3
كانت إمبراطورية كاستيوم منذ زمنٍ بعيد الحاكمة الفعلية لقارّة نوِيت آدِل، تُرهب الدول المجاورة بسطوتها.
وسرُّ تلك الهيمنة كان بفضل قوّة ملك الأرواح “لومينيسكا”.
منذ دهورٍ خلت، أنقذ مؤسس الإمبراطورية، “ريفِن”، بومةً كانت ترتجفُ من الخوف بعد أن أصابها جرحٌ في إحدى المعارك مع إمبراطوريةٍ أخرى، فاعتنى بها بإخلاصٍ كبير.
لكنّ تلك البومة لم تكن عادية، بل كانت رسولاً عزيزًا على ملك الأرواح “لومينيسكا”. فشكرًا لإنقاذ رِفِن لرسوله، أغدق لومينيسكا بركته على إمبراطورية كاستيوم.
كانت تلك البركة أن يَمنح كلُّ جيلٍ من العائلة الإمبراطورية جزءًا ضئيلاً من سلطانه الإلهي.
ولأنّ السحرَ الروحيَّ كان أقوى أنواع السحر، فقد نهضت كاستيوم من أضعف دولةٍ في القارّة إلى أقواها بفضل تلك القوّة.
غير أنّهم، رغم قبضتهم على مقاليد القارّة، لم يغزوا الدول الأخرى بغير حقّ، ولم يتباهوا بسلطانهم. ذلك لأنّهم لم يرغبوا في تدنيس الرحمة التي أغدقها عليهم لومينيسكا.
لكنّ الحاسدين والحاقدين تزايدوا مع مرور الوقت، وعلى رأسهم إمبراطورية إيبليس.
فإيبليس، ثاني إمبراطوريات القارّة، كانت تطمع دائمًا في قوّة كاستيوم وهيبتها.
تحت وطأة الغيرة والدونية، صاغوا عقيدةً جديدةً تقول إنّ إلههم الحارس “إسكا” قد تنبّأ قائلًا:
“ستنقرض كاستيوم، وتُصبح إيبليس أرض الفردوس الجديد، فاستعدّوا للفلك المقدّس.”
لم يُعرف إن كانت تلك النبوءة صادقة أم مختلقة، لكنّ إمبراطور إيبليس، “نوفاس”، مضى في تنفيذها سرًّا وأطلق مشروع “الآرك”.
وبعد ثلاثة عشر عامًا، نجح في اغتيال إمبراطور كاستيوم.
غرِقت الإمبراطورية في فوضى عارمة، إذ لم يُكشَف عن الفاعلين، لأنّ ألك، وتيو، وروزي نفّذوا مهمّتهم بدقّةٍ متناهية.
لكنّ الارتباك لم يكن بسبب ذلك وحده، بل لأنّ…
“الأمير كاليكس لم يمتلك أيَّ قُدرة.”
كانت تلك الحادثة الأولى في تاريخ كاستيوم: أميرٌ من السلالة الملكيّة لم ينل بركة لومينيسكا.
والسبب في الحقيقة، أنّ مدير المختبر “لوين” قد سرق بركته قبل ولادته.
غير أنّ النبلاء، الذين لم يعرفوا بوجود المختبر، صوّبوا سهام الاتهام نحو “ليين”.
بالطبع، أنكرت ليين الذنب، ففُرض فحص النسب الملكي.
وأثبتت النتائج أنّ كاليكس هو ابن الإمبراطور “إيتيرنوس” الشرعي…
لكنّ الشكوك ظلت تملأ صدور النبلاء، ومع مقتل الإمبراطور بالسمّ، تراكمت المآسي فوق بعضها.
فانكسرت ليين تحت وطأة الذنب لإنجابها أميرًا بلا بركة، والصّدمة من اغتيال زوجها، فغرقَت في الإدمان.
وفوق ذلك، لم تكن ليين تملك قاعدة دعمٍ داخل الإمبراطورية، إذ كانت أميرةً من جزر “تِبي” البعيدة وراء البحر.
فاحتقرها النبلاء جميعًا، وعدّوها امرأةً تافهة مدمنة لا سند لها.
ولمّا كان كاليكس صغيرًا بعد، فقد سلّم مؤقّتًا سلطات الإمبراطور إلى أحد نبلاء والده المقرّبين، “بروكستون مونتمير”.
كان كاليكس يأمل أن يواصل بروكستون التحقيق في مقتل والده…
لكنّ الأخير استيقظت في قلبه شهوة السلطة، فراح يوسّع نفوذه كلّ يوم، ساحقًا أنصار العرش.
فتحوّل الأميرُ في لحظةٍ إلى ظِلٍّ منسيٍّ في قصره.
“باختصار، الأمير الذي بلغ الخامسة عشرة الآن، تُرك منسيًّا في صراع القوى.”
بينما كنتُ أُفكّر في كلّ ذلك، ناولتني المُقابِلة عقد التوظيف وهي تبتسم بلطف.
“أُهنّئكِ رسميًّا على انضمامكِ كخادمةٍ في جناح وليّ العهد يا آنسة روزي.”
“شكرًا جزيلاً.”
“أنا مديرةُ الخادمات، بَسْتي وود. يمكنكِ مناداتي بَسْتي.”
“نعم، السيدة بَسْتي.”
“إذن، دعيني أُرافقكِ إلى جناح وليّ العهد.”
غادرنا القصر وسرنا عبر طريقٍ خلفيٍّ طويل.
كلّما تقدّمنا ازداد الجوُّ عتمة، والطريقُ صارَ أكثر وعورةً وإهمالًا.
“أهذا الطريق يؤدّي إلى جناح وليّ العهد؟”
بدأ الشكُّ يتسرّب إلى ذهني، فقاطعتني بَسْتي قائلة:
“يقع جناح وليّ العهد «إكليبسيا» في مكانٍ معزولٍ بعض الشيء عن القصر الإمبراطوري.”
“يبدو الأمر كذلك حقًّا.”
“السبب أنّ جلالته الراحل توفّي فجأة، فطلب سموّ الأمير مكانًا هادئًا يشفى فيه من جراح روحه.”
“أفهم الآن.”
إذن هذه الرواية مُختلَقة لإخفاء الحقيقة عن الخادمات الجُدد.
لكن لا بأس، أتفهّم ذلك. فلولا معرفتي الدقيقة بتاريخ الإمبراطورية، وتعليمي الصارم في المختبر، لما أدركتُ الحقيقة.
“همم، قلتِ إنكِ في الثامنة عشرة، صحيح؟”
“آه، نعم.”
كتبتُ ذلك في العقد، فقد كان عمري حين مِتُّ سابقًا ثماني عشرة سنة.
“ممتاز.”
…ممتاز؟ فيمَ؟
هممتُ بالسؤال، لكنها توقّفت فجأة.
وحين رفعتُ رأسي، رأيتُ قصر “إكليبسيا” أمامي.
أشجارٌ شاهقة تحيط به كستارٍ كثيف، ورياحٌ حادّة تهبّ كأنّها سيوف.
جدرانه الرماديّة المتهالكة تكسوها الطحالب، والأبواب الحديديّة الصدئة والنوافذ المتشققة تشي بالإهمال.
“أهذا… حقًّا جناح وليّ العهد؟”
بُهِتُّ في صمت، فقالت بَسْتي بنبرةٍ عمليّة:
“من الآن فصاعدًا، ستكونين الخادمة الشخصيّة لسموّ الأمير، وتُشرفين على حياته في هذا الجناح.”
“انتظري لحظة، خادمةٌ شخصيّة؟ إذن، ألا يوجد غيري؟”
“أنتِ شابّة ونشيطة، ستنجحين في ذلك. آه، تذكّرتُ أمرًا عاجلًا، عليّ الذهاب الآن.”
ورفعت نظّارتها واختفت مسرعة.
“انتظري!”
ناديتها بارتباك، لكنها كانت قد اختفت بسرعة الضوء.
كآآآك! كآآآك!
ارتفع نعيبُ الغربان المشؤوم من بعيد.
“هل أنا… وحدي؟”
هل أنا الوحيدة التي ستنظّف هذا القصر المهجور وتعتني بالأمير؟
“لا، لا تستعجلي الحكم.”
لقد وُظّفتُ كخادمة، فربما هناك وصيفاتٌ أيضًا. وربما القصر أنظفُ مما يبدو.
ربما كانت الخادمة السابقة قد نظّفته جيّدًا.
“فلأدخل لأرى.”
كيييك—
دفعتُ الباب الحديديّ الصدئ فانفتح بصوتٍ حاد، فكشف عن ردهةٍ من الرخام… أو ما كان يومًا رخامًا.
ذلك الحجر الذي كان أبيض كالثلج صار رماديًّا، غطّاه الغبار.
وعلى الجدران صفوفٌ من شمعداناتٍ لم يبقَ فيها سوى آثار الشمع، والثريّا القديمة تعلوها بقع الصدأ فبدت شبحًا قبيحًا.
التماثيل المتآكلة وزهور الزينة اليابسة تشي بأنّ المكان مهجورٌ منذ قرون.
“لا يُعقَل…”
كان القصر يلفّه صمتٌ جليديّ، وكأنّ الحياة هجرتْه منذ زمنٍ بعيد.
لم أستطع أن أصدّق أنّ الأمير يعيش هنا.
“أأنا سأعمل هنا حقًّا؟”
لم يدم تساؤلي طويلًا حتى خطر لي سؤالٌ آخر:
“لكن… أين الأمير؟”
أغمضتُ عينيّ وركّزتُ كلّ حواسي على السمع.
حينها، تناهى إليّ ضجيجُ صبيةٍ في الجهة الخلفيّة من القصر.
“هل هو هناك؟”
أسرعتُ الخطى، حتى وصلتُ إلى الحديقة الخلفيّة، فرأيتُ مجموعةَ فتيانٍ يتبادلون الحديث بنبرةٍ ماكرةٍ وساخرة.
“آه، نسيتُ أن هذا المكان يُسمّى قصرًا!”
“صحيح، كدتُ أظنّه كوخًا بجانب قصر كلبي.”
“يُقال إنه لا يملك حتى خادمًا، كيف يعيش إذًا؟”
“ومن قال لا خدم له؟! أليست الفئران والعناكب في السقف من أتباعه المخلصين؟”
وما إن أنهى أحدهم كلماته، حتى انفجروا جميعًا ضاحكين.
عقدتُ حاجبيّ وتقدّمت خطوة.
“من هذا الذي يسخرون منه؟”
عندها رأيتُ فتىً يقف في نهاية نظراتهم.
شَعرٌ أسود حالك، وجهٌ أبيض وعينان بنفسجيّتان متألقتان.
شفاهٌ مغلقة بعنادٍ صامت، ورموشٌ طويلة كثيفة تُلقي بظلٍّ على عينيه.
كان طويل القامة بالنسبة لسنّه، عريض الكتفين، مستقيم القوام، ذا بنيةٍ قويّة.
لم أستطع إلا أن ألتقط أنفاسي في دهشة.
إنّه الأمير كاليكس نفسه.
“النبلاء يسخرون من الأمير؟!”
مهما بلغت خُذلانه، لا يحقّ لأحدٍ أن يهينه هكذا.
لكنّهم فعلوا ذلك ببرودٍ وكأنّهم اعتادوه منذ زمنٍ بعيد.
“يا صاحب السموّ، ألا تُجيب؟”
ورمى فتى ذو شعرٍ أحمر صنوبرةً نحو قدميه.
ارتطمت الصنوبرة بالأرض عند قدمي الأمير، فتفجّر ضحكهم من جديد.
“يا إلهي! عذرًا! ظننتُ أنّ هذا المكان باحة منزلي من فرط بؤسه!”
كانت سخريةً قاسيةً تفوق ما يحتمله فتى في الخامسة عشرة.
وهو فوق ذلك أمير.
توقّعتُ أن يثور أو يطلب النجدة، لكنه لم يُبدِ أيَّ ردّ فعل.
عيناه ظلّتا ساكنتين تحت ظلال رموشه الطويلة، وشفاهه مغلقة بإحكام.
كأنّه لا يسمعهم، أو لا يراهم أصلًا.
لم يظهر على وجهه أيُّ أثرٍ لمشاعر، بل كان يبتلع إهاناتهم في صمت.
فتغيّرت ملامح النبلاء، إذ لم يجدوا متعةً في إذلالٍ بلا ردّ.
عندها صاح أحدهم عاليًا وقد عزم أن يستفزّه:
“يا صاحب السموّ! هل صِرتَ أعمى وأصمَّ من شدّة خِذلانك؟! لماذا لا تردّ؟!”
Chapters
Comments
- 3 - حيث لا تصل أنوار الشمس منذ 3 أيام
- 2 - في ظل الموت منذ 3 أيام
- 1 - في ظل الموت 2025-10-23
التعليقات لهذا الفصل " 3"