الفصل 4 :
كان أليكسيس، رئيس عائلة بلاين النبيلة، يُنجز أوراقه كالمعتاد دون أن يختلف الأمر عن أيِّ يومٍ آخر.
يومٌ عاديٌّ للغاية.
ففي بعض الأحيان، تحدث تغييراتٌ طفيفة تجعل اليوم مختلفًا، لكنّ هذا كان نادرًا جدًّا.
“أعتذر على مجيئي المفاجئ.”
مثلًا، أن تأتي ابنته فجأةً إلى مكتبه.
بمجرّد جلوس كاترينا على الأريكة الكئيبة، تغيّر جوّ المكتب كلّيًا.
ورغم أنَّ زيارتها لم تكن مُعلَنة، فإنَّ أليكسيس لم يجد صعوبة في توقّع سببها.
فلقد بدا واضحًا من نظراتها المليئة بالاستياء ما كانت تُخفيه داخلها.
‘توقّعتُ هذا من أولئك المتكبّرين في العاصمة.’
تنهّد وهو يتذكّر دور النّشر الّتي كان من المفترض أن يزوروها اليوم.
“……لذا أريد دار نشرٍ غير بريين وريو.”
كان صوت كاترينا، وهي تشرح ما جرى، يحمل نبرة حزنٍ خفيفة.
تجعّد جبين أليكسيس وهو يحاول استحضار خياراتٍ بديلة، لكن لم يخطر بباله شيء مناسب.
فكلٌّ من بريين وريو اختارهما بعنايةٍ من بين معلوماتٍ وصلته من نقابة المعلومات مقابل مبلغٍ كبير.
وبعد لحظة من التّفكير، قال بصوتٍ هادئ:
“اذكري لي شروطك بالتّحديد لنرى ما يمكن فعله.”
حينها لمعت عينا كاترينا فجأةً، وبدأت تُعدّد شروطها بحماسةٍ دون أيِّ تردّد، مِما جعله يبتسم بسخرية.
“أتمنّى أن تكون دار النّشر شغوفةً بالكتب، وأن توافق على كلّ شروطي بالكامل… لا بأس إن كانت صغيرة الحجم.”
تريد دار نشرٍ يمكنها التحكّم بها كما يحلو لها.
قد يبدو طلبها معقّدًا، لكنّ الأهمّ في كلامها كان الجملة الأخيرة.
“ولو كانت دار نشرٍ صغيرة لم تنشر أيَّ كتاب حتّى الآن؟”
“نعم. على أيِّ حال، سأجعلهم مشهورين بالكتاب الذي سأكتبه.”
عندها مال أليكسيس إلى الأمام بعدما كان متكئًا إلى الوراء، متأمّلًا وجهها الخالي تمامًا من التردّد.
‘عادةً ما تُفكّر بجرأةٍ كهذه قبل أن تُحدث مشكلةً كبيرة.’
وأمام هذا الإصرار، اقترح أليكسيس طريقةً جديدة:
“ما دُمتِ مصمّمة، فإنَّ أسرع طريقةٍ لتحقيق هذه الشّروط هي أن تشتري دار نشرٍ صغيرة بنفسك. بالطّبع ستكون شركة غير منظّمةٍ لم تُصدر أيَّ كتاب.”
ومع ذلك، هل ستُقدمين على هذه الخطوة؟
إدارة دار نشرٍ ليست ككتابة كتاب. فهما عالمان مختلفان.
وكان ينوي التّراجع عن اقتراحه إن لاحظ أيَّ تردّد، لكن كاترينا لم تُظهر أيّ تزعزع، بل قالت فورًا:
“موافقَة، سأستثمر كلّ ما ادّخرتُه من مالٍ لشراء واحدة… لذا أرجوك، ابحث لي مرّةً أخرى.”
لا عجب، فهي ابنتي حقًّا.
بدلًا من أن تتراجع، أظهرت عزيمةً أكبر.
لمعَت عيناها القرمزيّتان، المشابهتان تمامًا لعينيه، ممّا جعله يشعر بالرضى.
وقد شعر كذلك بإرادتها القويّة وحماسها المتدفّق.
“سأُرسل لك المستندات الضّروريّة عبر مساعدي.”
“شكرًا لك، أبي!”
عند سماعه تلك الكلمة بعد زمنٍ طويل، ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ خفيفة.
“لا تربطي كلّ شيءٍ بالنّتائج، بل ركّزي على ما تكتسبينه من التّجربة. دائمًا هناك ما يُمكن تعلّمه.”
“نعم!”
“ولا تتصرّفي بدافع العاطفة، فذلك يُظهِر ضعفكِ.”
“سأنتبه لذلك لاحقًا.”
رغم أنَّ الحديث قد انتهى، لم يستطع كبح رغبته كأبٍ في تقديم النّصح، وكاترينا استمعت إليه بإصغاء.
“ومتى ستُريني ما كتبته؟”
“……ما يزال غير مكتمل، لاحقًا، حين أنتهي منه تمامًا، سأُريه لك. شكرًا لك، أبي!”
تفاجأت كاترينا بسؤاله المفاجئ، وأخذت تُحرّك عينيها بتوتّر، ثمّ نهضت مسرعةً وغادرت المكتب على عجل.
بينما جلس أليكسيس يتأمّل ظهرها وهي تبتعد، تنهّد بصوتٍ منخفض.
‘يا إلهي، لا أعلم مَن تشبه بالضّبط.’
رغم أنّهم ربّوها كفتاةٍ تنتمي إلى أسرةٍ ذات فروسية صارمة، بعيدة عن التّرف، إلّا أنّها مع تقدّم السّن بدأت تُصبح أكثر تهوّرًا.
ابنةٌ جميلةٌ لا يُمَلّ منها أبدًا.
كانت تُفاجئه أحيانًا بأفكارٍ جديدة، تُظهر نبوغها وتُقدّم له العون.
لكنّ كلّ ما تقوم به الآن من كتابة كتب وشراء دار نشر، لم يكن إلّا محاولاتٍ للهروب من زواجٍ مدبّر مع أسرة الكونت.
هل تكره الزّواج إلى هذه الدّرجة؟ أليكسيس لم يفهم السبب تمامًا.
“جيمس، قدّم طلبًا جديدًا إلى نقابة المعلومات، من المستوى المتوسّط.”
ثمّ سلّم طلبًا جديدًا مكتوبًا بناءً على رغبة كاترينا إلى مساعده.
ربّما تكون هذه آخر مرّةٍ يدعم فيها كاترينا.
تذكّر محتوى الرسالة الّتي أرسلها مؤخرًا إلى عائلة الكونت، فتلبّدت ملامحه.
فمصاريفهم في العاصمة ازدادت كثيرًا بسبب استعدادها لاختبار دخول أكاديميّة كالّاد.
‘لا أحد يغلب ابنه، كما يقولون.’
كلّ ما تَمَنّاه الآن أن يتحقّق لابنته مجدٌ من نجاحها، لا من زواجها.
والحقيقة أنّه لم يُعجبه أبدًا كيف حاول كونت ليونارد أن يسرق ابنته الغالية قبل أوانها.
“أتساءل عن نوع الكتاب الذي ستكتبه.”
المفارقة أنّه لم يشعر بالقلق، بل بالحماسة.
فأليكسيس أيضًا من أولئك الآباء الّذين يؤمنون تمامًا بعبقرية أبنائهم.
حتى بعد مغادرة كاترينا، ظلّت على وجهه تلك الابتسامة الصغيرة التي لا سبب لها.
***
“هل وصلَ بالفعل؟”
كانت تُطالع الجرائد اليوميّة كعادتها، ثمّ أعادت طيّها.
فقد تلقّت لتوّها خبرًا بأنَّ مدير دار النشر الّذي كان من المفترض أن تلتقي به اليوم، قد وصل قبل الموعد بخمس ساعاتٍ كاملة.
“نعم، وصل قبل قليل وتمّت مرافقته إلى غرفة الضّيافة.”
هل هذا أمرٌ جيّد أم سيّئ؟
من جهة، قد يكون علامةً على الاجتهاد، لكنّ هذا مبالغ فيه.
بعد تفكيرٍ قصير، وضعت الصحيفة جانبًا وقالت وهي تنظر إلى كلوي:
“حسنًا، لنبدأ التّحضيرات الآن.”
حيث إنَّ التّحضير سيستغرق ساعتين على الأقل.
بدأت بالتّحضير الدّقيق دون تخطّي أيّ مرحلة.
واختارت فستانًا ومجوهراتٍ أكثر دقّة من المرّة الماضية، لتبدو واثقةً وقويّة.
‘أكره الأشياء المُزعجة كهذه.’
لكن كلوي والخادمات بدأن يُثرثرن بسعادةٍ وهنّ يُزيّنَّها في هذه الفرصة النّادرة.
“يا ليتكِ خرجتِ هكذا في نزهة، من المُؤسف أن تبقي في القصر اليوم.”
“لا أحد في الإمبراطوريّة يفوق جمال آنستنا.”
تجاهلت مبالغاتهم الصّاخبة ونظرت في المرآة.
‘لا بأس.’
شعرها الأحمر المتوارَث من عائلتها، المُنسدل حتى خصرها، انسجم تمامًا مع زينة الشعر المُبهرة.
بدت كنُبيلةٍ لا يُستهان بها أبدًا.
“هل ستذهبين إلى غرفة الضّيافة مباشرةً؟”
لا يزال أمام الموعد ساعتان، لكنها لم تُبالِ.
“نعم. من الأفضل أن ننتهي سريعًا.”
بينما كانت كلوي تجهّز المخطوطات والأغراض، ألقت كاترينا نظرةً أخرى على ورقة المعلومات.
“الأحجار اللّامعة والقلم.”
دار نشرٍ صغيرة يديرها شخصان، تقع في طرف منطقة التّجارة.
لم تنشر أيَّ كتابٍ حتى الآن، وكانت تعمل كأنّها متجرٌ للكتب فقط منذ عامين.
وبعد أن أنهت التّحضيرات، وصلت سريعًا إلى باب غرفة الضّيافة.
“افتح الباب.”
“نعم، آنستي.”
وما إن فُتح الباب، حتّى نهض من في الداخل واقفًا.
“إنّه لشرفٌ عظيمٌ مقابلتكِ يا آنسة بلاين! اسمي دا… دانيال!”
رغم أنّها كانت تعرف الاسم والعمر مسبقًا من خلال الأوراق.
فإنَّ الصوت العالي المفاجئ ونظرة العيون المباشرة جعلتها تتجمّد للحظة.
‘ظننتُ دانيال رجلًا…’
لكنّها فتاة؟
شعرٌ مربوطٌ للأعلى، ملابسٌ مرتّبة، ونمشٌ يزيّن خدّيها.
بدت أصغر من عمرها الّذي قُدّر في أواخر العشرينات، مما فاجأ كاترينا قليلًا، لكنّها سرعان ما تماسكت.
“شكرًا على قدومكِ من بعيد. أنا كاترينا بلاين، الابنة الثّانية لأسرة بلاين النبيلة.”
رغم أنَّ هدف الاجتماع كان شراء دار النّشر، فقد شعرت بإحساسٍ مُبشّر منذ البداية.
وبعد تبادل بعض الأحاديث الخفيفة، دخلت في صُلب الموضوع:
“هل لديكِ شروطٌ محدّدة حول عمليّة شراء دار النّشر؟”
وكأنّها كانت تتوقّع هذا السّؤال.
كاترينا لاحظت توتّر دانيال، بينما بقيت هي في قمّة هدوئها.
“سمعتُ أنّكِ ستنشرين كتابكِ الخاصّ، هل هذا صحيح؟”
“نعم، صحيح.”
لم يكن هناك ما يستدعي الإخفاء.
‘كنتُ أتوقّع نقاشًا حادًّا حول السّعر،’
لكنّ الارتباك الّذي بدا في نظراتها لا يمكن تمثيله.
“……رغم أنّنا شخصان فقط، إلّا أنّنا سنبذل قصارى جهدنا لمساعدتكِ. وإذا قبلتِ بتوظيفنا بعد الشراء، فسأكتفي بمبلغ 20 قطعة ذهبيّة كثمنٍ للشراء.”
لكن… هذا مبالغٌ فيه!
فهي توقّعت سعرًا لا يقلّ عن 40 قطعة ذهبيّة، فكيف تُعرض عليها النّصف؟
‘من أين خرجت هذه النّعجة الطيّبة؟’
كانت ملامح دانيال المتحمّسة، مع قبضتيها المشدودتين، تُظهرُ صدقًا واحتياجًا حقيقيًّا.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 4"