الفصل 16 :
“هل رأيتِ الحديقة في طريقكِ إلى هنا؟”
“رأيتُها لمحةً من داخل العربة أثناء المرور، ولكن… لم أتمكّن من مشاهدتها بتفصيل.”
“لقد أولينا اهتمامًا كبيرًا بها مؤخرًا مع زيادة عدد البُستانيّين. سيكون من الجيّد أن أُرافقكِ في جولة لاحقًا إن سمحتِ.”
انحنت عينا روزابيل التي كانت جالسةً بشكلٍ مائل، وتدفّق من شفتيها صوتٌ لطيفٌ دافئ.
رغم أنّني كدتُ أختنق في البداية، إلّا أنّ بَدْءَ الأميرات للكلام خفّف من الضغط تدريجيًّا، ما جعلني أشاركهنّ الحديث براحةٍ أكثر.
وأكثر من أظهرت اهتمامًا بي كانت الثانية من الأميرات الإمبراطوريّات، روزابيل.
“روزابيل، إن واصلتِ الحديث على هذا النحو فلن تتمكّن الضيفة من تناول الطعام.”
أوقفتها الإمبراطورة رييلين بنبرةٍ هادئة بينما كانت تُراقبها.
“آه، لقد تسرّعتُ. آنسة بلاين، طاهي القصر معروفٌ حتّى في الإمبراطوريّة كلّها، لذا تفضّلي بالتذوّق.”
كنتُ مشغولةً بالحديث، ولم أرفع بصري نحو الطاولة إلّا الآن.
مجرّد النظر كان كافيًا لأدرك مدى فخامة الأطباق ومظهرها الرائع.
وكما هو متوقّع من البلاط الإمبراطوري، فقد رُفِعتُ أدوات المائدة الفضّيّة الفاخرة بحذرٍ لأبدأ بتناول الطعام.
‘مصيبة.’
بمجرّد أن تذوّقتُ أوّل لقمة، غمرني الطّعم الرائع، فغمضتُ عينيّ بتأثّر وتلذّذ.
كنتُ قد تلقيتُ تحذيرًا واضحًا سابقًا بأن لا أُكثر من الأكل، لكن لا يمكنني ترك هذه الأطباق الرائعة غير مُقدّرة.
فبدأتُ بالأكل بنهم مستخدمةً الشوكة بحماس، وحينها التقت عيناي في الهواء بعيني سيلينا، التي كانت تجلس قبالتي.
“هذا هو طبقي المُفضّل، هل ترغبين بتجربته؟”
كان عليّ، على الأقل، مجاملتها بلباقة أو الاعتذار بلطف… لكنّي لم أتمكّن من ذلك.
“…شكرًا لكِ. لم أتناول طعامًا بهذا الطّعم طوال حياتي.”
رددتُ وأنا أومئ رأسي بانبهار، دون تفكير.
ويبدو أنّ سيلينا لم تعتبر ردّي وقحًا، بل ابتسمت بلُطف ودَفَعَت الطبق نحوي.
“يا لسعادتي أنّ آنسة بلاين تستطيع الاستمتاع بالمأكولات البحريّة.”
في العاصمة، كانت المأكولات البحريّة تُعدّ ترفًا نادرًا.
وبما أنّ إقليم عائلتي قريبٌ نسبيًّا من الساحل، كنتُ أتناولها أحيانًا، لكنّ إحضارها إلى قلب الإمبراطوريّة يتطلّب نفقاتٍ هائلة وتعويذات لحفظها.
والقصر الإمبراطوري لا يبخل على الطعام، كما هو معلوم.
“هذا طبقي المفضّل على الإطلاق!”
“رئيسة الخادمات، انقلي هذا الطبق إلى أمام الآنسة بلاين.”
لكن… ما الذي يجري هنا؟
بدأت سيلينا، وتبعتها باقي الأميرات، بل وانضمّت الإمبراطورة رييلين أيضًا، يوصينني بأطباقهنّ المفضّلة واحدة تلو الأخرى.
‘لا يمكنني رفض كلّ هذا الطعام…’
ورغم أنّ الأجواء بدت غريبة بعض الشيء، فإنّي استمتعت بتنوّع النكهات، وشعرت بالشبع سريعًا.
لم أكن من محبّي الأكل، بل من الذين يكتفون بالقليل.
وبما أنّني كنتُ جائعة، أكلتُ أكثر من المعتاد، وبدأت حواسّي المتوتّرة تسترخي شيئًا فشيئًا.
‘في النهاية، نحن جميعًا بشرٌ نأكل لنعيش، أليس كذلك؟’
بمجرّد أن شاركنا وجبةً واحدة، بدأ الحذر يذوب، وحين قُدِّمت الحلوى، استُؤنِف الحديث من جديد.
“جميعنا قرأنا كتبكِ، آنسة بلاين، بشغف، وكنّا نرغب بلقائكِ. بالمناسبة… متى سيصدر الجزء الثاني من فرسان السماء؟”
رغم أنّ سيلينا هي من طرحت السؤال، إلّا أنّ الحديث عن الأعمال بدا أسهل كثيرًا.
فأنا، التي أمضيتُ وقتي منعزلةً في المنزل، لم أكن معتادة على أسلوب الحديث الأرستقراطيّ.
“حاليًّا أعمل على الجزء الثاني من حفلة التنكّر. أمّا فرسان السماء… فلم أبدأ به بعد، لذا قد يستغرق بعض الوقت، لكنّي سأبذل جهدي.”
بدأت أشعر بنظراتٍ حادّة تحيط بي وكأنّها تخترق وجهي.
“أنا فقط أردتُ أن أعبّر عن شوقي، فلا تشعري بأيّ ضغط، خذي وقتكِ الكافي.”
‘هل سيأتون ليطالبوا بمتابعة القصة لاحقًا؟’
بينما كانت سيلينا تتحدّث بهدوء، فتحت روزابيل فمها من جانبي لأردّ رأسي نحوها مرّة أخرى.
“الجزء الثاني من حفلة التنكّر سيكون رائعًا. نحن نفكّر في تنظيم حفلةٍ مثلها بأنفسنا… هل بإمكانكِ مساعدتنا بصفتكِ المؤلفة؟”
“بالطّبع، سيكون ذلك شرفًا لي.”
ويبدو أنّ ما ورد في الرسائل لم يكن كذبًا، فقد بدأت تسألني بتفاصيل أكثر، بوجهٍ خالٍ من الابتسامة.
“في حفلات القِناع، أيّ نوعٍ من الرقص يرقص الناس؟”
“…لم أكن ملمّةً بالرقص كثيرًا، لذا اخترتُ أبسط الأنواع، وتركته مرنًا بحيث يمكن لكلّ شخص أن يرقص بطريقته حسب الموسيقى، دون تنسيقٍ محدّد.”
تذكّرت حينها أنّني كنتُ أنوي البحث عن مدرّس رقص قبل كتابة الكتاب، لكنّ ذلك لم يحدث.
‘هذا أفضل بالنّسبة لي.’
ورغم أنّني كنتُ أُجيب، فإنّني بدأت أتعرّق من الداخل لعدم معرفتي بأيّ رقصة حقيقيّة.
“نفكّر في فتح حديقة القصر مؤقّتًا أثناء الحفلة… كيف تبدو في الرواية؟”
لحُسن الحظ، تذكّرتُ الرسمة التي رسمها لي زيّون، وتمكّنت من وصف الحديقة الإمبراطوريّة المُتخيَّلة بتفصيلٍ جيّد.
أمّا عن تفاصيل الزهور والطعام التي سألتني عنها الإمبراطورة رييلين، فلم أستطع تقديم وصفٍ دقيق.
واصلنا الحديث عن حفلة الأقنعة وتفاصيلها في الرواية.
‘يا لها من تجربةٍ غريبة.’
شعرتُ وكأنّي أستمع لتعليقات القرّاء الحقيقيّين، وكانت تجربةً ممتعةً وجديدة، خصوصًا أنّ هؤلاء القرّاء هم أفرادٌ من العائلة الإمبراطوريّة.
رغم صعوبة تصديق أنّهم سيُقيمون الحفلة حقًّا، فإنّ وجه روزابيل المليء بالحماسة منحني الثّقة.
“إن خطر لكِ أيّ اقتراحٍ أو فكرة، فأخبِرينا دون تردّد! نُريد أن يستمتع الحضور بالحفلة كما استمتعوا بها في الرواية.”
كانت مشاعرها الصادقة تصل إليّ بوضوح.
وبصفتي كاتبةً، كانت لديّ مخيّلةٌ واسعة، فبدأت أتخيّل حفلة الأقنعة الحقيقيّة في هذا العالم.
“على عكس النبلاء في الكتاب، سيكون رائعًا لو ارتدى الجميع نفس الأقنعة لإخفاء هويّاتهم. تمامًا كما لم تتعرّف روز على إدوين…”
قلت ذلك كاقتراحٍ عابر، دون توقّعٍ كبير، إذ أنّ مكانة النسب الاجتماعيّ لدى النبلاء لا تسمح بذلك.
حتّى أنّني لم أظن أنّه سيتحقّق أصلًا.
“فكرةٌ رائعة!”
قالت الإمبراطورة رييلين، من على قمّة الهرم الطبقيّ، بعينين لامعتين.
“بل من الأفضل فرض عقوبةٍ على من تُكتشَف هويّته.”
“والحضور طوعيّ أساسًا… لذا لنضع القوانين ونوزّعها مسبقًا.”
أوه.
أشعل اقتراحي البسيط نقاشًا حماسيًّا.
واستمرّت كلّ منهنّ بالنقاش بانفعال، فأبقيتُ تركيزي عاليًا وأصغيتُ جيّدًا، خاصّةً عندما كنّ يوجّهن الحديث إليّ بين الحين والآخر.
وبعد أن شارف الحديث على نهايته…
“أودّ لو نحصل على شيء مماثل لـ فرسان السماء لاحقًا.”
همست سيلينا بجملةٍ بدت عابرة، لكنّها شكّلت ضغطًا غير مباشر، فما كان منّي إلّا أن ابتسمتُ ابتسامةً باهتة.
فكلّما كبرت الأمور أكثر، زادت التبِعات لاحقًا.
ولن أكون الشخص الذي يُشجّعهم على ذلك، مهما خطّطوا له هم.
ثمّ، جاء الخَدَم واحدًا تلو الآخر وهم يحملون صناديق مغلّفةً بأناقة.
“أعددنا بعض الهدايا البسيطة بمناسبة اللقاء الأوّل.”
فوجئت للحظة من كميّة الهدايا التي لا تنتهي.
هل من المقبول أن أستلم هذا الكمّ كلّه؟
بل إنّ الإمبراطورة وكلّ أميرة قدّمن هدايا منفصلة، وما بدأ بعربة واحدة عند القدوم، تحوّل إلى عربةٍ مزدوجة عند العودة.
“…هل أوقّع لكم على الكتب على الأقل؟”
قلتُ ذلك بعفويّة لأنّي شعرتُ بثقلٍ من كوني أتلقّى فحسب دون ردّ.
“آه…”
“جيني، عودي حالًا إلى جناحي وأحضري الكتاب.”
ولحُسن الحظ، بَدَت ردودهنّ إيجابيّة، وإلّا لكنتُ قد دفنتُ وجهي من الخجل.
‘كنتُ قد أعددت توقيعًا لوقتٍ ما… لم أظن أنّي سأستعمله اليوم.’
وبمجرّد أن وصلت الكتب والأقلام، فتحتُ الصفحة الأولى، ووقّعتُ تحت شعار النشر.
سشش–
“أوه…”
“توقيعكِ رائع! هل يمكنني نسخة أخرى؟”
كان التوقيع باسم كارما، لا كاترينا.
وقد استندتُ فيه إلى خبرتي من حياتي السابقة، فخرج بسيطًا وأنيقًا في آنٍ واحد.
“وأنا أيضًا! أنا أيضًا!”
“رجاءً، على النسخة العاديّة وليس الفاخرة فقط!”
وفجأة، تحوّل اللقاء إلى جلسة توقيع مصغّرة.
ظننتُ أنّ الأمر سينتهي بسرعة، لكنّي وجدتُ نفسي أوقّع على أكثر من عشر نسخ.
‘عليّ أن أُفكّر جيّدًا بتصميم الغلافات في المستقبل.’
فوجئتُ أنّ الأميرة تمتلك نسخة عادية من الكتاب!
“آخر نسخةٍ فقط…”
هل سأتمكّن من العودة إلى المنزل أصلًا؟
صعدتُ إلى العربة ويدي تؤلمني بعد كلّ تلك التواقيع.
***
「الإمبراطوريّة تُنظّم حفلةً تنكّريّة بحثًا عن الرومانسيّة والحب الحقيقي!」
「لقاء كارما الأوّل، إعلان وشيك عن حفلةٍ خاصّة في احتفالات التأسيس!」
「توقيع كارما، كم تبلغ قيمته بالذّهب؟」
مرّ أسبوعٌ تقريبًا، وبدأت التغطية الإعلاميّة لحفلة الأقنعة تنتشر على نطاقٍ واسع.
‘يا لهم من أشخاصٍ حازمين.’
كان حديث سيلينا وروزابيل هو الشرارة، ويبدو أنّ التفاخر بالحصول على توقيع أيضًا ساهم في ذلك.
ظهر بعض الأشخاص أمام دار النشر سافاير وهم يحتجّون بهدوء.
“نُريد حقّ شراء نسخٍ موقّعة!”
“افتحوا المزاد حالًا!”
“خذوا أموالنا!”
كان الاحتجاج يحدث مرّتين في اليوم، صباحًا ومساءً، لمدّة ثلاث دقائق فقط.
ضحكتُ في البداية حين سمعت بالأمر، ثم علمتُ أنّ بعض الكتّاب بدأوا بعرض نُسخٍ موقّعة في المزادات.
لكنّي لم أُحبّذ فكرة المزاد كثيرًا.
“هل أستخدم نظام السحب العشوائي؟”
في ذلك الوقت، كانت حفلة التنكّر حديث الجميع في الإمبراطوريّة.
وكنتُ أعلم أنّ الفرصة لو ضاعت الآن، سأندم لاحقًا.
لذا، وبدافع العجلة، أصدرتُ الجزء الثاني من حفلة التنكّر بعد ثلاثة أيّام فقط، مع فعاليّةٍ صغيرةٍ مرافقة له.
“ضاعفنا عدد المطابع… وزّعناها على أكثر من عشرة أماكن… فلماذا لا تزال الكتب مفقودة؟”
في يوم الإصدار، حطّمت دار نشر سافاير رقمًا قياسيًّا في المبيعات.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 16"