سلاحُ اغتيالٍ بشريّ. مكنسةٌ تمحو الأرواح. أميرةُ المختبر.

كلّها ألقابٌ أُطلقت عليّ.

كنتُ عميلةً سريّة في منشأة أبحاثٍ خفيّةٍ تابعةٍ لإمبراطوريّة إبليس، وأشهرَ قاتلةٍ فيها.

هكذا كانت حياتي.

لكنّ الآن…

“روزي، لقد تقرّر التخلّي عنك.”

قالت المرأة الواقفـة أمامي بابتسامةٍ خافتة، تتراقصُ خصلاتُ شعرها الأحمر في هواءٍ رماديٍّ خيّم على أطلال مبنى مهجور.

كان اسمها روين — مديرةَ المختبر السريّ، والمرأةَ التي انتشلتني من اليُتم وقادتني إلى ذلك الجحيم.

“أتجرئين على الهرب بعد أن صرتِ من فئة الـ‘آرك’؟ يا لجرأتكِ.”

كُنّا نُدعى الآرك، نخبةَ العملاء الذين صُنِعوا بدماءٍ وأدويةٍ محرّمة، وصُقِلوا بالمعارك والتجارب تحت مشروعٍ سريٍّ أُطلق عليه «مشروع الآرك».

غرضُنا واحد: اغتيالُ العائلة الإمبراطوريّة لمملكة كاستيوم العدوّة.

وقد نجحنا بالفعل، نحن الثلاثة من فئة الآرك، في قتل إمبراطور كاستيوم بعد ثلاث سنواتٍ فقط من ولادتنا كآرك.

ذاك الرجل الذي لطالما وصفته روين بأنّه جشِعٌ، شيطانيٌّ، لا يعرف الرحمة…

لكن حين رأيتُ وجهه في لحظة موته، أزرقَ مرتجفًا من الفزع، أدركتُ الحقيقة.

لم نكن نقتل شيطانًا… بل إنسانًا.

وفهمتُ حينها أنّنا تدربنا لسنواتٍ فقط لنقتل أناسًا مثلنا.

لم أعُد أُطيق القتل.

لذلك حاولتُ إقناع زميليَّ في المشروع، أليكس وثيودور، بالهرب معي.

لكن في الموعد المحدّد، لم يظهر سواها — روين.

وأعلنت هناك، ببساطةٍ مميتة:

“لقد حُكمَ عليكِ بالإعدام، يا روزي.”

لن أموت بهذه السهولة.

بلمحِ البصر، سحبتُ خنجرَيَّ من خصري واتّخذتُ وضعَ القتال.

“روين… تظنّين أنّك قادرةٌ على قتلي بمفردك؟”

ابتسمت بخبثٍ قائلة:

“أما زلتِ لم تفهميني بعد؟ يا للأسف… روزي الصغيرة كانت غبيّةً حتى النهاية.”

“…ماذا؟”

“هل تظنّين حقًّا أنني جئتُ وحدي؟”

أشارت بيدها، فخرج من وراء الجدار شخصان.

أليكس… وثيودور.

رفاقي في المشروع.

“أليكس! ثيو!”

ناديتُهما بلهفةٍ ممزوجةٍ بالرجاء.

ظننتُ أنّهما أتيا للوفاء بوعدهما، وأنّنا سنقتل روين ونفرّ إلى الحريّة.

فأليكس سيّدُ السموم، وثيودور ساحرٌ لا يُجارى.

لو قاتلا معي، لكان القضاء على روين أمرًا يسيرًا.

“لقد أتيتما… لم تنسيا وعدكما، أليس كذلك؟”

لكن وجهيهما كانا أكثرَ كآبةً من السماء الرماديّة فوقنا.

توجّستُ شرًّا.

عندها رفعت روين يدها وقالت بهدوءٍ آمرٍ:

“ثيودور، ابدأ.”

عضَّ ثيودور شفتَهُ بقوّة، ثمّ مدَّ يده تجاهي قائلًا:

“…آسف، روزي.”

وفي اللحظة التالية، خرجت من الأرض حولي كرومُ وردٍ سوداءُ ملتفّة، تشابكت حول قدميّ وصعدت كالأفعى لتقيّدني حتى وجهي.

“ثيو! ماذا تفعل!”

كنتُ أقاوم بعنفٍ حين تقدّم أليكس، حاملاً سيفه المطليّ بسُمٍّ قاتل.

لم أشأ تصديق ذلك.

لكنّه…

طعنة!

غرز السيف في بطني دون تردّد.

انفجرت داخلي موجةُ ألمٍ لاذع، واندفعت الدماء من فمي.

رفعتُ بصري إليه مذهولةً، فسمعتُه يهمس بصوتٍ كمن يتلو نذرًا مقدّسًا:

“إلى أن تسقط نجمةُ كاستيوم، ويغشى الظلامُ الأبديُّ الأرض.”

كان ذلك شعار مشروع الآرك.

قال أليكس بهدوءٍ عقائديٍّ بارد:

“روزي، إنّ حياة الآرك رسالةٌ منحنا إيّاها الإله الوصيّ «إيسكا». علينا أن نسلك هذا الطريق، ولو على جثثٍ لا تُحصى.”

“أليكس… أرجوك…”

لكن الألم كان يلتهمني من الداخل.

نظرتُ إلى ثيودور المرتجف، فقال بصوتٍ متهدّج:

“آسف، روزي… ألم تقل إيسكا إنّ من يركل مهمّته النبيلة بقدمه يُطرَد من السماء الجديدة؟”

ضحكتُ بمرارةٍ مختنقة.

حينها فقط أدركتُ أنّهما… خاناني.

روين قالت بابتسامةٍ حزينةٍ زائفة:

“يا للخسارة. كنتِ كابنتي يا روزي… لكن لا بأس. مشروعُ آرك جديد قد بدأ بالفعل. سأصنع ابنةً أخرى.”

تجمّدت أنفاسي.

هل أعادت تشغيل ذاك المشروع الجحيميّ؟

هل ستُساق مزيدٌ من الأيتام إلى الموت كما سُقتُ أنا؟

لا… لن أسمح بذلك…

لكنّ الموت لم يمهلني.

تلاشى كلُّ شيء، وغرقت رؤيتي في العتمة.

“وداعًا إذن، روزي.”

كانت تلك آخرَ كلماتٍ سمعتُها منهم، قبل أن يبتعدوا ويتركوني وحيدةً في البرد والموت.

‘هل هذه نهايتي؟ بعد كلّ هذا الجحيم؟’

شعرتُ بندمٍ يمزّقني.

أحقًّا يكون جزاءُ حياةٍ من الألم والخضوع والموت، أن أموت هكذا بلا معنى؟

لو وُلدتُ ثانيةً… فلن أقتل أحدًا بعد اليوم.

بل سأستخدم قوّتي لأحمي أحدهم هذه المرّة.

أغلقتُ عينيّ، وانهمرت دمعةٌ أخيرة…

يا للمسكينة.

ثمّ غمرني بياضٌ ناعم، وصوتٌ دافئ لم أعرفه قطّ همس في أذني…

ـــ “الآنسة روزي، هل أنتِ نائمة؟”

انبعث وعيي من أعماق الظلام، لكنّ أطرافي كانت ثقيلةً كالحديد.

كيف أسمع صوتًا بشريًّا؟ ألم أَمُت؟

“الآنسة روزي! استيقظي!”

هزّ أحدهم كتفيّ بعنف، فانطلقت غريزتي القديمة.

عشرُ سنواتٍ من التدريب جعلت ردّ فعلي واحدًا:

أوقِفِ الخطر. اقتل إن لزم الأمر.

فتحتُ عينيّ بغتةً، أمسكتُ بالمرأة، وانتزعتُ القلم من يدها، ووجّهته إلى عنقها.

صرخت المذعورة:

“ما الذي تفعلينه؟! لقد أغمي عليكِ أثناء المقابلة، وكنتُ أوقظكِ فحسب!”

“مقابلة؟!”

“نعم! مقابلةُ توظيفِ وصيفات القصر الإمبراطوري! سقطتِ مغشيًّا عليكِ فجأة!”

… ماذا تقول؟

أنا… متُّ مسمومةً على يد أليكس!

ثمّ كيف أكون الآن في مقابلةٍ لوظيفة وصيفةٍ في القصر؟

هل هذا… حلم؟

إن كان حلمًا، فيجب أن أستيقظ.

بلا تردّد، ضربتُ رأسي بالحائط.

طَخ!

انبعج الحجر، وسقط الغبار.

صرخت المرأة:

“آآاه! هل جننتِ؟!”

لكنني شعرتُ بالألم الحقيقيّ، بالارتجاج في جمجمتي.

هذا ليس حلمًا… أنا حيّة!

حدّقتُ فيها وسألتُ بجدٍّ صارم:

“ما التاريخ اليوم؟”

“آنسة روزي! امسحي الدم أوّلًا!”

“لا بأس، أجيبي.”

“في الحادي والعشرين من فبراير، السنة الإمبراطوريّة ستمئةٌ وثمانون!”

ستمئةٌ وثمانون… أي بعد عامٍ كاملٍ من موتي.

استيقظتُ بعد عام؟ وفي مكانٍ لا أعرفه؟

كنتُ أمسك رأسي بين يديّ محاولةً الفهم، حين سمعتُها تقول:

“هل أنتِ بخير؟ هل نتابع المقابلة؟”

“عذرًا… أظنّني اصطدمتُ برأسي حين سقطت، ما زلتُ مشوَّشة الذاكرة…”

“إصابةٌ في الرأس؟ إذن يجب إلغاء المقابلة فورًا.”

هزّت المرأتان الجالستان قربها رأسيهما موافقتين.

“لا يمكن توظيف وصيفةٍ مصابةٍ في رأسها، خصوصًا للعائلة الإمبراطوريّة.”

“بل الأفضل أن تُقصى فورًا، أقلّ عددٍ من المنافسات أفضل.”

نظرتُ إلى صدورهنّ فرأيتُ بطاقاتِ أسمائهنّ، فخفضتُ رأسي إلى بطاقتي لأجد الاسم مكتوبًا عليها بوضوح:

«روزي».

ما الذي يحدث بحقّ السماء؟

أمتُّ حقًّا؟ أم أُعيد بعثي؟ ولماذا هنا؟

“لا بأس، يمكنكِ الانصراف.”

قالت المسؤولة بنبرةٍ حاسمة.

“سنعتبر المقابلة كأنها لم تتمّ. تفضّلي بالخروج.”

“حسنًا…”

وبينما هممتُ بالمغادرة، لمحتُ البساط المفروش أرضًا وقد تلطّخ بدمائي.

إن تُرك هكذا، لن يزول الأثر.

خبرتي الطويلة في تنظيف مسارح الجريمة نبّهتني.

تناولتُ إبريق الماء البارد على المكتب وسكبته على البقعة.

تخفّف اللون الأحمر بسرعة، وتحوّل الورديّ إلى ظلٍّ خفيف.

صرخت المرأتان:

“هل فقدتِ عقلَك؟! هذا سجادٌ باهظ الثمن!”

“من أين أتيتِ بهذه الهمجيّة؟!”

لكنّ المسؤولة بقيت صامتةً تحدّق بي.

قلتُ بهدوءٍ مهنيّ:

“بقي أثرٌ بسيط. افركوه بالملح الخشن ثمّ امسحوه بالخل، سيزول تمامًا.”

اتّسعت عيناها دهشةً، فحيّيتُها بانحناءةٍ سريعة.

“سأغادر الآن. شكرًا لكم.”

غير أنّ صوتها الحازم أوقفني عند الباب:

“انتظري… توقّفي حالًا، يا روزي.”