شعرتُ بنظرات رينوس المرتبكة حين وجّهها نحوي. من الواضح أنّه هو الآخر لم يكن يتوقّع أن يطرح الإمبراطور سؤالًا كهذا.
أمام هذا السيل اللامنتهي من الإذلال، أغمضتُ عينيّ بقوّة، ثم أجبتُ بصوتٍ مرتجف:
“كلا، أنا والماركيزة الصغيرة لابرينث… لا تجمعنا سوى علاقة صداقة.”
“هكذا إذن.”
لكن، رغم إجابتي، ظلّت نظرات الإمبراطور تنطق بعدم التصديق. لم يتراجع، بل تابع بأسئلته المحرجة:
“وكيف تعرّفتما على بعضكما؟”
“الماركيزة الصغيرة… قدّمت طلبًا لنقابتنا بشأن قضية تتعلّق بدوفال إيسيت…”
“ولِمَ تسأل عن أمرٍ كهذا؟”
لم يحتمل راينوس المزيد، فتدخّل بنبرة ممتعضة. لكن هيبة الإمبراطور كانت أقوى من اعتراضه.
“ألستَ أنت أيضًا تحمل مشاعر تجاه الماركيزة الصغيرة؟”
“……”
عجز رينوس عن الردّ على هذا الكلام الذي لم يترك له مجالًا للإنكار. آه، آه، آه…! لكنّ الإمبراطور لم يكتفِ بذلك، بل صبّ الزيت على النار:
“وما الجدوى من أن يهوى كثيرون الشخص ذاته؟ هذه الأمور يجب أن تُحسم بوضوح.”
“……”
لم يستطع رينوس التفوّه بكلمة بعد ذلك. آه… آه، آه، آه…
بينما كنتُ أواصل نحيبي الداخلي وقد تشتّت ذهني بالكامل، تابع الإمبراطور طرح أسئلته المجنونة، وكأنّها لا تنتهي:
“هل تدرك الماركيزة الصغيرة ما يكنّه لها قلبك؟”
“…أعتذر، لكنّني لا أنظر إلى الماركيزة الصغيرة لابرينث إلا كصديقة، ولا أكثر من ذلك. ثم إنّني… امرأة…”
أخفضتُ رأسي، وأغمضتُ عينيّ بقوّة. وبغضّ النظر عن ارتجاف صوتي، لفظتُ عبارتي الأخيرة بتوكيدٍ قاطع:
“وأُحبّ الرجال.”
“هكذا هو الأمر، إذن.”
عندها فقط، بدا الرضا على وجه الإمبراطور، وهزّ رأسه بتفهّم.
ربّما لم يعد يراني منافسةً لرينوس، ولكن نفسيّتي كانت قد تفتّتت بالفعل، كخرقةٍ ممزّقة.
لكنّ الإمبراطور لم يكتفِ بذلك.
“بما أنّكِ صديقة للماركيزة الصغيرة، فلا بدّ أنّكِ تعرفين عنها الكثير.”
“……”
“هل تعلمين من يملك قلبها؟”
“……”
“على ما سمعته، فإنّ دوق أبشلكتي ودوق جاستيس وحتى رئيس نقابة لومينوس، جميعهم يُبدون اهتمامًا بالماركيزة الصغيرة. وأتساءل إن كان قلبها قد مال إلى أحدهم.”
آآآآه…
إلى متى ستستمر هذه المحادثة؟ إلى أيّ دركٍ ستنحدر كرامتي؟
وللعلم، كما قلتُ سابقًا، فإنّ دوق أبشلكتي ورئيس نقابة لومينوس نفوا شائعات العلاقة بأنفسهم، وأنهوا تلك الفضيحة.
أمّا مع دوق جاستيس، فلم تكن هناك حتى ما يُسمّى بفضيحة أصلًا.
ومع ذلك، ها هو يطرح مثل هذا السؤال… لا شكّ في أنّه حريص أشدّ الحرص، بما أنّ الأمر يتعلّق بابنه الوحيد من الإمبراطورة الراحلة، التي أحبّها بصدق.
قد يكون ذلك أمرًا جيّدًا بالنسبة إلى رينوس، أمّا أنا، التي تلقّت هذه الصواعق واحدةً تلو الأخرى، فقد تمزّقتُ بالكامل. لم أعد خرقة، بل أصبحتُ رمادًا.
كأنني رمادٌ متناثر على الأرض، أغلقتُ عينيّ بإحكام، وكابحتُ دموعي بصعوبة، ثم أجبتُ بصوتٍ خافت:
“…ليست علاقتنا وثيقة إلى ذلك الحدّ، لذا لا أعلم حقًّا. أعتذر…”
“هكذا إذن. يا للأسف.”
ولحسن الحظ، صدّق الإمبراطور ما قلته.
لكن… قال إنّه سيصدّقني، لكنه لم يقل أبدًا إنّه سيتوقّف عن تمزيقي إلى أشلاء.
“هل صادف أثناء حديثكِ مع الماركيزة أن ورد ذِكر وليّ العهد؟ وإن لم يحدث، فلا بأس لو أثرتِ أنتِ الموضوع بنفسكِ.”
“…….”
“جلالة الإمبراطور.”
تدخّل رينوس مجدّدًا، يحاول إنقاذي، وأنا أتحوّل من خرقة إلى رمادٍ يتناثر في مهبّ الريح.
“أظنّ أنّه من المناسب الآن أن توضّح السبب في استدعاء زعيمة النقابة إلى هذا المكان.”
“ألا يقلقك الأمر؟ ماذا لو جاء أحدهم وخطف الماركيزة الصغيرة منك؟ ما الذي ستفعله عندها؟”
كما فعل في مأدبة الغداء السابقة، سمعتُ الإمبراطور يتمتم وهو ينقر لسانه بأسى: “إيه، تششش، يا لك من أحمق!”
حينها، وبعد لحظة من التردّد، ردّ رينوس بحذر:
“…بما أنّني أنا هو النوع المثالي بالنسبة للماركيزة، فلا داعي للقلق.”
“النوع المثالي؟ هل سبق أن تحدّثتما عن ذلك معًا؟”
“…ليس من المناسب أن أتحدّث عن الأمر هنا، في هذه اللحظة.”
أحسستُ بنظرة جانبية من رينوس نحوي، وكأنّه يقول إنّ وجودي يمنعه من الخوض في التفاصيل.
يا للنعمة.
لو كان قال هنا: “النوع المثالي للماركيزة الصغيرة هو رجل طويل، ثري ووسيم.”، لكنتُ احترقتُ تمامًا وتحولتُ إلى رمادٍ حقيقي.
“هممم…”
لحسن الحظ، ما إن سمع الإمبراطور أنّني أُفضّل رينوس، حتى هدأت نبرته وتوقّف عن طرح الأسئلة.
ثم، بعد أن ساد الصمت برهة، فتح أخيرًا الباب على الغرض الحقيقي الذي استدعاني لأجله:
“السبب في دعوتي لكِ إلى هذا المكان… هو أنّني أرغب بأن أصبح الراعي الرسمي لنقابتكِ.”
“……!”
أن يصبح الإمبراطور بنفسه الراعي الرسمي لنقابة تعمل في الخفاء؟
ذهني الذي أُصيب بالدوار من سلسلة الضربات السابقة استفاق فجأة. لكن بدل أن أشعر بالسعادة، اجتاحتني موجة ثقيلة من التشاؤم.
لا، كان الإحساس أشبه بأنّه سيكلّفني بمهمّة مهولة… شيء من نوع “الأمير الثاني ليس الابن الحقيقي للإمبراطور” — تلك الشائعة التي لم تُذكر حتى في الرواية الأصليّة إلا همسًا!
لكن، لم يكن بإمكاني أن أُبادر بالسؤال، لذا بقيتُ منحنية أنتظر بقيّة الحديث.
ثم قال الإمبراطور ما كنتُ أرجو ألا ينطق به:
“لكن قبل ذلك، لا بدّ أن تكشفي عن هويتكِ الحقيقية.”
“جلالة الإمبراطور.”
تدخّل رينوس مرةً أخرى.
“زعيمة نقابة سيل، شخص يمكن الوثوق به.”
“وكيف لك أن تعرف ذلك؟”
عدّل الإمبراطور جلسته على العرش، ووجّه نظراته الثاقبة إلى رينوس.
“والآن وقد ذكّرتني، كنتَ شديد الحرص على حمايتها طوال الوقت. هل تعرف هويّتها الحقيقية يا تُرى؟”
“لا أعلم هويّتها. لكنّني خضتُ معها الكثير من الأحاديث، وبناءً على ذلك، أقول ما أقول.”
نظر إليه الإمبراطور بنظرة مريبة، بينما يُنكر الأمر بشدّة:
“لا عجب إذًا… كنتَ تدافع عنها بحماسةٍ شديدة. لأنّ بينكما معرفة، هكذا هو الأمر.”
“ليس كذلك، بل…”
“لا بأس، سأتجاوز الأمر هذه المرة، فقط مراعاةً لكِ. يمكنكِ الانصراف الآن. لكن، لا تنسي أن تتذكّري ما قلتُه لكِ اليوم.”
رغم أنّه كان يملك السلطة ليُجبرني على كشف هويّتي فورًا، اختار الإمبراطور أن يُظهر بعض التعاطف.
والآن، وأنا أستعيد شريط الأحداث… عندما تصرّف دوفال، وتيرييل، والكونت إيسيت بسخف أمامه، لم يسجنهم، بل اكتفى بالغضب.
أظنّني أستطيع القول إنّ هذا الرجل… يستحق أن يُلقّب بالحاكم العادل.
لكن، ما إن لمعت هذه الفكرة في رأسي، حتى أتبعها الإمبراطور بنبرة قاسية:
“وليّ العهد، تولَّ مهمّة مرافقة الزعيمة إلى الخارج.”
في اللحظة التي سمعتُ فيها الأمر الأخير، تبدّل كلّ شيء.
آه…
* * *
كنتُ في الأصل أنوي أن أركض عائدةً إلى المنزل فور خروجي من قاعة العرش.
أن أعود إلى غرفتي، وأُحكمَ إغلاق الباب خلفي، وألا أخرج من السرير مجددًا.
لكن… ما الذي يحدث الآن بحقّ السماء؟
طق، طق، طق.
داخل عربة مغلقة من جميع الجهات، لم يكن يُسمع سوى صوت حوافر الخيول وهي تضرب الأرض بإيقاعٍ رتيب، يتردّد صداه في الصمت الطويل.
حاولتُ تجاهل الهالة الثقيلة المنبعثة من الجهة المقابلة، وبدلًا من ذلك، بدأتُ أستعيد، في ذهني، واحدةً تلو الأخرى، تلك العبارات الفاضحة التي تفوّهتُ بها.
> “أنصحك بقراءة ‘ليالٍ ساخنة: 24 ساعة من الشغف’، أو ‘الحياة السرية للعشاق تحت الأغطية’—وأخيرًا، ‘سبب بكائها كل ليلة’. إذا قرأته بتمعّن، أؤكّد لك أنك ستغرق في بحرٍ من الحب.”
> “كفكرة مؤقّتة للفت الانتباه، ما رأيك أن تضع زهرة في شعرك؟”
> “أتذكر الكتاب الذي أوصيتك به سابقًا—’سبب بكائها كل ليلة’؟ صدر له جزءٌ ثانٍ مؤخرًا، أكثر جرأة، أكثر إثارة، وأكثر… بكاءً.”
لا بدّ أنّني جُننت.
> “لا تقل إنك محرج لدرجة أنك لن تجرؤ على فعلها، صحيح؟”
> “من الأعمال الجديدة التي صدرت حديثًا، أنصح بـ:
‘شش، في تلك الليلة… تلك الشابة النبيلة’،
‘عام واحد فقط… عذّبني كما تشاء’،
‘صديقتي تحب XX زوجي كثيرًا’،
‘نهارًا نبيلًا، ليلًا وحشٌ هائج’.”
> “بالطبع. أنصح بها لأنّني قرأتُها جميعًا.”
> “مهما حصل، لا تذكر أبدًا أنّك ترغب في إنجاب خمسة أطفال قبل الزواج.”
> “لو كنتُ مكان الطرف الآخر، لهربتُ فورًا.”
يا إلهي، أنا فعلًا…
> “عذرًا، لحظة من فضلك.”
صرير مكابح حاد.
> “لم تدفع لي في المرة السابقة.”
صرير مجدّد.
> “عليك أن تدفع لي. وإن أمكن، لا تنسَ أن تقيّمنا بخمس نجوم.”
صرير ثالث.
أنا فعلًا…
> “ذلك الشيء صُنع من تنّينٍ أسود حقيقي، تعلم؟ هو مختومٌ الآن، لكن عند ظهور قمر الياقوت سيتحوّل مجددًا—فكن حذرًا.”
…لا بدّ أنني جُننت.
في خضمّ هذا الاضطراب، كنتُ في داخلي أنتف شعر رأسي.
هل أنا بصلة؟ لماذا كلّما قشّرتُ طبقة، ظهرت أخرى أسوأ؟
لم أعد أُطيق التظاهر بكوني “الزعيمة القاسية والغامضة”، فاستسلمتُ تمامًا، وبدأت أضرب رأسي على نافذة العربة.
تمنّيتُ أن تبتلعني العربة وأن أختفي من الوجود.
آه… آههههههه… آهآآآآآآآآآآآآآآه.
كان رينوس يرمقني بنظرةٍ تفيض بالشفقة. يبدو أنّه لم يفهم مشاعري الحقيقية، وظنّ أنّني فقدتُ أعصابي بسبب عرض الإمبراطور المفاجئ.
حاول أن يواسيني، فخاطبني بلطفٍ بالغ:
“جلالته لم يُصدر أمرًا، بل قدّم عرضًا فحسب. إن لم ترغبي، يمكنكِ رفضه دون أيّ تبِعات.”
لكنّ كلماته، بدلًا من أن تُريحني، زادتني خيبة.
لم أره يومًا يعامل أحدًا بهذه العناية واللطف سواي.
وها هو الآن… يمدّ ذلك اللطف ذاته إلى شخصٍ آخر.
أحسستُ وكأنّ روحي تلقّت ضربة قاضية، فسقطتُ منهارةً، وأسندتُ رأسي إلى النافذة بلا حراك.
ومضت في ذهني لحظة لقبي: “الزعيمة الشريرة”.
ومعها صورة الرف الفاخر في مكتب رينوس، حيث كنتُ أرى كتبي الحمراء الثمينة مصطفّة بكلّ عناية… تتراقص أمام عيني.
شعرتُ بعارٍ لا يُحتمل، حتى إنّ الدموع تدفّقت من مقلتيّ.
“ما الذي يجب أن أفعله…؟”
ورغم أنّه حاول مواساتي، ازدادت مشاعري سوءًا، وارتسم الارتباك على وجهه.
ثم، بصوتٍ أكثر حنانًا من أيّ وقتٍ مضى، قال:
“إن كان من الصعب عليكِ رفض جلالته بنفسكِ، يمكنني فعل ذلك بالنيابة عنكِ. وأعدكِ أنني لن أدع أيّ ضرر يُصيبكِ.”
“صاحب السمو…”
كتمتُ رغبتي في البكاء، وأطبقتُ على أسناني بقوّة. ثم سألته بصوتٍ مرتجف:
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 120"