3
كانت إليانور تتمشى في أحد أروقة القصر المزخرفة، تتأمل اللوحات القديمة لأسلافها، كل منهم ينظر من الإطار بعينين جامدتين، وكأنهم يذكرونها بأنها ليست أكثر من امتداد لسلسلة طويلة من التقاليد.
إلى جانبها كانت مارغريت تحمل سلة صغيرة مليئة بالزهور التي جمعوها صباحًا من الحديقة. قالت بابتسامة:
“أتعلمين يا سيدتي، لو لم تكوني أميرة، لكنتِ بائعة ورود سعيدة.”
ضحكت إليانور بخفة:
“وأنا سأبيع لكِ أرخص وردة، فقط لأنكِ صديقتي.”
قبل أن ترد مارغريت، ظهر المستشار جيرالد، الرجل النحيل ذو الوجه الجاد، يضع يده خلف ظهره ويقترب بانحناءة بسيطة.
“صاحبة السمو، لقد كنت أبحث عنكِ.”
تجمدت الضحكة على شفتيها، فهي لم تحب هذا الرجل أبدًا، صوته دائمًا يحمل شيئًا من التوبيخ المقنع.
“ماذا هناك هذه المرة يا جيرالد؟” سألت ببرود.
أجاب وهو يتفحصها كمن يقيم لوحة:
“لقد ناقشنا في المجلس الملكي أهمية المستقبل المستقر للمملكة… والاستقرار، كما تعلمين، لا يكتمل إلا بتحالفات قوية.”
رفعت إليانور حاجبًا وهي تقول بسخرية:
“آه، دعني أخمّن… تقصد الزواج.”
ارتبك للحظة ثم ابتسم ابتسامة باردة:
“أنتِ أذكى من أن يُخدع ذكاؤكِ، يا سيدتي. نعم، الأمر قيد الدراسة.”
ضغطت أصابعها على سلة الزهور حتى تساقطت بعض الأوراق، لكن ملامحها بقيت هادئة.
“أخبِر والدي العزيز أنني لست كتابًا يمكن تبادله بين مكتبات النبلاء.”
سكت جيرالد، وبدا أن كلمتها قد أغضبته، لكنه انحنى مرة أخرى وقال:
“سأنقل كلماتكِ… كما هي.” ثم غادر.
ظلت إليانور واقفة تحدق في اللوحات من جديد، وهمست لمارغريت:
“كأنهم جميعًا يحاولون تذكيري أنني مجرد أداة… أداة لورقة سياسية.”
لكن قبل أن يثقل الجو أكثر، ظهر توماس من بعيد، يركض خلف حمامة سرقت قطعة خبز من يده، وهو يصرخ:
“توقفي! هذا ليس لكِ!”
ضحكت مارغريت، والتفتت إليانور إليه وهي تبتسم رغم قلقها:
“أحيانًا أظن أن الله أرسل هذا الطفل خصيصًا ليُنقذني من هذه الهموم.”
___
مع أن قاعات القصر تضج دائمًا بالأوامر والهمسات السياسية، إلا أن حياة إليانور لم تكن كلها مقيدة بالصرامة. كانت تعرف كيف تخلق لحظاتها الخاصة، حتى لو كان ذلك بين الجدران العالية.
في الصباح، دخلت مارغريت إلى غرفة الأميرة وهي تحمل صينية الإفطار، تضعها على الطاولة بعناية وهي تبتسم:
“صاحبة السمو، إن لم تستيقظي الآن ستفوتكِ جولة الحديقة.”
فتحت إليانور عينيها بتكاسل، ثم قالت:
“آه… أحيانًا أشعر أنني محبوسة في سباق لم أطلب أن أشارك فيه.”
ضحكت مارغريت:
“على الأقل يمكنكِ النوم حتى وقت متأخر، أما أنا فعلي أن أستيقظ مع أول ضوء.”
جلسَتا تتناولان الطعام معًا كعادتهما. لم يكن بينهما حواجز، فمارغريت لم تكن مجرد خادمة، بل صديقة منذ الطفولة، تعرف أسرار الأميرة الصغيرة، وتفهم تقلباتها أكثر من أي شخص.
وبينما كانتا تتحدثان، انفتح الباب فجأة وظهر توماس وهو يركض حاملاً رغيف خبز أكبر من رأسه.
“صاحبة السمو!” صاح بمرح، “أحضرت لك خبزًا من والدي… لكنني أكلت نصفه في الطريق.”
أمسك بطنه وضحك.
وضعت إليانور يدها على وجهها محاولة كتم ضحكتها، بينما تمتمت مارغريت:
“أي طفل آخر كان سيُعاقَب لدخوله غرفة الأميرة دون إذن… لكنك بالتأكيد ستجدين عذرًا له.”
ردت إليانور وهي تأخذ قطعة من الخبز:
“لأنه الوحيد الذي يجعل القصر يبدو طبيعيًا، أليس كذلك؟”
جلس توماس على الأرض يروي مغامراته الصباحية مع قطة المطبخ، كيف حاول إطعامها قطعة لحم فسرقتها وهربت، وكيف سقط وهو يحاول اللحاق بها. كل حركة منه كانت كافية لتفجير الضحكات.
لكن وسط تلك البهجة، تسللت لحظة صمت قصيرة. نظرت إليانور من النافذة نحو الباحة حيث يقف الحرّاس بصرامة، وقالت بصوت خافت لا يكاد يُسمع:
“أحيانًا أفكر… هل سأظل دائمًا هنا؟ محاطة بالقيود؟”
لم تجب مارغريت، بل وضعت يدها بخفة على كتف الأميرة. أما توماس، الصغير البريء، فلم يفهم الحزن الذي مرّ كغمامة سريعة، فقال وهو يقفز واقفًا:
“إذا لم يسمحوا لك بالخروج… سأصنع لك جناحين من الخبز ونطير سويًا!”
انفجرت مارغريت بالضحك، حتى إليانور لم تستطع أن تمنع ابتسامتها.
وفي تلك اللحظة، بدا وكأن جدران القصر الصلبة لم تكن قادرة على كتم ضحكاتهم.
لكن ما لم تعلمه إليانور أن هذا الهدوء البسيط لم يكن إلا فاصلاً قصيرًا قبل أن يعود الضغط من جديد…
___
لم تكن قاعات القصر في ذلك الصباح إلا جدرانًا صامتة يثقلها صوت المعلّم وهو يتحدث بلا توقف عن تاريخ الحروب الملكية. جلست إليانور أمامه، كتفها مسندة إلى الطاولة، وقلمها يتمايل بين أصابعها بملل.
“في العام الرابع من عهد الملك ريكاردوس…” واصل المعلّم.
لكن ذهنها كان يسبح بعيدًا، يهرب من ثقل الكلمات كما تهرب الطيور من الأقفاص.
ما إن انتهى الدرس، حتى نهضت بخفة، وأسندت الكتاب الضخم على الرف ببطء كي لا يسمع أحد وقع صوتها، ثم تنفست الصعداء:
“لو سمعت قصة عن حرب أخرى، سأعلن حربًا بنفسي.”
اتجهت إلى الحديقة، حيث وجدت النسيم ألطف من هواء القاعات. هناك، كان توماس ابن الطباخ يجلس على العشب الأخضر، ساقاه متشابكتان، يحاول نحت笛 صغير من غصن جاف.
لكن ما إن اقتربت منه، حتى دوّى صوته عاليًا:
“أووووه لااا! توقفي أيتها السارقة الصغيرة!”
التفتت إليانور بخوف، لتجد قطة رمادية اللون تقفز بخفة ممسكة بقطعة لحم من صحنه. نهض توماس يركض خلفها بكل ما أوتي من طاقة.
ضحكت الأميرة لأول مرة منذ أيام، ضحكة صافية خرجت بلا تكلف. ثم رفعت أطراف ثوبها الطويل وركضت خلفه، تصرخ بحماس:
“إن أمسكتها يا توماس، سأمنحك تاجي!”
صرخ دون أن يلتفت:
“لا أريد تاجك! أريد خبزًا ساخنًا!”
ركضا بين صفوف الأزهار، يتعثران في العشب المبلل بالندى، بينما مارغريت من بعيد تكاد تفقد عقلها وهي تصرخ:
“يا سيدتي! انتبهي! ستسقطين في البركة!”
لكن إليانور لم تعبأ، كانت تشعر بحرية نادرة، كأنها خرجت من دورها كأميرة وأصبحت مجرد فتاة تركض في الحديقة. زلّت قدمها قليلًا فوق الطين، فتناثر على حواف ثوبها الأبيض، لكنها لم تتوقف، بل انفجرت ضحكًا أعلى.
وأخيرًا، توقفت القطة عند جذع شجرة كبيرة، وضعت الفريسة بين مخالبها وكأنها تنتصر. جلس توماس على العشب وهو يلهث، يتصبب عرقًا:
“انتهى الأمر… خسرت. القطط دائمًا تنتصر.”
جلست إليانور بجانبه، شعرها الفضي يلمع تحت أشعة الشمس، وقد أخذت نفسًا عميقًا ثم قالت بهدوء:
“ربما… لكننا استمتعنا بالمطاردة، أليس كذلك؟”
ابتسم توماس بخبث وهو يمسح أنفه بكمّه:
“أجل… باستثناء ثوبك المسكين، صار أقرب إلى قطعة طين!”
انفجرت ضحكًا مجددًا، ورمت عليه قليلًا من أوراق العشب:
“أيها الشقي!”
في تلك اللحظة، لم تكن أميرة، لم تكن ابنة ملك قاسٍ ولا وريثة عرش، بل مجرد فتاة تشارك صديقها مطاردة قطة، وتضحك كما لو أن العالم كله ليس سوى حديقة صغيرة.
لكن بينما تراقب القطة وهي تمضغ غنيمتها، عاد إلى ذهنها صوت المستشار جيرالد الذي كان بالأمس يلمّح لها عن “مستقبلها الملكي”.
ساد الصمت للحظة، ثم همست وكأنها تكلم نفسها:
“إلى متى سأستطيع الركض هكذا؟ إلى متى أستطيع أن أضحك قبل أن يجروني إلى مصير لم أختره؟”
لم يفهم توماس كلماتها جيدًا، لكنه رفع笛ه الخشبي غير المكتمل وقال بابتسامة عريضة:
“إلى أن أتعلم العزف على هذا، على الأقل!”
نظرت إليه، ثم ضحكت مرة أخرى، لكن هذه المرة ضحكة ممزوجة بالقلق.
___
المكتبة الملكية كانت هادئة، يغطيها الغبار القديم ورائحة الورق المعتّق. بالنسبة لإليانور، كانت المكان المثالي للهروب من الأحاديث المملة وحفلات الشاي.
وبينما كانت تمرّر أصابعها على الرفوف العالية، سمعت صوتًا خافتًا يقول:
“أوه… كيف يمكنني الوصول إلى هذا؟”
التفتت لترى فتاة تقف على أطراف قدميها، تحاول سحب كتاب من الرف العلوي. كانت تحمل في يدها كتابًا آخر، أثقل مما يناسب حجمها.
اقتربت إليانور وسحبت الكتاب المطلوب بسهولة، ثم ناولته لها بابتسامة:
“تفضلي… يبدو أنه مهم جدًا بالنسبة لك.”
أمسكته الفتاة بسرعة وقالت بجدية مفاجئة رغم خجلها:
“اسمه الأعشاب الطبية في الأراضي البعيدة… سمعت أحد الطباخين يقول إن البقدونس يساعد على تهدئة الأعصاب. لم أستطع النوم حتى أتأكد إن كان محقًا.”
تجمدت إليانور لثوانٍ قبل أن تضحك بصوت خافت:
“كل هذا العناء… من أجل البقدونس؟”
رفعت الفتاة ذقنها قليلًا بثقة رغم احمرار وجنتيها:
“بالطبع. لا أحب أن أترك الأمور غامضة… إن لم أجد الإجابة، سيبقى عقلي مشغولًا بها طوال الليل.”
ابتسمت إليانور وجلست على الكرسي المقابل:
“إذن أنتِ فضولية أكثر مما توقعت.”
ردت الفتاة بابتسامة صغيرة وهي تضم الكتاب إلى صدرها:
“ربما… لكن الفضول يجعل الحياة ممتعة، أليس كذلك؟”
تأملت إليانور وجهها للحظة، ثم مدّت يدها قائلة:
“إليانور.”
ترددت الفتاة لجزء من الثانية ثم صافحتها بخجل لطيف:
“روزالي. ابنة اللورد هاستنغز.”
ضحكت إليانور:
“تشرفنا، روزالي الفضولية.”
ضحكت روزالي أيضًا، تلك الضحكة العفوية التي بدّدت الصمت المهيمن على المكتبة. ومن تلك اللحظة، شعرت إليانور أنها وجدت شخصًا مختلفًا، بعيدًا كل البعد عن التكلّف والنفاق الذي يملأ القصر.
___
كانت شمس ما بعد الظهيرة تتسلل بخجل عبر ستائر القاعة الصغيرة التي اختارتها إليانور خصيصًا. أرادت أن تكون اللحظة بعيدة عن الرسميات الثقيلة التي تكرهها، مجرد حفل شاي بسيط يجمعها بصديقتها الجديدة روزالي.
وضعت الخادمة الصينية المصنوعة من الخزف الأبيض على الطاولة المستديرة، وزيّنتها بزهور بنفسجية صغيرة. جلست إليانور أولًا، بثوبها الفضي البسيط، ثم رحّبت بحرارة بروزالي حين دخلت، مترددة كعادتها.
“أردت أن يكون اللقاء هادئًا هذه المرة،” قالت إليانور بابتسامة دافئة، “من دون مراقبة السيدات الفضوليات أو أحكام النبلاء.”
جلست روزالي بخجل، عيناها تتأملان الأكواب بفضول:
“كل هذا… لأجلنا فقط؟”
ضحكت إليانور:
“بالطبع، أردت أن أتعرف عليكِ أكثر بعيدًا عن ضجيج القصر.”
بدأ الحديث بينهما يأخذ منحنى خفيفًا، من الكتب الغريبة التي تقرأها روزالي، إلى ذكريات الطفولة الطريفة لإليانور مع خادمتها الأولى. الجو كان مريحًا، حتى أن روزالي بدت أقل توترًا، وبدأت تضحك بصدق على بعض المواقف.
لكن الهدوء لم يدم طويلًا.
دخل توماس، ابن الطباخ، بابتسامة ماكرة، يحمل صينية مليئة بالحلويات. وضعها على الطاولة ثم قال بصوت مرتفع:
“أوه! لم أكن أعلم أن الأميرة تقيم حفلًا سريًا! يا له من شرف أن أكون أول المتطفلين!”
رفعت إليانور حاجبيها وقالت ببرود:
“توماس… لم أدعُك. من سمح لك بالدخول؟”
ابتسم الصبي بوقاحة وجلس على المقعد الثالث دون استئذان:
“أنا من سمح لنفسي. ثم… كيف يمكن ترك كل هذه الكعكات دون مساعدتي؟”
روزالي وضعت يدها على فمها تكتم ضحكتها، فقد بدا توماس وكأنه يستمتع باستفزاز الأميرة عمدًا. أخذ قطعة كعك وبدأ يأكل بطريقة مبالغ فيها، ثم قال:
“ممم! لذيذ! لكن… لماذا الكوب الثالث فارغ؟ هل تنتظران أميرًا وسيمًا؟”
احمر وجه روزالي خجلًا، بينما كتمت ضحكتها أكثر. أما إليانور، فقد ضربت الطاولة بخفة وقالت بحدة:
“توماس! إما أن تجلس بهدوء أو تخرج فورًا!”
رفع يديه متظاهرًا بالبراءة:
“أنا هادئ… انظري! لا أتكلم حتى.” ثم أخذ قطعة أخرى من الحلوى بسرعة.
تنهدت إليانور بغضب، لكنها حين رأت ضحكة روزالي الصغيرة لم تستطع أن تظل غاضبة تمامًا. في النهاية، رفعت الكوب وقالت بنبرة جادة:
“حسنًا، سأعتبرك ضيفًا ثقيل الظل. لكن كلمة واحدة أخرى منك… وسأجعلك تنظف المطبخ أسبوعًا كاملًا.”
ضحك توماس بصوت عالٍ، لكن حين التقت عيناه بنظرتها الصارمة، عقد ذراعيه واستسلم قائلًا:
“حسنًا… حسنًا، سأصمت.”
تابعت الفتاتان حديثهما، بينما جلس توماس يحدق بالحلويات متذمرًا بصمت. وبرغم إزعاجه، كان ذلك اليوم بداية لصداقات ستتشابك وتكبر، كخيوط غير مرئية تجمعهم داخل أسوار القصر.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"