الفصل 35 :
انتهى مهرجان المجهولين، وعدتُ إلى القصر وقد استُنزفت قواي كلّها.
خلافًا لي، التي قصدتُ غرفتي مباشرة، كان كالاد يُستدعى على الفور إلى ألكسيس، لكنّي لم أُلقِ لذلك بالًا.
فقد كنتُ عازمةً على أن لا أُحرِّك قدمي خطوةً واحدة بعد الآن، وأن أستريح فقط.
بعد أن اغتسلتُ بخفّة، وبدّلتُ ثيابي، جلستُ لأستريح قليلًا، ثم ذهبتُ في الوقت المحدّد إلى مائدة العشاء.
“……لِمَ هناك إعدادٌ لمقعدين فقط؟”
“الثلاث الآخرون يشاركون الليلةَ في حفلةٍ، وسيتأخرون، هكذا علمتُ.”
إذن لم يبقَ سواي وكايلو.
‘كان عليّ أن أطلب الطعام إلى غرفتي.’
لقد نسيتُ أنّ العائلة ستحضر الحفل، فنزلتُ بلا تفكير.
لكن كان الأوان قد فات للعودة، وجلستُ في أحد المقعدين، وما هي إلّا لحظاتٌ حتّى ظهر كايلو.
“كَهُم، يبدو أنّ الجميع قد ذهبوا مرّةً أخرى.”
“أنا لم أذهب لأنّي لم أُقدَّم رسميًّا بعد، لكنّهم جميعًا حضروا الحفل.”
شدَّ نظري وجهُه الذي بدا أنحف من قبل، ولحيته التي نمت أكثر.
‘لابدّ أنّه عانى بسبب الزكام.’
فكّرتُ أنّ عليّ شراء دواءٍ له لاحقًا من برج السّحر، ثم بدأتُ أتناول الأطباق التي وُضِعت أمامي.
“…….”
“…….”
عادةً ما أفضّل عدم الحديث أثناء الأكل، لكنّ هذا الصمت الغريب كان لا يُطاق.
“هل صحّتُكَ بخير الآن؟”
“لقد شُفيتُ تمامًا. سمعتُ أنّكِ ذهبتِ مع كالاد إلى مهرجان المجهولين اليوم، كيف كان؟”
أجابني كما لو أنّه كان ينتظر السؤال، وبادر بالحديث بسلاسة.
“كانت الحركات سريعةً جدًّا فلم أستطع رؤية الكثير، لكنّه كان مشهدًا ممتعًا.”
لقد انطبعَت في ذهني بوضوح صورة سيـدريك، أصغر أبناء دوق كيلبرت.
“حقًّا، أمثالُكِ يستفيدون من مثل هذه الأماكن. كلّ المعارك التي تظهر في (فرسان السّماء) من تأليفكِ، صحيح؟”
“نعم، صحيح. تنقصها التّفاصيل الفنّيّة، لكن ما دام القارئ يستطيع أن يتخيّل الموقف في ذهنه، فذلك يكفي.”
أومأتُ وأنا أقطع قطعةً من شريحة اللّحم وأضعها في فمي.
كنتُ أخشى أن يُسبّب لي العشاء اضطرابًا في معدتي بما أنّها المرّة الأولى التي نتناول فيها الطعام معًا وحدنا، لكنّ الإرهاق الشديد جعل الأكل يدخل بسهولة.
“لم أشعر يومًا أنّ كتاباتكِ ناقصة.”
“……كح.”
“هاه، خذي قليلًا من الماء.”
لم أكن مُحصَّنةً ضدّ كلماتٍ كهذه، فاختنقتُ لحظة.
ناولني الماء بسرعة، ورسم ابتسامةً مازحة على فمه.
“يبدو أنّكِ تخجلين من مثل هذا الثناء.”
كان كلامه صائبًا تمامًا.
وبينما كنتُ أسعل قليلًا، أنهى طعامه، ثم عاد للحديث بصوتٍ هادئ.
“الفارس المسمّى تارفان في كتابكِ، يُشبه كثيرًا أحد الذين عرفتُهم.”
تذكّر شخصيةً من الجزء الثاني من (فرسان السّماء)، وضحك لنفسه.
“ليس كلّ فارسٍ نزيهًا كما يُخيَّل. كان ذاك الرجل يُحبّ الشراب إلى حدٍّ كبير، ومع ذلك لا يسكر. وأحسب أنّ كلّ ماله أنفقه على الكؤوس.”
استمعتُ إليه بهدوء، ثم أومأتُ وأنا أضع بعض السلطة في فمي.
“وكان يتعرّض لمضايقاتٍ خاصّة من الآخرين، لأنّ الرجل المتميّز يُثير دائمًا غيرةَ من حوله، فيحاولون إسقاطه.”
‘هذا محتوى جيّدٌ فعلًا.’
كان يتحدّث عن فارسٍ يشبه تارفان، لكنّ قصصه كانت تصلح كـ مادّة غنيّة أستعين بها.
“……وهل هناك شخصيّاتٌ أخرى؟ أشخاص مميّزون تتذكّرهم؟”
“لقد تعلّمتُ في الأصل في فرسان كيلبرت. أذكرُ كلّ أولئك، من ذوي الطّباع الفاسدة إلى من انسحبوا في منتصف الطّريق.”
‘قصص عن انسحابٍ من الفرسان؟! هذا لا يُفوَّت.’
فجأةً وجدتُ نفسي أكثر اهتمامًا بالاستماع من الأكل.
“أكان أكثر من يُخيفكم هو القائد العام للفرسان؟”
“التقيتُه مرّةً واحدةً فقط، لكن كان واضحًا أنّه يختلف عن سائر الرجال. لم يكن مخيفًا بقدر ما كنتُ أتساءل عن مدى قوّته.”
لقد عاش طويلًا، فامتلأت حياته بالتّجارب والقصص.
وكان يُجيب على أسئلتي بذكاء، ويضيف إليها حكاياتٍ جانبيّةً مرتبطة، فلا يترك مجالًا للملل.
بقينا على المائدة نتحدّث طويلًا، حتّى بعد تقديم الحلوى.
“هل يمكنني أن أستعين بما رويته لي في كتابة (فرسان السّماء)؟”
“بالطّبع.”
ثمّ ابتسم بهدوء وأضاف:
“إن احتجتِ إلى قصصي مرّةً أخرى، تعالي متى شئتِ. أن أذوب في ما تكتبينَه، فذلك شرفٌ لي.”
خلافًا لأولاده، الذين لا يُجيدون التّعبير، لم يتردّد هو في إظهار مشاعره والتّصرّف بخفّة دم.
“سأفعل ذلك.”
على عكس الماضي، حيث كنتُ أتجنّبه وأُقلِّل الحديث معه، شعرتُ هذه المرّة أنّني قادرةٌ على التّقرّب منه بارتياح.
“لكن الآن عليّ أن أكتب (الحفل التنكري) الجزء الثالث، لذا لن آتي قريبًا. فلا تنتظرني طويلًا.”
“هاه، أكان ذلك ظاهرًا على وجهي؟ كم هذا مُحزن. فأنا واثق أنّ (فرسان السّماء) الجزء الثالث سيكون أكثر إثارةً.”
نظر إليّ بملامح متحسّرة وهو يعضّ على شفته، فضحكتُ دون قصد.
وهكذا انقضت ليلة المهرجان.
***
“يا سيّدتي، تزدادين جمالًا في كلّ مرّة أراكِ فيها.”
كانت دانيال قد زارت القصر بعد طول غياب، وما إن رآتني حتّى قالت بوجهٍ جادّ.
مع أنّ هيئتي الآن أقلّ بهاءً من ذي قبل، إلّا أنّ الغرام أعماها تمامًا.
ابتسمتُ بخفّة، ثم أجبتُها بصدق:
“وأنتِ أيضًا تبدين أفضل من قبل.”
“آه! هذه الثياب اشتريتها بالأمس…… هل لاحظتِ ذلك؟ كنتُ مشغولةً عن التّسوّق رغم توفّر المال، فاشتريتُها على عجل، من الجيد أنّها أعجبتكِ!”
لم أقصد ثيابه بالتّحديد، لكن بما أنّها فرحت بذلك، فلم أُصحِّح الأمر.
وكانت ثيابها النّظيفة المرتّبة من الأمور التي تحسّنت عندها فعلًا.
ثم أخرجت دانيال من حقيبتها كومةً من الأوراق المرتّبة.
“هذه تقارير عن وضع كلّ عمل، كما دوّنتُ آراءَ الزّائرين أمام دار النّشر.”
كانت تأسف لأنّي لم أتمكّن من رؤية أولئك بنفسي، لكنّها سرعان ما غيّرت تعابيرها، وأخرجت ظرفًا.
“تأكّدنا نحن أكثر من مرّة، لكن هذا تقريرٌ من البرج العاشر، فيه أعداد المبيعات والإيرادات.”
فتحته وأخرجتُ الأوراق لأتأكّد بنفسي.
واحد، عشرة، مئة، ألف، عشرة آلاف، مئة ألف…… مليون……؟
“أليس في هذا خطأ؟”
مع أنّ الأرقام مفصّلة بين المجلّد الأوّل والثاني، إلّا أنّ الوحدات لم تُصدّق.
ابتسمت دانيال ابتسامةً وديعة وقالت:
“للعلم، (فرسان السّماء) بيعت في الشّمال خمس مئة ألف نسخة في خمسة أيّام.”
“خمسون ألفًا، أم خمس مئة ألف؟!”
أيُّ حملة دعائيّة فعلوها؟!
لم أسمع في الإمبراطوريّة كلّها عن كتابٍ باع هذه الأعداد.
وبينما ما زلتُ مذهولة، تابعت دانيال بابتسامتها نفسها:
“البرج العاشر يجيد عمله فعلًا. إنّهم أقسى ممّا تظنّين.”
الفارس يُفني جسده في التّدريب، والسّاحر يُفني جسده في البحث.
ويبدو أنّهم في توزيع الكتب قد أفنَوا أنفسهم كذلك، ففاقت مبيعاتهم ما باعته دار (سافاير) في العاصمة أضعافًا مضاعفة.
“لكن ماذا عن فعاليّة النُّسخ الموقّعة؟ إن اقتصرت على العاصمة، سيحدث اضطراب جديد.”
في أنحاء الإمبراطوريّة تُباع الكتب، وفرصة الحصول على نسخةٍ موقّعة شبه مستحيلة.
لهذا كنتُ قد أعددتُ نوعًا آخر تمامًا من الفعاليّات. فقد آن أوان إيقاف فعاليّة التّواقيع قليلًا.
كنتُ أطمح أصلًا إلى تجارة البضائع المرافقة (غودز)، لكنّ ثراءنا جاء أسرع مِمّا توقّعت بفضل البرج العاشر.
“بما أنّ حفلة التنكّر سينتهي عند الجزء الثالث، فقد أردتُ فعاليّةً مميّزةً له. ليست كالنسخ الموقّعة…….”
وبما أنّ الخاتمة ستُعلن هناك، من سيرتبط من الأبطال الثلاثة بالبطلة لم يُحسَم بعد.
“فماذا عن تصويتٍ شعبيٍّ بسيط؟”
كان حدثًا للتّعرّف إلى اختيار القرّاء المفضّل بينهم.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 35"