الفصل التاسع
“في حضن الدفء… وعلى حافة الغياب”
المنزل الجبلي – صباح اليوم التالي
خيوط الشمس الأولى تسللت بخجل من زجاج النوافذ، تُلامس الأرضية الخشبية وتداعب وجهيهما برقة.
كانت المدفأة ما تزال تهمس بنيرانها الخافتة، والدفء يملأ المسافة الصغيرة بين جسدين ناما متقاربين كأن الليل ضمّهما بعناية.
فتح جان عينيه ببطء، شعر بذراع إيليف على صدره، وتنفسها المنتظم يلامس عنقه.
لم يُرد أن يوقظها… نهض بهدوء، سحب الغطاء بلطف عليها، ثم توجّه نحو المطبخ الصغير ليُعد القهوة.
الرائحة بدأت تعبق في المكان، وشيء من الهدوء الداخلي تسرّب إليه، كأن الفوضى التي كانت تملأه قد هدأت مؤقتاً .
حين عادت الحياة إلى الغرفة، كانت إيليف قد فتحت عينيها، تنظر إليه وهو يقترب بكوبين في يده
“صباح الخير.”
قالها بصوت ناعم، وجلس بجانبها.
ابتسمت بخفة، حاولت أن تجلس وكتفاها ما يزالان تحت الغطاء.
تناولت منه الكوب، وأول ما لاحظه كان ذلك القلق العميق المختبئ في عينيها.
“تفكرين كثيراً؟”
سألها، وهو يتأمل وجهها.
همست بعد لحظة صمت:
“جان… وماذا بعد؟”
تأملها طويلاً، ثم وضع كوبه جانباً وقال بنبرة لا تخلو من الجرأة:
“سأتقدّم لخطبتك. قريباً. ربما بعد يومان …. سأتكلم مع جدي.”
رفعت حاجبيها بدهشة، قبل أن تهمس بخفوت:
“جدي ؟ هل تعتقد أنه سيوافق؟”
ابتسم جان، لكن في ابتسامته نبرة من العناد اللطيف:
“إن لم يوافق…”
اقترب أكثر، وقال بنبرة نصف مازحة ونصف جادة:
” سأخطفك، و نهرب بعيداً.”
ضحكت إيليف بخفة، لكن عينيها امتلأتا بالدموع.
لم تكن الضحكة سخرية، بل ارتياحاً .
ثم تمتمت:
“مجنون…”
ردّ بصوت هادئ، صادق:
“ربما… لكنني وجدت شيئاً يستحق أن أكون مجنوناً لأجله.”
ثم أسند ظهره إلى الأريكة، وهي اقتربت منه بهدوء، تستند إلى كتفه، وكأنها وجدت مكانها.
وفي الخارج، كانت الأشجار تتمايل بلطف، وكأن الطبيعة كلها تصغي لوعد صامت ينمو بين اثنين يعرفان وجع البدايات… و لذّة التمسك رغم كل شيء.
»»»»»»»»»»»»»»»»»»»
بعد مرور ساعات طويلة ثقيلة على قلب مارت …
فتح مارت باب غرفة جان ببطء، وألقى نظرة داخله، فلم يجد أثراً له.
همس لنفسه، بصوت خافت يعلوه شيء من القلق:
“يبدو أنّه لم يعد منذ ليلة البارحة…”
تقدّم بخطى متثاقلة، كأن كل خطوة كانت أثقل من سابقتها، وجلس على حافة السرير.
نظر حوله بصمت، وكأن المكان بات غريباً عنه بغياب صاحبه.
ثم تمتم بصوت متعب، بالكاد يخرج من صدره:
“هل سيعود إلى عزلته مجدداً…؟”
تنهد بعمق، وكأن الألم يُثقل صدره أكثر من اللازم، وأضاف:
“جان… لا تفعل بي هذا. لا تدفعني بعيداً عنك مرة أخرى…”
أسند مرفقيه إلى ركبتيه، وانحنى للأمام، رأسه بين كفيه، يستمع لصمت الغرفة كأنّه يترقّب عودة الصوت الذي يفتقده
رفع مارت رأسه ونظر نحو الباب المفتوح، كأنه يتمنى أن يظهر جان فجأة ويقطع عليه هذه الوحدة الثقيلة.
همس بصوت بالكاد يُسمع:
“لقد كنا بخير… أليس كذلك؟ خطوات صغيرة نحو الضوء، لماذا عدتَ فجأة إلى الظلام؟”
وقف ببطء، التفت حوله، نظر إلى الستارة المرتجفة بفعل الريح، ثم سحب الغطاء على السرير كأنه يحاول ترتيب شيء من الفوضى التي تركها جان خلفه.
“إن لم تكن قادراً على الحديث، فقط… لا تختفِ.”
ثم غادر الغرفة متوجهاً ألى شقة ساردار ، يغلق الباب خلفه بصمت يشبه الاعتذار
المنزل الجبلي – عند باب المدخل
جان واقفُ أمام الباب، يُغلق أزرار معطف إيليف واحدة تلو الأخرى، بتركيز يشبه الطقوس الصغيرة التي لا يُراد لها أن تنتهي.
أما إيليف، فكانت تنظر إليه برقة صامتة، نظرةً تحمل من الطمأنينة أكثر مما تحمله الكلمات.
حين أنهى زرّ المعطف الأخير، رفعت عينيها وسألته بنبرة هادئة
إيليف:
“هل أنت متأكد أنك بخير الآن؟”
توقّف للحظة، ونظر في عينيها، كأنّه يبحث عن إجابة لا يثق بها تماماً ، ثم تنفّس ببطء وقال
جان:
“بصراحة… لا أعلم.”
ثم ابتسم بخفة، و أضاف
“لكن عندما أكون معك… أشعر و كأنني بخير.”
ثم، كعادةٍ قديمة بينهما، قرص أنفها بلطف وهو يبتسم بمكر طفولي وقال
:
“أنتِ حبّة المسكّن الخاصة بي…
دوائي حين تتعب روحي.”
ضحكت إيليف بخفة، وانخفضت عيناها للحظة، ثم رفعت نظرها إليه مجدداً، وفيها لمعة حب لا تحتاج إلى تصريح
“سأتصل بك حين أعود إلى المدينة…
قالتها إيليف، ممسكة بكفه بلطف
أومأ جان، وهو يفتح الباب لها
شقة ساردار – بعد الظهر
فتح مارت الباب بهدوء، ووجهه يحمل قلقاً صاخباً يُخفي وراءه تعبً عميقاً.
كان ساردار يجلس قرب النافذة، يطالع كتابه، فرفع نظره سريعاً حين لمح ملامح مارت.
ساردار
(ينهض بسرعة، يلاحظ ملامحه)
“مارت؟ ما بك؟ تبدو كمن خرج لتوه من كابوس.”
مارت
(يدخل ويغلق الباب خلفه)
“جان لم يعد إلى البيت منذ ليلة البارحة.”
ساردار
(متعجباً)
“ماذا؟ هل حدث بينكما شجار؟”
مارت
(يجلس على طرف الأريكة، يتنفس بثقل)
“لا… ليس شجاراً. فقط… تحدثت معه، كما لم أفعل من قبل.”
ساردار
(يجلس مقابله، يركز)
“عن ماذا؟”
مارت
(ينظر إلى الأرض، كأنه يسترجع المشهد)
“عن والديّ… عن تلك الليلة التي فقدناهم فيها. قلت له كم أفتقدهم، وكيف أن ضحكتهم ما تزال تملأ البيت أحياناً.”
ساردار
(بصوت منخفض)
“وكيف ردّ؟”
:مارت
“لم يقل شيئاً تقريباً. فقط… تجمّد، كأن كلماتي أصابته في مكانٍ لا يُشفى. قال: كفى… ثم نهض وغادر. لم أره بعدها.”
ساردار
(بهدوء، بتعاطف)
“ربما لم تكن كلماتك جارحة، بل الألم الذي لم يتعلّم كيف يحمله.”
مارت
(بصوتٍ مخنوق)
“ما كنت أحاول جرحه… أردت فقط أن أفتح له الباب. أن نكون أخوين، لا مجرد اثنين تحت سقفٍ واحد.”
يصمت، يمرر كفه على وجهه، ثم يهمس
مارت:
“أشعر أنه يختبئ خلف شيء أكبر منا… شيء لا يقوى على مواجهته.”
ساردار
(ببطء):
“جان لم يتحدث قط، لا معي، ولا مع أحد. نحن لا نعرف ما يدور بداخله حقاً.”
مارت
(ينظر إليه منهكاً)
“لهذا حاولت… تمنيت أن أكون البداية. لكن يبدو أنني فقط… كسرت شيئاً آخر بداخله.”
ساردار:
“أحياناً، حين نفتح الباب على الضوء… يهرب من لم يعتد عليه.”
يسود الصمت، وتتداخل مشاعر الخوف و الذنب بينهما.
ينهض مارت، يتجه نحو النافذة، يفتحها قليلاً، ينظر نحو الشارع المغمور بغروبٍ صامت
مارت:
“أخشى أنه يعود إلى الظلام الذي خرج منه بصعوبة…
ويبعدني عنه… وأنا لم أعد قادراً على تحمّل ذلك مجدداً.”
»»»»»»»»
أوقف جان السيارة أمام البيت، وبقي جالساً خلف المقود للحظات.
عينيه ثابتتان على الباب، وأنفاسه تخرج ببطء، كأنّه يحاول تهدئة شيءٍ يتخبّط بداخله.
أخذ نفساً عميقاً، وأغلق عينيه لثوانٍ، ثم فتح الباب أخيراً ونزل.
كان الهواء ساكناً، والبيت هادئاً كعادته.
دخل بخطى مترددة، ألقى المفاتيح على الطاولة الصغيرة عند المدخل، ونظر حوله…
لا أحد
أخرج هاتفه، واتصل بإيليف.
وفيما كان ينتظر ردّها، وقعت عيناه على اللوحة القديمة المعلّقة على الحائط – صورة جده، بريشة فنانٍ بارع، تبدو فيها ملامحه أكثر وقاراً مما في الواقع.
تأمل اللوحة بصمت، ولم يكن يعلم أنّ الجد يقف بعيداً، خلف باب الصالة، يُراقبه دون صوت، .
إيليف (من الهاتف، بنعومة):
“هل وصلت؟”
جان :
“نعم… وصلت. إيليف، الليلة سأتحدث مع جدي. سأطلبك رسمياً. لا تقلقي.”
إيليف : لنؤجل الموضوع …لم يبقى شيء على امتحانات نهاية السنة
جان : كلا…سأتكلم معه الليلة
إيليف:
“بكل الأحوال، اليوم تجمع العائلة… سأراك مساءاً، وتخبرني بما حدث. حسناً؟”
جان (بهدوء):
“حسناً.”
أغلق الهاتف، دون أن يلتفت.
ظلّ واقفاً مكانه للحظة، ثم أدار وجهه مبتعداً عن اللوحة.
وفي تلك اللحظة، كان الجد قد انسحب من عند باب الصالة بهدوء، دون أن يشعر به جان… كأنه لم يكن هناك.
دلف إلى مكتبه دون أن يُصدر صوتاً، و أغلق الباب خلفه كأنما يُغلق فصلاً كاملاً من المشاعر المكبوتة.
توجه مباشرة نحو الخزانة، أخرج زجاجة صغيرة قديمة، وسكب قطرات في كوب زجاجي لم يمسّه منذ زمن، ثم جلس خلف مكتبه.
“لم يكن غاضباً… فقط، عادت ملامحه إلى أصلها: صمتٌ بارد كالجليد
“خطبة؟”
قالها كأنّها كلمة عالقة في حلقه.
أسند ظهره إلى الكرسي، وحدّق في الفراغ أمامه طويلاً، ثم تمتم بصوتٍ خافت، كمن يحدّث شبحاً قديماً
“ها قد مدّ يده من جديد، هذه المرة ليأخذ ما تبقّى.”
أخرج صورة قديمة من الدرج – صورة لابنه الراحل، وإلى جواره جان ومارت صغيران.
نظر إلى ملامح الطفل الذي يشبه جان، وعيناه تزدادان قسوة.
“أنت السبب.”
قالها دون ارتجاف.
“لم أنسَ ذلك اليوم …ولن أنساه ما حييت …سلبت مني ولدي .”
أعاد الصورة بقوة إلى الدرج، وأغلقه.
“مارت يذكرني بأباه … أما أنت، تذكرني بمَن أخذه.”
نهض من مكانه، وراح يتمشّى ببطء داخل الغرفة، كأن الغضب يسير تحت جلده ببرودة قاتلة.
“والآن تريد خطبة إيليف؟ هي أيضًا حفيدتي، لكنها لا تعرف الحقيقة… لا تعرف من أنت فعلاً، ولا ما حملته إ
ليّ منذ تلك الليلة.”
توقف، نظر من النافذة إلى باحة المنزل:
“لن تنعم بشيء، لا بالحب، ولا بالسلام… ولا حتى بالوهم الصغير الذي تعيشه.
ثم أكمل بصوت أكثر صلابة
“ستدفع الثمن… كل يوم. بهدوء، كما لو أن الحياة نفسها تُعاقبك دون أن ترفع صوتها.”
التعليقات لهذا الفصل " 9"