الفصل الخامس والعشرون
“كل الطرق تؤدي إلى الذنب”
إسطنبول – منزل عائلة آصلان – المساء – المدخل الرئيسي
عاد مارت من منزل والديه القديم، لكنّه لم يكن كما ذهب.
الخطوات التي حملته في البداية كانت تبحث، تأمل، تتمسك ببصيص أمل…
أما الآن، فهي تمشي ببطء، كأنها تحمل وزنه مع الذكريات التي أيقظها ذلك المكان.
فتح باب منزل جده بصمت،
دخل و عقله لا يزال هناك — في ذلك المنزل، في تلك اللحظة، في انعكاس المرآة المتشقق.
أصوات العائلة تتصاعد من الصالة: ضحكات، محادثات دافئة، وأكواب تُقرع ببعضها في عشاء عائلي لا يعلم أحد فيه أن مارت قد عاد بشيء مكسور.
بينما يخلع حذاءه بهدوء، ظهرت الخادمة العجوز من الممر.
نظرت إليه بقلق ناعم، وكأنها قرأت الشحوب على وجهه دون أن تسأل.
الخادمة (بصوت حنون):
“سيد مارت… تأخرت. جدّك سأل عنك أكثر من مرة.”
توقف مارت لحظة، رفع نظره إليها.
مارت (بصوت منخفض):
“أين هو الآن؟”
الخادمة:
“في المكتب. لم يخرج منه منذ العصر.”
أومأ برأسه ببطء، دون أن يقول شيئاً
ارتدى خُفَّه المنزلي
ثم تابع طريقه نحو المكتب…
بخطى بطيئة، وصدر مشحون.
كأنه لا يمشي على أرض… بل على شظايا قرارٍ يعرف مسبقاً أنه سيكسر شيئاً ما.
فتح مارت باب المكتب بهدوء،
لم يطرق… لم يعلن حضوره، كأنه اقتحم المكان بصمته فقط.
كان الجد جالساً خلف مكتبه، يوقّع بعض الأوراق بعناية روتينية.
رفع رأسه فور دخول مارت، فتجمّدت يده فوق الورقة الأخيرة.
مارت لم يقل شيئاً.
اقترب ببطء، وجلس على الكرسي المقابل،
أسند ظهره المتعب، وأرخى جسده كأنّه لم يعد يملك طاقة للمواجهة.
عيناه حمراوان، وصدره يعلو بهدوء ثقيل.
حدّق الجد في وجه حفيده بصمت…
في نظرته المطفأة، في ارتخاء كتفيه، في تلك الهالة الغريبة التي غلّفته.
ثم فجأة…
رَمى مارت الهاتف على سطح المكتب.
سقط الهاتف أمام الجد بصوت خافت… لكنه دوى في الغرفة كصفعة.
مارت (بصوت واهن، دون أن ينظر إليه):
“كنت تعلم… أن الهاتف معه.”
أسند رأسه للخلف، يحدّق في السقف،
كأنه يقول الحقيقة لا لجده، بل للغرفة كلها.
صمت يطبق على المكان.
والجد… بقي ينظر للهاتف للحظة طويلة،
كأنه لا يرى جماداً… بل جرحاً.
سحب مارت نفساً ثقيلاً وهو يسند رأسه إلى ظهر الكرسي، لا تزال نظراته معلّقة بالسقف، كأنه لا يريد أن يرى وجه من أمامه.
لكن الجد تحرّك أخيراً، وضع قلمه جانباً، ونظر إليه بعين قلقة.
الجد (بصوت مبحوح):
“مارت… بني…”
لكن مارت قطع كلماته دون أن يلتفت إليه.
مارت (بصوت متكسّر، ممتزج بغضبٍ خافت):
“لا تقلها… لو كنتُ ابنك فعلاً، لما فعلتَ بي هذا.”
صمت، ثم مدّ يده المرتخية وأشار نحو الهاتف على الطاولة:
مارت:
“كنتَ تعلم أن الهاتف معه.”
الجد (يحاول السيطرة على نبرته):
“أرسلتُ الفيديو لوالدك… مارت.”
مارت (ينفجر فجأة، يضرب الطاولة بقبضته):
“والدي مات!
مات منذ زمن بعيد!
وأنت… أرسلته لجان. أردته أن يتعذّب، أن ينكسر.
للمرّة الثانية… استخدمتني لطعنه.”
الجد (بهدوء متماسك، كمن يتوقع هذا الانفجار):
“مارت… أنت من أتيت إليّ وطلبت أن تتزوج إيليف.”
مارت (بمرارة، بصوت يرتجف):
“نعم… معك حق.
أنا من قتل أخي، بتصرّفاتي الغبية.
لكنك استغللت ذلك لتكمل انتقامك.
كنتُ أعتقد… أنني مختلف، أنني على الأقل… أحد أحبّاء قلبك…
لم أظنّ يوماً أنك ستطعنني مرة أخرى.”
ساد صمت مشحون.
الجد لم يجب مباشرة. نظر إلى حفيده، وتلبّست نظراته ندماً لم يعتد إظهاره.
الجد (بصوت متردد):
“أنا آسف، مارت… تعلم كم أحبك، بني… لكن—”
مارت (بجمود وقسوة ينضر بعيني جده مباشرة ):
“لن أبقى في هذا المنزل.
ولن ترى وجهي مرة ثانية.”
الجد (ينهض بغضب مصدوم):
“مستحيل، مارت!
لن أسمح بذلك!”
لكن مارت بقي جالساً، كأنّ كلماته لم تُقال عبثاً .
مارت (بصوت متهدج، عميق، مليء بالخذلان):
“أنت دمّرتني، جدي.
جعلتني سكيناً أغرزها في قلب أخي.
سلبتني عائلتي، كل ما أملك.
جان… جان هو كل ما تبقّى لي.
كان سيئاً؟ ربما.
كان معقّداً؟ نعم.
لكنّه كان أخي…
كان حيث أنتمي.
بدونه، أنا يتيم حقاً.”
الجد يتقدم ويجلس قبالة مارت ممسكاً بيده (يرد بعنف عاطفي):
“لا تقل ذلك!
لست يتيماً، أنا عائلتك!
حميتك، أحببتك، بنيت لك بيتاً من كل أفراد عائلتي اجبرتهم ليبقوا بقربك ، يجتمعون في كل عطلة ، كي لا تشعر بالوحدة!”
مارت ( يهز رأسه موافقاً بنبرة موجعة):
“وأنا كنت ممتناً… “
يسحب يده من يد جده ويكمل بخيبة :
“لكن لا أحد منهم كان عائلتي”.
كل واحد منهم يذهب آخر اليوم إلى بيته… إلى عائلته.“
يشير بأصبعه المرتجف نحو قلبه :
“وأنا؟
أنا كنت أعود إلى اللا أحد.
جان… فقط جان…
عائلتي.
كان بجانبي في كل لحظة، يتبعني كظلي، يلبس قناع البرود لكنه…كان يفديني بروحه ….. كان قلبي.
هو لم يكن أخي فقط… كان أبي،.”
الجد (يفقد أعصابه، يصرخ):
“جان قاتل!
قتل والديك، وأنا ساعدتك لتنتقم!
كان عليك أن تشكرني!”
مارت (ينهض ببطء، نبرته قاتمة):
“أشكرُك؟
على ماذا؟
على أنك جعلتني قاتلاً ؟
هو كان مجرد طفل عندما اخطأ
لكن أنا لست طفلاً “
يصمت لثواني يهز رأسه نافياً :
أنت… لن تفهم ألمي أبداً.”
توجه نحو الباب دون تردد، يهمّ بالرحيل.
لكن صوت الجد أوقفه فجأة، ببرود مشوبٍ بنيران مضمرة:
الجد:
“ألا تريد أن تعرف مكان قبره…؟ على الأقل؟”
تجمّد مارت مكانه.
كلمة قبره ارتطمت بقلبه كأنها طلقة قتلت أخر أمل له بأن جان ربما لا يزال حياً أغمض عينيه بألم لثوان ثم فتحهما .
استدار ببطء، صوته بالكاد يُسمع :
مارت:
“أنت… تكذب.”
الجد (بهدوء شيطاني):
“إن أردت معرفة مكانه، فابقَ هنا.
ابقَ حتى أتأكّد أنك لن ترحل…
لن تتركني وتمضي.”
مارت (بغصّة، بضعف):
“لمَ تفعل هذا بي؟ لمَ تعذبني؟”
الجد (يتقدّم نحوه يضع يده على ذراعه يشدها بقوة بسيطة ، بصوت واهن ومكسور):
“آسف، يا بني…
لكني لا أستطيع أن أفقدك أيضاً.
أنت ما بقي لي من ولدي.
إذا خرجت من هذا الباب… سأموت، أو..”
يكمل الجد بنبرة توعد حاجباه معقودان :
… سأحرق الدنيا على رؤوس الجميع.”
مارت (يهمس باستسلام):
“حسناً … سأبقى.”
ينظر إليه الجد طويلاً، بصمت.
مارت:
“لكنك ستخبرني… بمكانه.”
الجد (وهو يبتعد عنه قليلاً، يهمس):
“عندما أتأكد… أنك لن تغادر.”
يخرج مارت من مكتب الجد، خطواته بطيئة، أنفاسه متقطعة من الداخل رغم صمته الخارجي.
يصعد إلى الطابق العلوي، يداه في جيبيه، وعيناه لا تنظران لأي شيء محدد.
يصل إلى غرفته. يدفع الباب بهدوء.
في الداخل، إيليف تجلس على الكرسي قرب السرير، تحاول لبس حذائها، لكن بطنها المنتفخ يعيقها.
وجهها متعب، لكنها تحاول التماسك.
يتقدم مارت نحوها بصمت.
يجثو على ركبتيه أمامها، دون أن ينطق بكلمة، يلتقط الحذاء، ويمرّره برفق على قدمها، ثم الآخر.
إيليف تنظر إليه بدهشة وحنان في آنٍ معاً.
إيليف (بصوت ناعم):
“مارت… ما بك؟ تبدو شاحباً.”
يرفع عينيه نحوها، يبتسم ابتسامة باهتة:
مارت:
“لا شيء… أنا فقط… مرهق قليلاً.”
لكن في داخله… كانت العاصفة تدور:
مارت (بصوت داخلي):
“كيف أخبركِ أن والد طفلكِ… مات؟
كيف أقول لكِ إن حبكِ الأول… لن يعود؟
وأنني أنا… كنت سبباً في كل هذا؟”
تقطع أفكاره همستها:
إيليف (وهي تنهض ببطء):
“ألن تنزل؟ الجميع في الأسفل… يسألون عنك.”
يقف ببطء، يمرّر يده على شعرها بخفة.
مارت:
“لا… أنا متعب. سأخلد للنوم.”
تبتسم إيليف بخفوت وتمسك يد الباب.
إيليف:
“حسناً … تصبح على خير، مارت.”
تخرج من الغرفة…
ويغلق مارت الباب بعدها، كأنّه يغلق صفحة لا يستطيع قراءتها.
يصمت لثوانٍ… ثم يخرج من غرفته .
يمشي بخطى بطيئة، مترددة، يتوقف أمام باب قديم في آخر الردهة.
غرفة جان.
يقف أمامها… يمد يده نحو المقبض.
يتردد.
فتح مارت باب الغرفة ببطء، ودخل…
كأنّه يخطو داخل ذاكرة مغلقة.
الغرفة كما تركها جان.
كل شيء ثابت… كأنّه لا يزال هنا، خرج للتو وسيعود بعد قليل.
أغلق مارت الباب خلفه، بهدوء يشبه الانكسار.
اقترب من الطاولة.
نظر إلى الدفتر الأسود، الملقى بإهمال، والورقة الممزقة من طرفها.
جلس، سحب الدفتر وفتحه…
صفحات كثيرة مغطاة بخط جان المألوف.
ثم توقفت عيناه على واحدة:
> “أنا قاتل…
أنا السبب في موت والديّ.
لا أستحق الحب… لا أستحق مارت.”
قلب الصفحة بيد مرتجفة.
> “سأجعله يكرهني…
أريده أن يبتعد، أن ينساني…
لا أريد أن أتسبب له بالمزيد.”
صفحة أخرى.
> “كلما نظر إليّ، أرى في عينيه والديّ.
لو عرف الحقيقة… سينكسر.
.”
ثم صفحة، في آخرها سطر وحيد:
> “أشتاق إليك يا مارت… أشتاق رغم كل شيء.”
سقط الدفتر من يد مارت.
أسند جبهته إلى الطاولة، كأنّ الكلمات أثقل من أن تُحتمل.
صمت طويل.
ثم خرج صوته، مبحوحاً، مشققاً، كأنه يُخرج ذنبه من صدره:
مارت (بهمس خافت):
“أفهم شعورك الآن، جان…
أفهم لماذا أبعدتني… لماذا جرحتني.”
رفع رأسه، عيناه محمرّتان، الدموع تحترق فيهما:
مارت (ينطقها ببطء):
“كنتَ تظن أنك القاتل…
لكنني أنا… أنا من قتلك.”
ينهض ببطء، يتراجع للخلف، ثم يسند ظهره إلى الجدار، وينزلق حتى يجلس على الأرض.
مارت (بغصة):
أنا من طعنك …
أنا …ولا أحد ..غيري .”
دفن وجهه بين يديه…
وانهار.
لا صوت، لا صراخ…
فقط أنفاس متقطعة، ودموع ثقيلة تنزل على أرضٍ ما عادت تعرف الخطى التي مشت عليها.
الغرفة كلها تئن.
كل شيء فيها يشهد على حبٍ قُتل… بصمت.
وفي الزاوية…
دفتر جان مفتوح على تلك الصفحة الأخيرة،
وسطره الأخير يهتز بهدوء تحت نسمة هواء دخلت من النافذة:
> “أشتاق إليك، مارت.”
»»»»»»»»»»»»»»»»»»»
إسطنبول – غرفة جان – صباح باكر
داخل الغرفة الساكنة، انزلق ضوء الشمس من بين الستائر، يرسم خطوطاً باهتة على وجه مارت النائم.
لكن ملامحه لم تكن ساكنة.
جبينه متعرّق، حاجباه معقودان، وأنفاسه متسارعة.
في الحلم…
الليل حالك.
الشارع مبلل، يلمع تحت ضوء مصباح وحيد.
مارت يركض.
خطواته تصمّ أذنيه، والضباب يبتلع الطريق أمامه.
ثم…
يظهر جان.
واقف في منتصف الطريق، ينظر إليه بعينين خاليتين.
جان (بصوت باهت):
“لماذا فعلتَ هذا؟”
مارت (لاهثاً):
“أنا… لم أقصد…”
لكن جان يبتسم، ابتسامة حزينة، ويقترب ببطء.
وفجأة، يظهر في يد مارت سكين.
ينظر إليها بذهول، يحاول أن يرميها… لكنها تلتصق بكفه.
جان (بهمس):
“انتهى الأمر، مارت.”
ثم تقترب اللحظة… لحظة الطعنة.
دم على يدي مارت، وجان يسقط ببطء بين ذراعيه.
مارت (يصرخ):
“لااااااا!!!”
انقطاع الحلم.
—
إسطنبول – غرفة جان – اللحظة التالية
يفتح مارت عينيه بفزع، ينهض جالسًا فجأة، أنفاسه متسارعة، وجهه غارق في العرق.
ينظر حوله…
الجدران نفسها، القلادة نفسها على الطاولة، رائحة الكتب القديمة… وغربته في المكان.
يمرر يده على وجهه، ثم يهمس بصوت مختنق:
مارت:
” حتى في الحلم، أراك تسقط بسببي.”
ينهض من السرير، خطواته مثقلة، يتوجه إلى الطاولة.
يمسك القلادة، يقبض عليها بقوة، وعيناه تتجهان إلى صورة قديمة له مع جان على الرف المجاور.
»»»»»»»»»
في غرفة الطعام
المكان ساكن، ورائحة الطعام تنتشر في الجو بهدوء
تقف الخادمة العجوز على طرف الطاولة ترتّب الأطباق، ثم تنسحب بصمت، تاركةً الطاولة نظيفة،.
الجد يجلس في صدر المائدة، يحمل فنجان قهوته، يحدّق نحو الباب منتظراً .
بعد لحظات، يدخل مارت.
ملامحه شاحبة، عيناه متعبتان من ليلة عاصفة، لكنه يحاول التماسك.
يتوجه إلى الكرسي البعيد عن الجد، يجلس بصمت دون أن يُلقي تحية.
الجد (بصوت هادئ، مراقباً وجهه):
“صباح الخير، مارت.”
مارت لا يجيب.
يأخذ رغيف خبز، يضعه في طبقه، يبدأ بالأكل ببطء، وكأن شيئاً لم يُقال.
يصمت الجد لحظة، ثم يُحاول ثانية:
الجد:
“نمتَ هنا؟ لم تعُد لغرفتك البارحة.”
مارت (بهدوء دون أن يرفع عينيه):
“غرفة جان أهدأ.”
يرتجف جفن الجد، لكنه لا يعلّق، يواصل تناول قهوته ببطء.
الجد (بتنهيدة):
“تعلم يا مارت… كنت أفكر البارحة… نحن بحاجة إلى أن نعيد ترتيب الأمور. أنت ما زلت ابني.”
مارت (يقاطعه، بجمود):
“لا تقلها مجدداً .”
ثم يضيف بصوتٍ أكثر وضوحاً، دون أن ينظر إليه:
مارت:
“أنا فقط جلست على المائدة من أجل إيليف .”
في تلك اللحظة، يُفت
ح باب الغرفة، وتدخل إيليف، يسبقها ظلّها وضوء الصباح.
تتجه بخطى بطيئة نحو الكرسي الفارغ بجانب مارت.
إيليف (بلطف):
“صباح الخير.”
ينظر مارت إليها، ويبتسم بخفة،.
مارت (بصوت خافت):
صباح النور
تبتسم، وتجلس بهدوء، تبدأ بوضع بعض الطعام في طبقها.
يلاحظ الجد ذلك التغيير، فينظر إلى مارت وكأنه يراه من جديد… لكن مارت لا يبادله النظرة.
الجد (يحاول أن يبدو طبيعياً ):
“طلبت لهم أن يجهزوا لكم عصير البرتقال، كما تحبوه طازج…”
إيليف:
“شكراً لك، جدّي.”
يمضي الفطور بصمت بعدها، وحدها أصوات أدوات المائدة تُكمل الحديث المقطوع.
أما مارت، فبقي حاضراً بجسده… غائباً عن كل شيء
»»»»»»»»»»»»»
التعليقات