لأفهم ما يجري، فإذا بي أرى تيرييل، بوجهٍ شاحب، وهيئةٍ مضطربة.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
ترجمة : أوهانا
الانستا : han__a505
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 121"