2
في اليوم التالي، لم يكن في القصر صوت يعلو فوق صوت الفضيحة.
الخدم يتناقلون الأخبار، الحرس يتهامسون عند الأبواب، حتى البستاني المسن رفع رأسه من بين الأزهار ليسأل الطباخ:
“هل يعقل أنها قالت ذلك أمام الجميع؟”
ضحك الطباخ وهو يهز رأسه:
“لقد قالت أكثر مما يجرؤ عشرة رجال على قوله. لو لم أرَها بعيني لما صدقت.”
أما توماس الصغير، فراح يقلّد الأميرة في المطبخ، يقف فوق صندوق خشبي، يرفع ذقنه ويقول بصوت جهوري:
“لن أكون ورقة لعب!”
وانفجر الخدم من حوله بالضحك.
لكن لم يكن الجميع مسرورًا.
إحدى وصيفات البلاط تمتمت بوجه متجهم:
“لقد جلبت العار على القصر. النبلاء لن ينسوا هذا قريبًا.”
مارغريت كانت تراقب بصمت، قلبها ينقبض.
كانت تعرف أن كلمات الأميرة ستثير غضبًا أعمق مما يظنه الناس. ومع ذلك، حين دخلت جناح إليانور، وجدت الفتاة جالسة قرب النافذة، هادئة بشكل مدهش.
قالت مارغريت بحذر:
“الجميع يتحدث عنك يا سيدتي… بعضهم بإعجاب، وبعضهم بازدراء.”
أجابت إليانور بابتسامة خفيفة:
“ليقولوا ما يشاؤون. على الأقل لم أكذب.”
…
في أروقة القصر، بدأت الأصداء تصل إلى أبعد مما توقعت.
بعض النبلاء رأوا في تمردها دليلًا على “خطر”، وراحوا يتناقشون في مجالسهم:
“فتاة كهذه قد تُضعف هيبة العرش.”
“بل قد تجلب أنصارًا أكثر مما تظن.”
حتى الحراس على الأبراج صاروا يتهامسون:
“تظن أنها ستُجبر على الاعتذار؟”
“لا، هذه الفتاة رأسها أصلب من الصخر.”
…
في المساء، اجتمعت إليانور مع توماس في الحديقة الخلفية حيث لا يصل أحد.
أحضر لها الصبي تفاحة مسروقة من المطبخ وهو يقول بفخر:
“أنتِ بطلة القصر الآن! الجميع يقلدك!”
ضحكت إليانور للمرة الأولى منذ أيام، وأخذت التفاحة منه:
“إذن أصبحتُ مسرحية كوميدية لهم؟”
هز رأسه:
“لا… أصبحتِ الأمل الوحيد.”
نظرت إليه مطولًا، ثم إلى السماء حيث تتلألأ النجوم، وأدركت أن كلمات طفل قد تكون أصدق من كل كلمات النبلاء.
كان القصر أشبه بخلية نحل مضطربة بعد المأدبة الأخيرة.
الخدم يتهامسون في الممرات، الحرّاس يتبادلون نظرات سريعة كلما مرّت إليانور، وحتى الطهاة صاروا يخفضون أصواتهم حين يذكرون اسمها.
لقد سمع الجميع كلماتها الجريئة، وعرفوا أن الأميرة لم تعد مجرد فتاة هادئة تسير على ما يُرسم لها.
إليانور، رغم ذلك، كانت تتصرّف وكأن شيئًا لم يحدث.
تبادل الابتسامات مع البواب حين يفتح لها البوابة الداخلية، تجلس في المطبخ أحيانًا لتتذوق طبقًا جديدًا، وتضحك على نكات توماس الصغير، ابن الطباخ، الذي لم يكفّ عن إلقاء الدعابات الطفولية.
“أيتها الأميرة، هل تعلمين أنني سأكون فارسًا ذات يوم؟” قال توماس وهو يلوّح بملعقة خشبية ضخمة كأنها سيف.
ابتسمت إليانور بخفة:
“فارس المطبخ، ربما؟”
ضحك توماس وضحك الطهاة من حولهم، فامتلأ المكان بدفءٍ نادر لم تعهده في القصر.
لكن، في قلبها، لم يغب عنها الثقل.
كل همسة تسمعها في الممرات تذكّرها بضغط والدها، وكل نظرة من النبلاء توحي بأنهم ما زالوا يخططون لها مصيرًا لم تختَرْه.
في المساء، جلست أمام النافذة الكبيرة، ينسدل شعرها الفضي على كتفيها، تحدّق في أضواء المدينة البعيدة.
“حتى متى سأظل مجرد ورقة بين أيديهم؟” فكرت.
لكنها سرعان ما أغلقت عينيها وتنفست بعمق:
“ليس بعد الآن… سأصمد، وسأصنع لنفسي مكانًا لا يستطيعون انتزاعه.”
كان صباح القصر مختلفًا ذلك اليوم، إذ قرّر توماس، ابن الطباخ، أن يصبح “بستانيًّا شجاعًا” ليثبت للأميرة أنه قادر على أي شيء.
حمل دلواً صغيرًا من الماء، وارتدى قبعة قش كبيرة سرقها من المخزن، وراح يركض بين أحواض الزهور وكأنه يقود معركة بطولية.
إليانور كانت تراقبه من بعيد بينما تسير في الممر الحجري بين الورود. ابتسمت حين صرخ توماس:
“أيها الجنود! احموا الزنبق من هجوم الأرانب!”
ثم اندفع مسرعًا، فانزلق على العشب المبلل ليسكب نصف الدلو على نفسه.
ضحك الحرّاس الذين اعتادوا صرامة أجواء القصر، وحتى البستاني العجوز لم يتمالك نفسه.
أما إليانور فركضت نحوه، أمسكت بيده وساعدته على النهوض، بينما كان يضحك من قلبه وكأن السقوط لم يكن إلا انتصارًا صغيرًا.
“لقد… لقد أنقذت الزهور!” قال توماس بفخر، وهو يقطر ماءً من رأسه حتى قدميه.
أجابت إليانور بنبرة جادة مصطنعة:
“أحسنت يا قائد الزنبق، ستنال وسام الشجاعة قريبًا.”
وهكذا ضحك الجميع مرة أخرى، وامتلأت الحديقة بدفء نادر غاب عن القصر منذ زمن.
لكن بعيدًا عن الضحكات، كان هناك من يراقب من شرفة عالية: أحد المستشارين المقرّبين من الملك.
نظر إليهم بعين ضيقة، ثم تمتم لنفسه:
“الأميرة تكسب القلوب… وهذا قد يشكل خطراً أكبر من رفضها الزواج.”
في تلك اللحظة، بينما كانت إليانور تمسح الوحل عن يد توماس الصغيرة، لم تكن تدري أن هذه اللحظات البسيطة من الفرح ستتحول قريبًا إلى أداة يستخدمها والدها ضدها.
في تلك الليلة، غمر القصر صمت ثقيل لا يقطعه سوى صوت الريح وهي تعانق النوافذ العالية.
جلست إليانور قرب النافذة في غرفتها، وقد أرخى القمر فضته على خصلات شعرها، فبدا وكأن الليل كله انعكس عليها.
كانت تمسك بدفتر صغير اعتادت أن تخط فيه كلمات عابرة، ليست أوامر ولا حسابات، بل مجرد خواطرها:
عن الحرية التي لم تذقها بعد، وعن رغبتها في أن تُرى كامرأة بكيانها، لا كسلعة سياسية.
طرق خفيف على الباب قطع شرودها.
“أدخل.” قالت بهدوء.
ظهرت مارغريت، تحمل بيدها صينية صغيرة عليها كوب من الحليب الدافئ.
“فكرتُ أنك لم تتناولي شيئًا منذ العشاء،” قالت بابتسامة رقيقة.
وضعت الصينية قربها وجلست على الأرض، كما اعتادت منذ الطفولة.
“أتعلمين يا مارغريت؟” بدأت إليانور حديثها، وعيناها لا تفارقان القمر.
“أشعر أحيانًا أن القصر ليس سوى قفص جميل. الجميع يراه براقًا، لكنني أرى قضبانه.”
ترددت مارغريت قليلًا قبل أن تجيب:
“صحيح… لكنه قفص فيه قلوب تحبك. رأيت اليوم كيف يضحك توماس معك، وحتى الجنود يبتسمون عندما تمرين بينهم.”
ابتسمت إليانور بخفة، ثم قالت:
“القلوب لا تكفي، إن لم يكن لي حق أن أقرر مصيري.”
سكتتا لحظة، لم يبقَ سوى صدى الليل، ثم أضافت إليانور بصوت خافت:
“أحيانًا أحلم أنني أعيش بعيدًا، بلا تيجان ولا عروش، فقط أختار ما أريد.”
مدّت مارغريت يدها تمسك بيد سيدتها كما فعلت في طفولتها:
“وحتى ذلك اليوم، سأبقى بجانبك… مهما حدث.”
كلماتها كانت بسيطة، لكنها اخترقت قلب إليانور كعهد قديم لا يتزعزع.
رفعت الأميرة عينيها نحو القمر من جديد، وفي داخلها شعور غامض بأن هذا الهدوء لن يطول، وأن الأيام القادمة ستنتزعها من دفء هذه اللحظات البسيطة.
ازدانت القاعة الكبرى في القصر بأبهى الثريات الكريستالية التي انعكست أضواؤها على الأرضية الرخامية البيضاء، بينما انطلقت الموسيقى الناعمة تعزف أنغامًا كلاسيكية، تضفي على الجو مزيجًا من الأبهة والبرود.
كان النبلاء متجمعين في ثيابهم الفاخرة، يتحدثون بضحكات مصطنعة، وكل واحد منهم يحرص على أن يُظهر نفسه أقرب إلى السلطة.
وقفت إليانور عند المدخل مرتدية فستانًا حريريًا أزرق بارد اللون، يبرز فضة شعرها، لكنها بدت كزهرة موضوعة في مزهرية من ذهب، جميلة لكن محاطة بالقيود.
إلى جانبها مارغريت التي كانت تهمس لها بين الحين والآخر لتخفف عنها رهبة الموقف.
أُعلنت الأبواب الضخمة، فدخل الملك غريغوري والملكة كاميلا، بخطوات رسمية تثير الهيبة. لم يكن حضورهما متكررًا في حياة إليانور، لكن في هذه الليلة اختارا أن يظهرا أمام الجميع، لسبب لم تفهمه بعد.
جلس الملك على عرشه القصير في رأس القاعة، بينما جلست الملكة بجانبه، ابتسامة دقيقة لا تصل إلى عينيها تعلو شفتيها.
وقف كبير الحاشية ليعلن:
“هذه الليلة ليست فقط احتفالًا بسلام المملكة… بل أيضًا مناسبة لتقديم سمو الأميرة إليانور أمام مجتمع النبلاء بصفتها الوريثة الشرعية للعرش.”
شعرت إليانور بقبضة تخنق صدرها، لكنها أجبرت نفسها على التماسك.
اقترب منها الملك، وضع يده الثقيلة على كتفها وقال بصوت عالٍ يكفي ليُسمع الجميع:
“ابنتي الجميلة… لقد حان الوقت لتتحمل مسؤولياتها. لن تبقى طفلة بين جدران القصر بعد اليوم.”
انحنت بعض السيدات، وبدأت همسات تتطاير في القاعة.
أضافت الملكة بصوت ناعم لكنه حاد:
“جميع النبلاء هنا يرغبون برؤية مستقبل المملكة في أيدٍ قوية… وهذا المستقبل لا يكتمل إلا بتحالف يليق بمكانتنا.”
فهمت إليانور المعنى المخفي. كانا يلوّحان بفكرة الزواج.
شعرت مارغريت خلفها بالقلق، وهمست: “تماسكي يا سيدتي…”
لكن إليانور ابتسمت ابتسامة متحفظة أمام الجميع، وأجابت بصوت واضح:
“إن كان المستقبل يخص المملكة، فسأتحمل واجبي… لكنني أؤمن أن اختياري الشخصي جزء من هذا الواجب.”
ساد صمت ثقيل للحظة، ارتفعت بعدها بعض الهمسات المتفاجئة.
قطّب الملك جبينه، وضغط على كتفها بشدة كأنه يذكرها بمكانها.
لكن إليانور لم تخفض عينيها هذه المرة، بل ثبتت نظرتها الهادئة نحو الحاضرين.
كانت تلك اللحظة بداية صراع معلن، حيث فهمت المملكة أن الأميرة ليست مجرد دمية في يد الملك والملكة.
الموسيقى عادت تعزف، لكن الجو في القاعة لم يعد كما كان.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"