الفصل 5 :
“وماذا لو لم أوظفكِ؟”
سألَت وهي تحمل في صوتها شيئًا من الفضول، فتردّدت دانيال قليلًا، ثمّ قالت بصوتٍ خافت:
“أربعون قطعةً ذهبية.”
رغم أنّها ضاعفت السعر تمامًا، لم يكن مبلغًا لا يُمكن دفعه.
ففي الأصل، العشرون قطعة ذهبية كانت رقمًا غير منطقيٍّ إلى حدٍّ بعيد.
سارت الأمور بسلاسة أكثر ممّا توقّعت، وحين حسمتُ قراري، ارتخى جسدي من التوتّر.
“لنوقّع العقد مباشرة على عشرين قطعة ذهبية.”
“…نعم؟ هل هذا يعني أنكم ستقومون بتوظيفنا؟”
اتّسعت عينا دانيال دهشة.
لم تكن تتوقّع، ولا أنا كنت أتوقّع، أن ينتهي الأمر بهذه السرعة، لكن من جهتي لم يكن هناك ما يستدعي مزيدًا من التفكير.
فمن البداية، لم يكن من المنطقي أن أستحوذ على دار النشر فقط من دون توظيف من يديرها.
وفي كل الأحوال، سواء كانت دانيال أو غيرها، كنتُ سأضطر إلى توظيف شخصٍ ما.
‘وهما شخصان فقط على أيّ حال.’
بسبب قلة العدد، كان القرار سهلًا نسبيًّا. وإذا لم تَسِر الأمور على ما يُرام، يمكنني طردهما لاحقًا ومنحهما العشرين قطعة.
“إن لم تكن هناك شروطٌ أخرى، فلنوقّع العقد؟”
“ن-نعم.”
أرسلت إشارة بعيني إلى كلوي التي كانت تنتظر في الخلف، فتقدّمت إلى الأمام.
<عقد شراءٍ رسميّ معتمد من الإمبراطورية>
رغم أنّه بدا كقطعة ورقٍ عاديّة، إلا أنّه أطلق وهجًا خافتًا كما لو أنّه مغلّف بالسحر، وُضِعَ العقد على الطاولة.
راجعتُ البنود الخاصة بدقّة، ودوّنت فيها كلّ ما ذكرته سابقًا، ثمّ نظرت دانيال إلى العقد وكأنّها تُحدّق فيه بذهول.
“يُمكنكما وضع إصبع السبّابة هنا إذا كنتما موافقين على الشروط.”
“…هل هذا يعني أنَّ العقد قد اكتمل؟”
“نعم، دار النشر أصبحت ملكًا الآن للآنسة كاترينا، وغدًا سيتم الانتهاء من الإجراءات الإدارية.”
رغم أنّني لم أنطق بشيء، إلّا أنَّ بصمتي طُبِعَت على العقد كما لو كنتُ أفكّر بها فقط.
وبينما كنتُ أُراقب وجه دانيال المذهول وهي تستمع إلى شرح كلوي، بدأتُ أراجع خطوةً بخطوة كلّ ما خطّطتُ له مسبقًا.
وبما أنّنا وصلنا إلى هذه المرحلة، بدا من الأفضل أن أنهي كل شيءٍ اليوم دفعةً واحدة.
“أولًا، سأقوم بتغيير اسم دار النشر.”
‘الأحجار الكريمة اللامعة والقلم’ لم يكن اسمًا واضحًا، وبدت عليه لمسةٌ من القروية مقارنةً بأسماء مثل بريين أو ريو.
عندما سمعت دانيال كلامي، انتفضت ثمّ أومأت برأسها بقوّة.
“…نعم! بالطبع يمكنكِ تغييره كما تشائين.”
واستلهمتُ الاسم من الأحجار الكريمة اللامعة، واخترتُ اسم جوهرتي المُفضّلة.
“إذن، سأُسمّيها ’سافاير‘.”
“سأتوجّه غدًا إلى الإدارة لتسجيل الاسم الجديد، وسأنزل اللافتة فورًا!”
“سأمنحكما عشر قطعٍ ذهبية كمبلغٍ استثمار أوّلي بدلًا من مبلغ الشراء، فخذاها معكما.”
الطريقة التي أخرجت بها دفتر ملاحظاتها بسرعة وبدأت تسجّل كل شيء بدقّة، منحتني انطباعًا بالثقة.
فهي تختلف تمامًا عن موظّفي دور النشر الّذين التقيتُهم من قبل.
أرسلتُ إشارة أخرى إلى كلوي، فجلبت المخطوطة الّتي كانت تحملها منذ قليل، ووضعتها أمام دانيال بلُطف.
“وهذه هي مخطوطة الكتاب الذي سأنشره، اطّلعي عليه لاحقًا.”
“شكرًا جزيلًا! أعدكِ أنّي لن أُضيّعه أبدًا.”
أخذت الظرف بسرعة وعانقته كما لو كان شيئًا ثمينًا للغاية، وذلك مشهدٌ لم أره بهذه الدرجة سوى من كلوي.
دون أن أشعر، ابتسمت.
“سأمرّ بعد يومين إلى دار النشر للاطلاع، لذا يُمكنكِ الانصراف اليوم.”
وحين ابتسمت دانيال ابتسامةً مشرقة، وكأنَّ التوتّر قد زال عنها أخيرًا، وقفتُ من مكاني.
‘سنلتقي كثيرًا من الآن فصاعدًا.’
رغم أنَّ صفقة الشراء انتهت بسلاسة، إلا أنَّ ما سيأتي بعد الآن هو البداية الحقيقيّة.
***
فقط لا ترتكبي أيَّ خطأ.
ظلت دانيال تُردّد تلك الجملة في رأسها طوال اليوم.
حتى أثناء انتظارها في غرفة الضيوف، حاولت الحفاظ على هدوئها، لكن كلّ تلك الجهود تبخّرت لحظةً ظهرت كاترينا أمامها.
‘ماذا كنتُ أنوي قوله…’
يقولون إنَّ المرء ينسى ما ينوي فعله إذا رأى شخصًا جميلًا.
حين رأت تلك السيّدة النبيلة بجمالها الآسر وشخصيّتها الأنيقة، شعرَت دانيال بالصدمة وكأنّها لن تستطيع الإفلات منها.
وبالمقارنة، كانت ملابسها رثّة للغاية، فهي لم تشترِ ملابس جديدة منذ سنوات.
رغم أنّها كانت قد حضّرت الكثير من الكلام مسبقًا، إلا أنَّ ما استطاعت قوله لم يُمثّل حتى نصف ما خطّطت له.
“ولكن… لماذا لا أستفيق من هذا الحلم؟”
رغم قرصها لساقها مرارًا، ظلّ الألم يتكرّر.
‘لم أقل كلّ ما أردت قوله.’
الآن لديها مالٌ كافٍ لسداد الديون ومتابعة الحياة، وتمكّنت من الاستمرار في تشغيل دار النشر.
كادت أن تتخلّى عن حلمها دون أن تنشر كتابًا واحدًا، لكنّها الآن تملك فرصةً لتحقيقه.
إنّها المخطوطة التي طالما حلمتُ بها.
وبينما كانت تُغادر القصر، شعرت بوزن الظرف في حضنها، وتأكدت مرّةً أخرى أنَّ هذا واقع، لا حُلم.
‘يجب أن أخبر غريك حالًا.’
إنّه موظّفها الوحيد، وشقيقها الأصغر بفارق عامين.
لابدّ أنّه كان ينتظرها بقلقٍ شديد.
وبينما كانت تُسرع في خطواتها نحو البيت، وصلت أخيرًا إلى المنزل.
طق، طق—
“لماذا تأخّرتِ هكذا.”
فتح غريك الباب على الفور ما إن طرقتْه، واستقبلها.
“كنتَ تنتظرني؟”
“ادخلي أوّلًا، أعددتُ الحساء، تعالي وتناولي الطعام.”
في الواقع، لم تكن دانيال قد أكلت شيئًا منذ الصباح سوى كوب الشاي الذي قُدّم لها في القصر.
وبينما كانت تشعر بالجوع، وضعت الظرف بعناية على الأريكة، وأخرجت عقد العمل من داخله وأرَتْه لغريك.
“تادا! لقد تمّ توظيفنا رسميًّا. لا مزيد من القلق بشأن الجوع!”
رغم أنّهما كانا قد اتّفقا مسبقًا على التفاصيل، لم تستطع النوم الليلة الماضية من شدّة القلق.
ورفعت العقد بصوتها البهيج تُريه إيّاه وهي تراقب ردّ فعله.
“أحسنتِ، هيا نأكل.”
رغم أنَّ ردّه لم يكن كما تمنّت.
نظرت دانيال إلى وجه أخيها المتجهّم وتوجّهت إلى المائدة، بينما أعاد غريك تسخين القدر.
“…أعددتَه جيدًا. لذيذ.”
حساءٌ لا يحتوي إلّا على بعض الخضار، وأقلّ طعمًا من الشاي الذي شربته في القصر.
لكنّه كان طعمًا مألوفًا جدًّا لأخٍ وأخت عاشا بالكاد طوال الأشهر الماضية.
‘لن أضطرّ إلى التنازل عن دار النشر لغوردن بعد الآن.’
فقد استخدمت العشرين قطعة ذهبية التي حصلت عليها لسداد ديونها بالكامل.
ورغم أنّها كانت صفقةً بخسة، إلا أنَّ الحفاظ على دار نشرٍ استمرّت لعامين كان أمرًا له معنى كبير.
خاصةً وأنّها الآن ستحصل على دخلٍ ثابت دون نفقاتٍ إضافية.
“أعطني المزيد.”
تناولت دانيال عدّة أطباق من الحساء حتى شبعت.
وبدون أن يتكلّما، أنهيا الحساء الموجود في القدر بالكامل.
“والآن، اشرحي لي كلّ شيء.”
بكلام غريك، بدأت دانيال تحكي بتفصيل منذ دخولها القصر وحتى مغادرتها.
“…إذًا هذا هو سبب وجهك الغبي.”
“هل تنعتني بالغبية وأنا أختك الكبيرة؟!”
رغم أنَّ غريك وجد في قصّتها بعض المشاعر غير الضرورية، إلا أنَّ كاترينا بدت له مختلفةً عن سائر النبلاء.
فمن النادر، بل من النادر جدًّا، أن يخاطب نبيلٌ شخصًا من العامة دون تكبّر.
“لم أرَ من قبل شخصًا أبيض كالكعك، كما لو أنَّ حاكم شكّلها بيديه.”
وبينما تواصل دانيال المبالغة، بدأت نظرات غريك تضيق.
“إذًا، استلمتِ المخطوطة بالفعل؟”
“آه، صحيح!”
نهضت فجأةً وأحضرت الظرف الذي وضعته فوق الأريكة بعناية.
“لم أقرأه بعد.”
كان أول مخطوطةٍ تتسلّمه منذ عامين من تشغيل دار النشر، فأخرجته بحماسٍ بالغ.
كانت الصفحة الأولى تحتوي فقط على العنوان واسم المؤلّف.
“حفلةٌ التنكّر؟”
“…يبدو أنّها رواية. و’كارما‘؟ أليس اسم الكاتبة كاترينا؟”
رغم أنّهما لم يقرآ المضمون بعد، تبادل الأخوان نظرةً مليئة بخيبة الأمل.
فغالبًا ما تكون كتب النبلاء، إن نُشرت بأسمائهم، كتب فلسفة أو ثقافة، وأكثرها مبيعًا هو كتب الفلسفة.
ابتلعت دانيال ريقها وقلبت الصفحة الأولى.
سسس…
كان صوت تقليب الورق يتردّد في البيت الذي غمره السكون.
بدأت دانيال بالقراءة، ثمّ سلّمت الورقة لغريك ليقرأها بعدها.
بهذه الطريقة، قرآ الرواية معًا، صفحةً تلو أخرى.
وكلّما مرّت الصفحات، أصبحا أكثر تركيزًا وغرقًا في القصّة.
「”أليس الجوّ خانقًا هنا بسبب الزحام؟”」
حين رأت روز إدون وتحدّثت إليه.
「”هل تثق بي…؟ تعالَ معي، أعدك أنَّ ما ستراه سيكون أكثر متعةً من هذا المكان.”」
بُنيَت المشاهد بانسيابيّة، ومع الحوارات القصيرة والوصف البسيط، انغمس الاثنان في تخيّل الأحداث بسهولة، وكلّما اقتربا من النهاية، تناقصت سماكة الأوراق بسرعة.
“تابعي القراءة.”
وحين بدأت دانيال تُعيد قراءة الفقرات من شدّة استمتاعها، حثّها غريك على المتابعة.
‘إنّها رواية، لا شكّ في ذلك.’
لكنّها من نوعٍ لم يسبق أن قرآه من قبل، فبقيا مستيقظين طوال الليل يُعيدان قراءتها مرارًا.
“سأذهب غدًا إلى الإدارة لتسجيل الاسم الجديد وإزالة اللافتة القديمة. آه، ويجب أن أطلب صنع لافتةٍ جديدة أيضًا.”
وعندما تأكّدا من بزوغ الصباح، خرج كلٌّ منهما من المنزل بدلًا من النوم.
“وسأتوجّه أنا إلى مكتب تسجيل الملكية الفكريّة لتسجيل الرواية.”
وغدًا ستزور كاترينا دار النشر.
تحرّك دانيال وغريك بنشاطٍ كبير، وجمعا المعلومات من مطابع ومراكز سحرية وغيرها من المتطلبات.
“علينا أن ننشر هذه الرواية بأيِّ ثمن.”
“سيتفاعل معها العامّة والنبلاء على حدٍّ سواء.”
ورغم أنّهما لم يناما، بدت وجهيهما مشرقتين.
وفي صباح يوم زيارة كاترينا، أُزيلت اللافتة القديمة <الأحجار الكريمة اللامعة والقلم>، ورفعت مكانها لافتةٌ جديدة تحمل اسم <سافاير>.
وأثناء مشاهدة ذلك المشهد، لم تشعر دانيال بالأسى، بل غمرها شعورٌ بالحماسة والامتلاء.
لم يحدث من قبل أن رأت مستقبلًا بهذه الوضوح والسطوع في حياتها.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 5"