30
“سمعتُ أنكِ تشاركين سمو الأمير الخيمة ذاتها.”
“هناك لبس في قولكِ ‘الخيمة ذاتها’، يا آنسة سيرافيل. صحيح أنني أستعير جزءًا من خيمة سموّه، لكن الفضاء منفصل تمامًا.”
“لقد جئتِ معه في عربتِه، أليس كذلك؟”
“ذلك أيضًا بفضل كرم سموّه، لكنه يقود الجيش على صهوة جواده غالبًا، فلا يمكن القول إنني رافقته.”
“تقولين ‘غالبًا’، أي أنكِ رافقته في بعض الأحيان؟”
“فقط لفترة قصيرة أثناء المطر.”
سال عرق بارد على جبيني. لم تكن أسئلة أخت الدوق الصغير المتوفى، بل امرأة تُرشح لخطبة سمو الأمير. حاولتُ الرد بأدب وحزم، لكن مالينا، الفتاة اليافعة، لم تستطع إخفاء امتعاضها كليًا.
لا شك أن الشائعات عني وعن لانتيد وصلت مسامعها. من الطبيعي أن تشعر بالضيق من فضيحة مرتبطة بمن تُخطط للزواج به. رغم ذلك، حافظت على اللياقة، سلّمت، ثم انصرفت.
قال لانتيد إنه لا يريد الزواج من مالينا، فكيف سينتهي أمر هذين الاثنين؟ حدّقتُ في ظهرها المبتعد بذهول، ثم هززتُ رأسي واستدرتُ. من يتزوج لانتيد لا يعنيني.
عدتُ إلى الأسرّة المؤقتة، فوجدتُ جنودًا هناك. انطلقنا أنا وغيديون وبعض الأطباء العسكريين معهم إلى جبال شونفين بحثًا عن شجرة نيلز. لحسن الحظ، عثرنا على تجمع قريب، وتقدم جمع المسكنات المؤقتة بسلاسة.
كنا نجمع كمية وافرة من سيقان نيلز ونُهيئها للنقل. ناداني غيديون بصوت متحمس:
“ناظ! ناز، تعالي إلى هنا.”
“نعم، سينيور.”
“انظري إلى هذا. إنه زهرة تيلتا.”
“…أين الزهرة فيه؟”
أشار غيديون إلى عشبة ذابلة متيبسة، فسألتُ بنبرة مترددة. لم يبالِ وواصل حفر جذورها قائلاً:
“إنها زهرة معمرة، تترك بصلتها فقط في الشتاء لتقاوم. هذا الجذر بالذات يخفف الأورام والالتهابات.”
“إذن، دواء للالتهابات؟ هذا ثمين جدًا.”
“نعم، والأدوية على وشك النفاد، لذا يجب جمعها. تجفيفها وطحنها أفضل، لكن الجذور الطازجة نافعة أيضًا.”
ابتسم غيديون وهو يحمل جذور تيلتا الملطخة بالتراب. حقًا، إنه غريب الأطوار. لكنه أقدم أطباء عيادة كورنيليوس، فلا عجب. جلستُ بجانبه منحنية، أبحث في الأرض. جرح لانتيد العنيد أقلقني، فقررتُ جمع بعض الجذور عندما يتسنى لي الوقت.
بعدما اقتلعتُ ثلاثة أو أربعة جذور بصعوبة من بين الأعشاب المبهمة، أخبرنا الجنود أنهم أكملوا العمل. خبأتُ جذور تيلتا في جيبي، وعدنا مسرعين إلى الأسرّة.
اقترب وقت الغداء، وبدأ الجوع يعانقني. تبعتُ الجنود الحاملين الأمتعة عائدةً إلى المعسكر، مررنا بمجموعة خيام جديدة. ربما كانت للفوج الأيسر المنضم حديثًا، إذ اقترب ستاين عندما رآني.
“آنسة ناز.”
“آه، سيد ستاين.”
“هل ذهبتِ بنفسكِ لجمع الحطب؟”
نظر ستاين إلى الجنود الحاملين السيقان متعجبًا. ربما بسبب حضور قائد الحرس المشهور، تجاهلني غيديون وباقي الأطباء وأسرعوا بخطواتهم. توقفتُ وأجبتُ سؤاله الودود:
“ليس حطبًا، بل أعشاب طبية، يا سيد ستاين. نفدت المسكنات.”
“فهمتُ. تعبتِ كثيرًا، يا آنسة ناز.”
“الجنود هم من بذلوا الجهد.”
ابتسمتُ ردًا على مجاملته، فابتسم هو أيضًا ومشى بجانبي. حاولتُ ألا أتصرف بتكلف، لكن فكرة أنه قد يكون قتل أربعة أشخاص – بأمر أو بإرادته – جعلتني أشعر ببعده.
عندما شككتُ في لانتيد، لم أشعر بهذا لأنه كان بعيدًا عني شخصيًا. لكن أن أتخيل شخصًا رأيته عاطفيًا يقتل بلا مبالاة، أمرٌ صعب التقبل.
أعلم أنه لا يمكن لومه إن كان ينفذ أوامر. من يعصى الأعلى؟ خاصة إن كانت الإمبراطورة. لكن…
لا، لا شيء مؤكد بعد. إن كان هذا سوء فهم، سأكون قد ظلمتُ ستاين. رفع تُ زاوية فمي متعمدة، وقلتُ بنبرة مشجعة:
“هل تناولتَ طعامك؟ إن لم تكن، هل نأكل معًا بعد وقت؟”
“شرفٌ لي، يا آنسة ناز. هل تتناولين الطعام في خيمتي؟”
ابتسم ستاين بلطف، فعيناه الرماديتان المائلتان للأزرق انحنيتا، مخففتين من جديته. قبلتُ دعوته، نصف مفتونة بابتسامته، وتوجهنا إلى خيمته.
لم تكن بحجم خيمة لانتيد، لكنها، كخيمة قائد الفوج الأيسر، كانت فسيحة. كانت الأوراق مكدسة بدقة على الطاولة، والأمتعة مرتبة بعناية، تعكس شخصيته نوعًا ما.
تجولتُ بعينيّ في الخيمة، فعرض عليّ مقعدًا وأعطاني بطانية لأتدفأ. كم هو مهذب ودقيق، فكيف انتشرت عنه تلك الشائعات المرعبة؟ وضع جندي الطعام أمامنا، ورفعتُ الملعقة، ثم تذكرتُ شيئًا:
“سيد ستاين، كدتُ أنسى الفلفل الحار.”
“آه.”
رددتُ مازحة، فأصدر ستاين صوتًا كمن أدرك شيئًا. ضحكتُ بنية طلب بعض الفلفل، فنظر إليّ، نهض، وبحث في أمتعته، ثم أعطاني كيس الفلفل.
للحظة، بدا تعبيره غامضًا، لكنني أخذته دون تفكير. فتحتُ الكيس، فاستقبلتني رائحته الحارة المألوفة، لكن وجهي تجمد فجأة.
أطرقتُ مسرعة لأخفي تعابيري، أخذتُ قليلاً من الفلفل، رششته على حسائي، وأعدتُ الكيس له.
قبله بهدوء وفعل مثلي. تناولتُ الحساء، لكن ذهني المشوش لم يترك لي مجالاً لتذوقه.
كمية الفلفل في الكيس لم تتناقص قط. أنا من ملأته، وأعرف حجمه جيدًا. حشوته حتى الفوهة لأعطيه إياه، لكنه، بعد أكثر من عشرة أيام، بقي كما هو. لم يستخدمه أبدًا.
…لماذا؟ هل أبقاه كذكرى ثمينة من امرأة يهتم بها، فلم يطق تناوله؟ الفلفل الحار؟ أم ظن أنني سأسممه؟ مستحيل. فما السبب إذن؟
عندما تنهار كل التفسيرات، يبقى واحد. الناس لا يأكلون الفلفل عادةً لسبب بسيط: ستاين لا يحب الطعام الحار.
هو، الذي أوصاني بمطعم، لا يحب الحار. إن كان لا يحبه، فلماذا كذب قائلاً إنه يفضله؟ ليتقرب من امرأة يهتم بها؟ هل تظاهر بحب الطعام الحار، بل زعم أنه زبون دائم لمطعم، وتحمل ما لا يطيقه من أجلي؟
مستحيل. عملتُ معه يومين فقط كمحققة. في القصر، التقينا صدفة في مطعم، وأنا من أصررتُ على علاج جرحه رغم بروده. هل أعجبته مهاراتي في الخياطة؟ نعم، ربما. أحب مهاراتي فكذب ليواعدني.
يا لها من أفكار مجنونة! تمنيتُ لو كانت صحيحة. أن يكون قائد الحرس، المعروف بـ”رئيس فرقة الاغتيال”، من قتل أربعة أشخاص دون علم أحد، وكذب ليقترب مني، أمرٌ مرعب!
أكلتُ الحساء الأحمر بلا طعم، متظاهرةً باللامبالاة، لكن فكرة أشد رعبًا خطرت ببالي.
قائد الحرس يستطيع التدخل في اختيار الأطباء العسكريين. تجاهلتُ هذا الافتراض، لكن ماذا لو كان صحيحًا؟ إن لم يكن اختياري صدفة، بل بقرار شخص ما؟ إن كنتُ متورطة دون علمي، ويراقبني أحدهم، وكان ذلك الشخص ستاين؟
الجميع قال إن اختيار متدربة جديدة غريب. إن اختارني ستاين عمدًا، يُفسر ذلك كل شيء.
لكن، لماذا؟ ماذا فعلتُ؟ علاقتي بستاين شخصيًا تقتصر على علاج رقبته وموعدين. هل قلتُ شيئًا لفت انتباهه؟ أم أن الإمبراطورة كانت تراقبني من خلاله؟
نقطة التقاطع بيني وبين الإمبراطور هي قضية الكونت دوندريس فقط. تلك القضية التي أسقطت عائلة ماركيز غولايل، أحد أعظم عائلات لينتون. أمرتني الإمبراطورة بنفسها بالتحقيق، وعندما كشفتُ الجاني، أُبعدتُ فورًا.
عاد الشعور المزعج الذي كبتّه عند تسليم القضية لمكتب الاستخبارات، ففقدتُ شهيتي.
ظننتُ أنها انتهت لصالحي بتعييني في القصر، لكن هل كنتُ مخطئة؟ هل أرسلني ستاين هنا ليقتلني سرًا، كما حدث مع الدوق الصغير؟
حرّكتُ الحساء بملعقتي دون أن أرفعها إلى فمي. نظر إليّ ستاين، وضع ملعقته، وتنهد. كأنه سيعلن أنني اكتشفتُ الأمر ويستل سيفه. تجمدتُ، ممسكةً الملعقة، لا أتنفس.
مرت لحظات دون حراك. فكرتُ ألا أبدو مشبوهة، وأتظاهر بالجهل، لكن جسدي لم يطاوعني، وكدتُ أموت رعبًا. هل أرفع رأسي وأمزح، أم أهرب من الخيمة؟ لا أعرف حقًا.
“كُلي براحتكِ. لا بأس.”
ارتعبتُ من صوته المفاجئ، فأسقطتُ الملعقة. تناثر حساء أحمر على الطاولة، فأخرج ستاين منديلاً أبيض ومسحه. عيناه الرماديتان كانتا خاليتين من أي شعور.
لم أستطع أن أرمش وأنا أواجه عينيه. لا بأس؟ ما الذي لا بأس به؟ أنا لستُ بخير. طوى المنديل الملوث بدقة، وقال بنبرة أخف:
“كنتُ أعلم أنكِ سريعة البديهة، لكنني كنتُ متسرعًا.”
“سريعة البديهة؟ لا أفهم عما تتحدث.”
قاطعتُه بسرعة، خائفةً أن يقول شيئًا أفظع. كلامي صادق، لا أفهم حقًا، ولا أريد أن أفهم، ولا أريد أن أموت.
ابتسم باهتًا وهو ينظر إليّ وأنا أتجنب عينيه، ثم عبث بكيس الفلفل على الطاولة وقال:
“في الحقيقة، كذبتُ. لا أحب الطعام الحار، لكنني أردتُ التقرب منكِ، فبالغتُ. المطعم الثاني كان صعبًا جدًا.”
شكرتُ لطفه وهو يبرر مازحًا، فضحكتُ بتصنع وأجبتُ:
“حقًا؟ أكلتَ جيدًا لدرجة أنني لم ألاحظ.”
بالكاد صنعتُ ابتسامة، لكن ابتسامته الباهتة تلاشت. أسرتني عيناه المحدقتان بي، فلم أستطع الحراك. ترددت نظراته الثقيلة طويلاً، ثم انفرجت شفتاه أخيرًا:
“إن دعوتكِ للطعام مجددًا، لا تقبلي.”
كلماته القصيرة وما تختزنه من معانٍ ضربتني دفعة واحدة. استقرت شكوكي المتأرجحة، وبات ستاين، الجالس على مرمى يد، بعيدًا فجأة. أقرّ بأنه خطر عليّ.
حقيقة قضية الدوق الصغير لا تزال مجهولة، لكن، على الأرجح، هو الجاني. هذا الرجل أمامي قتل الدوق وحراسه، وربما آخرين كثيرين. أمسكتُ يديّ المرتجفتين تحت البطانية وسألتُ:
“أخبرني بشيء واحد. هل يجب أن أقلق على حياتي الآن؟”
“لا. أدي واجبكِ كطبيبة عسكرية بإخلاص، عودي إلى كيلديا، وإن تجنبتِ الفضول الزائد، ستصبحين طبيبة القصر بسلام.”
تحدث ستاين بلطف كمن يهدئني. لم يبدُ كاذبًا. يجب ألا يكون كذلك. لم أستطع التصديق أو عدمه، فحدّقتُ فيه دون رمشة.
انخفضت زاوية عينيه قليلاً. ابتسم بحزن وقال:
“اطمئني، يا آنسة ناز”
يبدو أنه لن يقتلني. تنفستُ أخيرًا. شعرتُ بأسى على حالي التي يجب أن ترتاح لذلك. زال خوف الموت، وضربني خداعه. أن تكون مشاعري نحوه بلا معنى منذ البداية أوجعني. أن تكون كل تلك اللحظات الجميلة والأحاديث فارغة أغضبني قليلاً.
ظننتُ أنه يحبني. شعوري بالحماس والترقب جعلني أبدو حمقاء، وكرهتُ نفسي الحمقاء وخجلتُ، فاحترقت عيناي، لكنني عضضتُ على أسناني وكبحتُ دموعي. لا أريد أن أبكي أمام من يقول إن كل شيء كان كذبًا.
لم يعد هناك داعٍ لمواصلة الطعام. نهضتُ بأرجل مرتجفة، وودّعتُه دون أن أنظر إليه:
“فهمتُ. شكرًا على كل شيء حتى الآن.”
“بما أصبحتِ طبيبة، انسي أيامكِ كمحققة. هذه نصيحتي الأخيرة.”
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
قناة التيلغرام تحتوي على العديد من الروايات الكورية المترجمة للرابط اضغط هـــــــــــــــــــــنا
حسابي على التيكتوك ترويج لروايات اغاني دون موسيقى بلرابط اضغط هنـــــــــــــــــــــــــا برضه
التعليقات لهذا الفصل " 30"