24
“ليس الأمر كذلك.”
تجنب لانتيد الرد، وأطرق رأسه مركزًا على طعامه. أكملتُ تناول الحساء الحار بمتعة واضحة.
بعد أن شبعتُ ووضعتُ الملعقة جانبًا، نظر إليّ لانتيد وهو يمسح فمه بالمنديل بعينين تحملان نوعًا من الرضا وقال:
“كنتُ قلقًا من أن تكوني مضطربة.”
“وهل كان هناك ما يستدعي القلق؟”
“لا، ليس الأمر كذلك. ليس عليكِ أن تقلقي بشأن أي شيء.”
لم يبدُ لانتيد مستعدًا لشرح ما كان يعنيه حديثه عني مع ستاين الليلة الماضية. لكن كلماته الواثقة التي طالبتني بعدم القلق، رغم افتقارها لأساس، ألهمتني الثقة.
صوته المنخفض الرخيم ونطقه الواضح جعلا كل ما يخرج من فمه يبدو كحقيقة لا تُرَدّ. وكذلك فعلت ابتسامته الهادئة وعيناه الزرقاوان المحدقتان بي مباشرة.
أومأتُ برأسي موافقة، فبدا لانتيد راضيًا. حملتُ كيس الفلفل الحار وعدتُ إلى خيمتي الصغيرة. سواء كانت كلماته صادقة أم كذبة محضة، لم يكن لديّ ما يكفي من المعلومات لأميّز بينهما الآن.
“ربما تدخل أحدهم في عملية اختيار الأطباء العسكريين وأدرجني في القائمة.”
“ربما اقترب مني ستاين ولانتيد، كلٌّ بنيّة مختلفة.”
افتراضان ضعيفان، هذا كل ما لديّ. أحدهما رجل أشعر نحوه بالمودة، والآخر أمير لطيف، وكلاهما كانا طيبين معي. الحقيقة الوحيدة المؤكدة هي أن علاقتهما متوترة، لكن لا سبيل لي لمعرفة ما يخفيانه من قصص.
ما يزال يزعجني هو من اختارني للحملة ولماذا. إن كان لانتيد من فعل ذلك، لما طلب مني مغادرة المعهد الطبي الإمبراطوري في مكتب فينتوس.
وستاين؟ إن كان ستاين، فلا سبب له أبدًا. مهما حاولتُ التخيّل، لم أجد سوى قصة سخيفة لا تليق: أن ستاين، المفتون بي، لم يرد البعد عني ولا الانسحاب من الحملة، فدبّر أمرًا ما.
استحال التفكير في شخص ثالث. ليس لديّ تاريخ مع أي شخصية رفيعة قادرة على التلاعب بقائمة الحملة. إذن، هل هو مجرد صدفة أو خطأ؟
حتى حديث الليلة الماضية يمكن تفسيره. ربما علم ستاين بشائعات سيئة عني، فأراد حمايتي بضمّي إلى فوجه الأيسر، لكن لانتيد، الذي يكنّ له عداوة قديمة، رفض طلبه. لعل الجو المتوتر بينهما جعلني أبالغ في القلق دون داعٍ.
لم أنم جيدًا الليلة الماضية من فرط الاضطراب، لكن التمسك بأسئلة بلا إجابة لا يناسب طباعي.
ابتلعتُ تنهيدة وأنا أرتب حقيبتي، فلامستْ يدي كيسًا جلديًا آخر مشدودًا بإحكام. بجانب كيس الفلفل الخاص بي، كنتُ قد أعددتُ واحدًا إضافيًا لستاين، محب الأطعمة الحارة.
ستأتي الفرصة. فكرتُ أن أسأله بينما أسلمه الكيس، فأعدتُه إلى الحقيبة وأغلقتها.
انتهى المطر بعد الغداء. لم يكن لديّ متسع للترحيب بالسماء الصافية الزرقاء، إذ استأنف جيش الحملة مسيرته على عجل. لا يزال الطريق إلى جبال شونفين بعيدًا، والهواء يزداد برودة يومًا بعد يوم.
—
مضى الوقت، حتى اقترب جرح الأمير، الذي كان ذريعة، من الشفاء التام. بعد العشاء، كنتُ أهمّ بصعود العربة مجددًا، عندما لمحتُ ظلاً متكئًا على بابها. انتصب الظل حين رآني، وتقدم نحوي.
“آنسة ناز.”
كان ستاين. مرّت أربعة أيام منذ تقابلنا عابرًا في خيمة لانتيد. لم أتبيّن تعابيره في الظلام، وكذلك وجهي بالنسبة له، لكنني رفع تُ زاوية فمي مبتسمة وسألتُ:
“السيد ستاين، لم نلتقِ منذ مدة. هل أتيتَ اليوم أيضًا لتقديم تقرير لسمو الأمير؟”
“نعم، يا آنسة ناز. هل يمكننا التحدث قليلاً؟”
كان سؤاله موجهًا لي، لكن نظراته استقرت على السيد رالف خلفي. رغم أن عيني ستاين كانتا مثبتتين عليه بوضوح، لم يتحرك رالف من مكانه.
التفتُ إليه وأومأتُ برأسي، فتراجع أخيرًا. لم أرَ تعابيره في الظلام، لكن حركاته بدت مترددة. عندما ابتعد رالف بما فيه الكفاية، تكلم ستاين بهمس:
“هل تعانين من أي إزعاج في إقامتكِ؟”
“لا على الإطلاق. سمو الأمير يعتني بي بعناية فائقة.”
“هذا جيد. آنسة ناز، أعتذر عن إفزاعكِ تلك الليلة. لم أكن أعلم أنكِ تسمعين.”
“ما دمتَ بدأتَ الحديث، لديّ سؤال.”
“تفضلي.”
ردّ ستاين بوجه يبعث على الثقة، كأنه مستعد للإجابة عن أي شيء، فشعرتُ بالارتياح وسألتُ:
“الأطباء العسكريون المُختارون لهذه الحملة، هل تعلم من اختارهم؟”
“لا يمكنني إخباركِ.”
“إذن، ربما، هل أنا متورطة في أمر لا أعلم عنه؟”
“ليس الأمر كذلك. الحديث الذي دار بيني وبين سمو الأمير تلك الليلة يتعلق بشؤون إمبراطورية لا يمكنني شرحها، لكنه لا علاقة له بكِ. كنتُ قلقًا فقط من أن تعاني من شائعات كاذبة.”
شرح ستاين بجدية. شعره الأسود امتزج بالظلام حتى كاد يختفي، وعيناه الرماديتان المائلتان للأزرق بدتا سوداوين تمامًا. نبرته المستوية، التي قد تبدو قاسية أحيانًا، كانت كالمعتاد، ولم أجد سببًا للشك في كلامه.
“حسنًا، سأصدقك. آه، طالما أتيتَ، انتظر لحظة. لديّ شيء لك.”
صعدتُ إلى العربة وأخرجتُ كيس الفلفل الحار من حقيبتي. سلمته له، وشرحتُ وهو يتناوله دون سؤال:
“هذا فلفل حار. رذاذة صغيرة منه تُحيي النكهة الحارة كالسحر.”
“هل هذا لي؟”
“بالطبع. أحضرتُ واحدًا إضافيًا مع كيسي.”
“شكرًا، يا آنسة ناز. ليس لديّ ما أقدمه لكِ…”
“لا تقلق، إنه شيء بسيط. هدية صغيرة لرفيق الأطعمة الحارة.”
غمزتُ بعيني وأنا أقول ذلك، فابتسم ستاين بعينين متعرجتين وهو يحتفظ بالكيس بعناية.
ودّعتُه وهو يعود إلى فوجه الأيسر الذي يقوده، وصعدتُ العربة. شعرتُ بخفة أكبر بعد كلماته المطمئنة.
حقًا، أن أتخيل أن لانتيد وستاين يتنافسان عليّ أمرٌ مضحك إن عرفه أحد. وتوهّم أن شخصًا رفيعًا دبّر مؤامرة لإدراجي في الحملة هو مجرد غرور مبالغ. من سيُتعب نفسه لهذا الحد من أجل متدربة مبتدئة مثلي؟
هززتُ كتفيّ وأنا في العربة وحيدة، ثم غطيتُ نفسي بالبطانية وغفوتُ بنشاط حتى توقفت العربة.
حلّ الليل وتوقف السير، واستُدعيتُ مجددًا إلى خيمة لانتيد. أخرجتُ المعقم وفككتُ الضمادة، فظهر الجرح وقد شفي تمامًا. رفعتُ المعقم، لكن ضمير الطبيبة منعني، فأعدتُه إلى مكانه.
“أنا… سموكم.”
“ما الأمر، يا آنسة ناز؟”
“الجرح، يبدو أنه شفي تمامًا.”
“حقًا؟ هذا جيد.”
“نعم. مبارك لكم، سموكم.”
“وجهكِ لا يبدو مبتهجًا على الإطلاق.”
“لا، أنا أهنئكم حقًا.”
ابتسمتُ بتصنع، فضحك لانتيد كمن شاهد شيئًا مسليًا، ثم قال بنبرة ودودة ما أردتُ سماعه وهو ينزل كمّه:
“استمري في استخدام العربة والخيمة كما كنتِ. إن عدتِ الآن إلى الأطباء الآخرين، سيزعجهم ذلك.”
“نعم! شكرًا، سموكم!”
“بالمناسبة، سمعتُ أنكِ التقيتِ ستاين.”
“نعم، جاء لأن لديه ما يقوله.”
“هل سيكون غريبًا أن أسأل عما تحدثتما عنه؟”
تقلّصت عينا لانتيد بلطف، فسقطت خصلة ذهبية على جبهته. أن يطرح سؤالاً بإجابة واضحة بهذه السلاسة، موهبة فريدة حقًا. لم أكن أنوي الجدال مع أمير، فأعطيته ما يريد:
“قال إن حديثكما تلك الليلة لا علاقة له بي، ولا داعي لقلقي. شعرتُ براحة بفضل ذلك.”
“لا علاقة له بكِ؟”
“نعم، هكذا قال.”
“حسنًا، فهمتُ. عودي الآن وارتاحي.”
تركتُ لانتيد، الذي قال “فهمتُ” بوجه لا يُفهم، وعدتُ إلى خيمتي الصغيرة. عاد الشك في علاقتهما، لكنني أطفأتُ الشمعة ومعها الفضول.
إن كان الأمر لا يعنيني، فلِمَ أتدخل؟ شعوري، المصقول من أيام التحقيق، حذّرني من أن الاهتمام بأمرهما سيجلب المتاعب.
مرت أيام أخرى. كان السير هادئًا، والشائعات تنتشر أكثر. أصبحتُ محط أنظار الجنود أينما ذهبتُ، حتى وصلنا إلى جبال شونفين.
—
**الفصل الرابع: قضية اغتيال الدوق الصغير فييترو سيرافيل**
منذ وصولنا إلى جبال شونفين، أصبحت الهموم الشخصية ترفًا لا مكان له.
لم أعد عشيقة الأمير أو امرأة تتردد على خيمته، بل استعدتُ هويتي كمتدربة جراحة. منذ بداية الجبال، ظهرت الشياطين العملاقة تتجول، فأصيب جنود وهم يقاتلونها. وبدخولنا أعماق الجبال، تحول المكان إلى ساحة حرب حقيقية.
نصبنا معسكرًا في منتصف الجبل، وأعددنا أسرّة مؤقتة، فانشغلنا بعلاج المصابين المتدفقين دون توقف. مرة، هاجمتنا بعض الشياطين، فاقتربت منها كما لم أفعل من قبل.
ما إن رأيتُ تلك الكائنات المجهولة حتى فهمتُ لمَ سُمّيت شياطين. كانت تحمل هالة شريرة تلف الجسد، بغض النظر عن شكلها، وخشيتُ النظر إليها مباشرة خوفًا من التقاء عينينا.
لولا هرع لانتيد لنجدتنا، لكان بين الأطباء ضحايا. بعد نجاتنا من تلك اللحظة الحرجة، استمررنا بلا نوم حتى اليوم الأول من السنة الجديدة، حين يُقال إن “نواة الشياطين” تُفتح.
° . • .✦ . ◌ ⋆ ° ✬ • ✫ ⋆。 .° ◌ • .●
التعليقات لهذا الفصل " 24"