اقتربت آنسةٌ بخطواتٍ متردّدة نحو كالاد، وقد جمعت شجاعتها لتدعوه، فانتقل بصره نحوها تلقائيًّا.
تمامًا مثل المشهد الذي تقدّمت فيه روز أولًا بطلب الرّقص من رجل في رواية الحفل التنكري، فقد بدا أنّ الأمر يتكرّر هنا في القاعة، إذ لم يكن نادرًا أن تُبادر بعض السيّدات إلى الطّلب.
لكنّ عيشه لتلك اللّحظة بنفسه كان يمنحه شعورًا مختلفًا. لذلك قبِل كالاد الدعوة بسلاسة.
“لا بأس.”
فقد كان طوال الوقت يتجوّل هادئًا، يراقب النّاس فقط، ولم تكن لديه نيّةٌ مسبقة في أن يبدأ الرّقص مع أحد.
“هل تتركين لي القيادة في الرّقص براحة؟”
رغم أنّه قدّر شجاعة الفتاة التي اقتربت، إلّا أنّ جسدها بدا متوتّرًا ومشدودًا، مِما دفعه إلى أن يهمس إليها هادئًا.
“……ن، نعم.”
لم يلحظ أنّ أطراف أذنها قد احمرّت حرجًا، وعندما بدأ الرّقص، قادها هو بثقةٍ مألوفة.
فهو قد اعتاد التدريب مع كاترينا، والتي كانت غالبًا تتثاقل عمدًا أو تُلقي بجسدها كله عليه في النّهاية، مِما ساعده على تطوير مهاراته في الرّقص كثيرًا.
“منذ متى حضرتِ إلى الحفل؟”
“لـ… لـ… للتو. كان يجب أن آتي أبكر قليلًا، لكن…….”
“وأنا أيضًا هذه أوّل رقصةٍ لي الليلة، صدفةٌ غريبةٌ إذن.”
تمامًا كما اعتاد في الرّقص، بادر أحيانًا إلى فتح حديثٍ قصير، فاستجابت الفتاة بتردّد في البداية، لكن مع نهاية المقطوعة صارت تتكلّم دون أن تتلعثم، وكأنّها اكتسبت ثقةً صغيرة.
وبينما كان يستعدّ للابتعاد، سمع صوتها مجدّدًا يوقفه.
“هل تودّ أن تتجوّل معي قليلًا في الحديقة؟”
اخترق صوتها أذنه، ونظرت عيناه بعينَيها عبر الأقنعة.
كان في الجوّ شعورٌ مختلف عن البداية. شعر به كلاهما.
ثمّ بعد لحظةٍ قصيرة من الصّمت أجاب بابتسامةٍ متعمدة ذات نبرة دعابة.
“……لِمَ لا.”
فانفرج وجه الفتاة عن ابتسامة عريضة وقد ارتاحت بوضوح، ثم وضعت يدها فوق يده التي مدّها إليها.
قادها بخطواتٍ واثقة نحو الحديقة، مارّين بين الحضور، لكن فجأة جذب انتباهه لمحةٌ من شعرٍ أحمر بعيد، فاستدار رأسه نحوها دون شعور.
“ه، هل نحن متّجهون إلى هناك فعلًا؟”
“……نعم، عذرًا. لقد سرح بصري للحظة. كنتُ أفكّر فقط إن كان علينا أن نرتشف شيئًا قبل الذهاب.”
“لا بأس، أو يمكننا أن نشرب بعد العودة من الحديقة!”
حينما انفرجت ملامحها مرّةً أخرى، تدارك نفسه سريعًا.
‘ربّما كاترينا أيضًا برفقة أحدٍ الآن.’
ولأنّ الحفل برعاية العائلة الإمبراطوريّة، لم يكن القلق على الأمن واردًا. لا بدّ أنّها تعرف كيف تميّز النّاس وتدبّر أمرها بنفسها.
ومع ذلك، ظلّت صورة كاترينا الأخيرة قبل مغادرتهما القصر عالقةً في ذهنه.
بشرتها البيضاء المائلة إلى الشّحوب، وشعرها الأحمر المتدفّق، ثمّ فستانها الأحمر الموشّى بالتّطريز الذّهبي والعقد الموشّى بالرّوبيّات، كلّها شكّلت صورةً صارخة تترسّخ في ذاكرته بقوّة.
إخفاء وجهها بالقناع لن يُثني الرجال عن التقرّب منها، بل ربّما يزيدهم فضولًا.
لقد كان واثقًا أنّها ستغدو محطّ طلبات رقصٍ لا تُحصى.
‘سأسألها لاحقًا كيف كان الأمر في “مهرجان الأسماء”.’
هكذا استسلم لفكرة أنّه وجد موضوعًا ممتعًا ليتندّر به لاحقًا، وتقدّم بخطى خفيفة نحو الحديقة.
ولم يكن ليتخيّل أنّ الحفل التنكري سيتجاوز توقّعاته هكذا.
***
‘هل بالغت كلوي في تجهيزاتي؟’
فمع أنّ وجهي مُغطّى بالقناع، ظلّ الرجال يتقاطرون عليّ بلا توقّف.
ولأنّه كان صعبًا أن أرفض الدعوات بشكلٍّ مباشر، انتهى بي الأمر إلى الرّقص نحو خمس مرّاتٍ تقريبًا.
وبعد أن أوشكت قواي على النّفاذ، تعلّمتُ كيف أعتذر وأتهرّب بلباقة. ثمّ، بدلًا من تكرار ذلك، آثرت أن أبحث عن زاويةٍ هادئة أقلّ ازدحامًا. لكن أينما ذهبت كان هناك بشر.
‘لماذا يختبئ الجميع وراء الأعمدة؟ أهذا مكانٌ شعبيّ لهذه الدرجة؟’
حتى صرت أفضّل طلبات الرّقص على أحاديثهم الطويلة التي لا تنتهي.
“أظنّ أنّ هذا يكفي لليوم.”
شققتُ طريقي وسط الجموع النّشيطة نحو المخرج.
‘ما زال هناك يومان آخران من الاحتفالات. ولأنّي رقصتُ خمس مرّاتٍ اليوم، فمن حقي أن أرتاح.’
وبالطّبع، لم يكن من خياراتي أن أستريح في العربة أو في قاعة الاستراحة، بل أردتُ راحةً حقيقية لا تتحقّق إلا في البيت.
اقتربتُ من أحد الخدم الواقفين عند الباب وطلبت أن يُحضَرَت العربة لتنتظرني، ثمّ ظللتُ قريبةً من المخرج.
“هل تنوين المغادرة؟”
ارتفع صوتٌ رجوليّ منخفض.
أدرتُ وجهي قليلًا لأرى عينين بنيّتين صافيتين تحدّقان بي من وراء قناع.
‘إنّه أوّل مَن رقصتُ معه.’
ومنذ ذلك الوقت لم أرَ بين الرجال من يضاهيهِ في الوسامة أو في الحضور.
“……نعم، أظنّ أنّ الوقت قد حان.”
بعد جوابي، انحنى الرجل قليلًا بتحيةٍ صامتة، ثمّ تجاوزني وخرج من القاعة مُباشرةً.
حتى انغلقت الأبواب بعده، ظللتُ أحدّق في ظهره، متسمّرةً في مكاني، إلى أن أيقظني الخادم معلنًا وصول العربة.
‘ما هذا؟’
لم يقل شيئًا إضافيًّا. لم يسأل، لم يُجامل، لم يحاول أن يطيل البقاء. مجرّد وداعٍ قصير ورحيل.
ربّما لأنّي طوال الحفل لم أرَ إلا رجالًا يحاولون بأيِّ وسيلةٍ إطالة الحديث.
حينها فقط تذكّرت أنّنا في رقصتنا لم نتبادل كلمةً واحدة تقريبًا.
***
“كيف كان الأمر، سيّدتي؟”
في العربة التي أعادتني بعد ساعات، استقبلتني كلوي بوجهٍ مضيء ونظراتُ متألّقة.
لكنّ جسدي المرهق، والذكريات المتعبة، لم يتركا لي سوى انطباعات مُرهِقة، رغم أنّ أوّل ما خطر ببالي كان صورة ذلك الرجل الأخير.
لم أذكره، ورحتُ ألخّص لها بعض ما جرى دون تفاصيل. عندها أبدت خيبة أمل صغيرة.
“إذن لم يظهر بعدُ شخصٌ يليق بدور البطل؟”
“……لا، لم يظهر.”
بدت لي غريبةً في بحثها عن ‘بطل’ كما لو كنّا نعيش رواية، لكنّي كنت متعبةً للغاية فلم أجادلها.
‘مع أنّني واثقةٌ أنّها لو سمعت عن ذلك الرجل، لاختارته فورًا كبطل.’
وما إن وصلت إلى القصر حتّى أسرعت بخلع كلّ الحُليّ والثّياب المرهقة، ثمّ دخلت الحمّام.
وقبل أن أذهب إلى السّرير عرفت أنّ أحدًا من أفراد العائلة، عدا كايلو، لم يعد بعد.
“يبدو أنّه يُعاني من الزكام، فقد كان يسعل كثيرًا.”
رفعت بصري إلى السّاعة، لكنّ الوقت كان قد تأخّر، ولا شكّ أنّه تناول دواءه بنفسه.
“لا توقظيني إلا لو قامت القيامة. غير ذلك، اتركيني أنام.”
كان الإرهاق قد بلغ ذروته، فتجاهلت جوعي واسترخيتُ على السّرير.
“أحلامًا سعيدة، آنستي.”
كانت آخر ما سمعت همسات كلوي وهي تُطفئ الأنوار، قبل أن أغرق في نوم عميق.
***
“من المفترض أن الإنسان ينمو بخوض التجارب.”
حين رأت كلوي أنّني اخترتُ ثوبًا آخر بدل الذي أُعِدَّ مسبقًا، شهقت بدهشة.
“ه، هذا ثوبٌ يوميّ عادي!”
“لكنّي لاحظتُ أمس أنّ كثيرين ارتدوا أزياء بسيطة.”
“لا يا سيّدتي! أنتِ تزدادين جمالًا بالفساتين الفاخرة. هذا الفستان البنفسجي، مثلًا، كان سيبدو الخيار الأمثل!”
مع أنّها تكلّمت بسرعةٍ مضطربة، لم أعرها اهتمامًا، وهززتُ رأسي.
‘لو ارتديتُ ثوبًا فاخرًا كالبارحة، لانهالت عليّ الدعوات من جديد.’
لا شكرًا.
كنتُ أريد أن أرتدي شيئًا أبسط، لأتجوّل قليلًا في الحديقة هذه المرّة ثم أعود.
“أظنّ أنّ الزيّ البسيط، مثلما ارتدته روز في الحفل التنكّري، يمنح المرء تجربة أعمق.”
تعمّدتُ أن أستغلّ نقطة ضعف كلوي، وأضفتُ لمسةً من الحقيقة.
وهكذا استقرّ الأمر على فستان أصفر فاتح بسيط، بدل البنفسجي الفاخر.
‘كنتُ أفضّل لونًا أغمق، لكن ما باليد حيلة.’
ومع معارضة الخادمات الأخريات، اضطررتُ للرضوخ.
“هل نطلب من السيّدة الكونتيسة أن تختار لكِ فستانًا آخر؟”
اقترحت إحداهنّ ببراءة، فوجدتُ في كلامها مخرجًا للتسوية.
وبينما كُلتُ لي المديح أكثر من اليوم السابق، أصررتُ على ألا أضع أيَّ حُليّ.
أقراط؟ عقد؟ لا.
حتّى تذكرتُ صورة روز مرّة أخرى، وأصررتُ أنّني سأذهب دون زينة.
وكما في الأمس، صعدتُ إلى العربة مع القناع الذهبي، لكن هذه المرّة كان تصميمهُ مختلفًا قليلًا.
التعليقات لهذا الفصل " 31"