في مدنٍ لا تنام، وقلوبٍ لم تعد تعرف النوم… يتكئ الليل على كتف الحقيقة، وتنكشف الوجوه التي أخفتها الأقنعة طويلاً .
همسٌ لم يُقال، وخطايا لم تُغفر. حبٌ يشبه الخيانة، ووفاءٌ يُشبه الكذب. ومارت… رجل عالق بين امرأتين، إحداهما ظلّه، والأخرى وعده.
وفي الجهة الأخرى من العالم، تضحك نيويورك ببرود، بينما يمشي جان فوق رماد قلبه، يحاول أن ينسى ملامحه في كأسٍ نصفه ذاكرة… ونصفه وجع.
هذا ليس فصلاً عادياً… بل لحظة سقوط، حين ندرك أن النجاة ليست دائماً اختياراً، وأحياناً … النجاة خيانة.
إسطنبول – منزل العائلة – باحة الحديقة – ليلاً
دخل مارت إلى البيت بصمت، لا أحد ينتظره، ولا شيء تغيّر… سوى ثقل اليوم على كتفيه.
أمضى الساعات يبحث، يسأل، يلاحق ظلالاً لعلها تقوده إلى جان… لكنه عاد صفر اليدين، ممزّق القلب، محاصراً بطلب شاغلا الذي ما زال يدوّي في رأسه:
> “إن كنت صادقاً … اجعلها هي تقولها. اجعل إيليف تعترف أن زواجكما مجرّد ورق.”
شدّ على قبضته، ثم اتجه نحو الحديقة بخطى بطيئة. كان الليل ساكناً، والمسبح راكدًا مثل صفحة منسية من الماضي.
وقف أمامه… حدّق في انعكاسه المتكسّر في الماء.
هنا بالضبط… كان يقف هو وجان. ضحكهما لا يزال يهمس في ذاكرته، جان يضحك بصوت عالٍ، يرشه بالماء، يركض حول الحافة، يقفز، ويجرّه للداخل.
ثم… ذات المكان، ذات اللحظة، لكنّها أعمق وجعاً : جان يصرخ، الغضب في عينيه، ثم يرفع يده… ويصفع مارت.
لم يكن الألم في الصفعة، بل في نظرة أخيه بعدها… نظرة خذلان.
أغمض مارت عينيه للحظة. فتحها وهو يزفر، ثم يهمس لنفسه:
مارت (بصوت خافت): “كيف أطلب من إيليف أن تجرّد نفسها من كرامتها؟ كيف أقول لها: اخرجي واهتكي سرك، لأُسكِت من أحببتها يوماً؟”
حدّق في الماء مجدداً، كأنّه ينتظر جواباً .
مارت (بغصّة): “شاغلا… تطلبين المستحيل. أنا لا أستطيع أن أجرح إيليف… كما جرحتك.”
اقترب أكثر من حافة المسبح، وقف هناك، ساكناً ،كتفه يميل قليلاً من التعب… لكنه لم ينحنِ.
رفع رأسه نحو السماء، النجوم خافتة، كما لو أنّها تراقبه دون أن تتكلم.
مارت (بهمس): جان… لو كنت مكاني، هل كنتَ ستسامحني؟ هل كنت ستفهم… أنّي أحاول أن أكون كل شيء، لكم… ولنفسي.”
ظل واقفاً هناك، لا يتحرك، صوته الداخلي يضج، والليل من حوله صامت.
أما المسبح… فلا يزال راكداً، لكنه يعرف جيداً كم الحكايات التي وقفت عنده… ولم تكتمل.
فتح مارت باب المنزل، ودخل بهدوء، لكن الصالة كانت نابضة بالحياة كأن لا أحد يشعر بثقله.
صوت الضحك يعلو من الداخل. كل أفراد العائلة مجتمعون، جالسين حول الطاولة، يتحدثون، يأكلون، وكأنّ العالم لم يتصدّع في قلب أحدهم.
لحظة عبوره إلى الداخل، ارتفعت ضحكة عالية من أحد أقاربه، ثم تبعتها تعليقات خفيفة.
إيليف كانت جالسة بين والديها، تبتسم بصمت. لكن والدتها لم يعجبها صمتها الطويل، فتوبيخها اللطيف أتى محمّلاً بالمحبّة:
والدة إيليف (تقرّب لها طبقاً ): “أنتِ لا تأكلين شيئًا، عزيزتي… هل تريدين أن تذوبي أمامنا؟”
إيليف (تبتسم بخجل، تهمس): “أنا فقط… لست جائعة.”
والدة إيليف (بلهجة مرحة): “منذ متى؟ الطفل في بطنك يحتاج الطعام، لا تكابري.”
ضحك والدها، وربت على كتفها، بينما رمقها بعض الأقارب بنظرات فخر وحنان.
مارت وقف للحظة، ينظر إلى هذا المشهد… ثم اتجه بصمت إلى الأريكة المقابلة، وجلس. . لكن عينيه… لم تفارق إيليف.
راقبها وهي تحاول مجاراة الأحاديث، بينما تخفي تعبها بابتسامة هادئة. شيء ما في ملامحها جعله يحدّق طويلاً … ربما لأنها تحمّلت ما لا يُحتمل، وربما لأنه يعرف أن سِراً واحدًا كفيل بهدم كل هذا الدفء حولها.
مارت (بصمت داخلي): “كيف أطلب منها أن تواجه شاغلا”
زفر ببطء، ثم نهض دون أن يلاحظ أحد، واتجه نحو الشرفة الزجاجية.
فتح الباب بهدوء، خرج إلى الشرفة.
كان الهواء بارداً، ساكناً . أخرج علبة السجائر من جيبه – جديدة – أشعل واحدة، وضعها بين شفتيه، وسحب أول نفس.
لم يكن يدخن للتسلية … . لكنه الآن، فقط… يريد أن يشعر بشيء.
لم تمر لحظات حتى سمع صوتاً خلفه:
ساردار (بصوت متفاجئ، مائل للتوبيخ): “عادة جديدة؟ بدأت تدخن؟”
التفت مارت قليلاً، لم يرد. ظل ينفث الدخان، نظراته غائبة في السماء.
ساردار (يقترب، بصوت منخفض): “ما بك يا مارت؟”
لحظة صمت.
ثم أجاب مارت، دون أن ينظر إليه:
مارت: “ماذا تريد، ساردار؟”
ساردار (بصوت هادئ): “لا تبدو بخير.”
ابتسم مارت ابتسامة ساخرة، لم تصل لعينيه، ثم تمتم:
مارت: “كيف أكون بخير… وأخي مختفٍ؟”
ساردار تأمل ملامحه التي بالكاد تُرى تحت ضوء الشرفة الخافت، ثم اقترب خطوة أخرى، صوته أكثر جدية الآن:
ساردار: “مارت… دعنا نتكلم. أنت تحتاج ذلك.”
لكن مارت قطع الجملة بنبرة باردة، حزينة:
مارت: “لا أثق بك، ساردار.”
توقف ساردار في مكانه، صدمه الرد… لكنه لم يقاطع.
مارت (متابعاً، بصوت واهن): “لم أعد أثق بأحد. إذا كان جدي… استغل لحظة ضعفي… فكيف أطمئن للآخرين؟”
ساردار (بصوت صادم، يهمس): “ماذا تعني يا مارت؟… ماذا فعل جدي؟”
دار مارت ببطء، نظر إليه لأول مرة منذ دخوله الشرفة. نظرة خاوية، دامعة دون دموع.
مارت (بغصة): “لا شيء… فقط… اتركني.”
وأدار وجهه من جديد، يسحب نفساً آخر من السيجارة.
والدخان… هو الشيء الوحيد الذي خرج من صدره، بينما بقي الكلام الحقيقي محبوساً… في مكانٍ لا يصل إليه أحد.
»»»»»»»»»»»»
نيويورك – حي مانهاتن-المطعم – صباح يوم جديد
ضوء الشمس يتسلل من النوافذ الواسعة، يرسم خطوطاً ذهبية على الأرضية الخشبية.
جان جالس على الكرسي المعتاد قرب طاولة التحضير، ظهره مائل للأمام، ذقنه على كفّه، يراقب أوزان وهو يتنقل بين المكونات بخفة محترف.
أوزان (بحماس، وهو يمدّ له طبقً فخار خفيف): “جان، تذوّق هذا… جربت خلطة جديدة للصلصة!”
أوزان (يتمتم وهو يعيد الطبق للطاولة): “أيها الغر… هل طعامي سيء لهذه الدرجة؟” ثم يهمس لنفسه، وهو يحرّك الملعقة بعصبية طفيفة: أقسم أني طاهٍ محبوب …”
جان (يضحك بخفة): “أنت محبوب … من الزبائن. أما أنا فحقل تجارب.”
أوزان (يقطع النظر إليه، يبتسم بغمزة): “اعترف، أنت تبقى هنا فقط لأجلي، ولأجل فطوري.”
جان (يرد بهدوء، بنبرة أخف من المعتاد): “أنا أبقى… لأنك الوحيد الذي ما زال يذكرني كما كنت.”
لحظة صمت. أوزان يتوقف عن التحريك، يرفع عينيه إليه.
أوزان (بهمس جاد): “وأنت، هل ما زلت تتذكر من أنت؟”
جان لا يرد. يشيح ببصره ، .
جان (بصوت منخفض): “أنا أحاول أن أكون شخصاً جديداً… لكن الماضي ينام على وسادتي كل ليلة.”
أوزان يترك الطاولة، يقترب منه، ثم يجلس على الكرسي المقابل.
أوزان: “أتعلم؟ الشفاء لا يأتي بالهروب. أحياناً، علينا مواجهة الوحوش بدلاً من الاختباء منها.”
جان (بابتسامة باهتة): “وهل أنا أبدو مستعداً لقتال الوحوش، وأنا بالكاد أتناول طعام الإفطار؟”
أوزان (بضحكة): “لهذا السبب يطبخ لك وحش مثلي!”
دخل الشيف دانييل بخطوات هادئة، يحمل صندوق طماطم صغير.
الشيف (بصوت منخفض، وهو يضع الصندوق على المنضدة): “أوزان، لا تنسَ تحضير العجينة قبل العاشرة. الزبون الإيطالي يكره التأخير.”
أوزان (بإيماءة سريعة): “تمام، حاضر.”
دانييل نظر سريعاً إلى جان، ثم إلى أوزان، ولم يقل شيئاً .فقط خرج بهدوء كما دخل.
جان (يهمس، بنبرة مزاح خفيف): “دانييل يعتقد أني عالة على مطعمه، أليس كذلك؟”
أوزان (يرفع كتفيه): “دانييل لا يحب الكلام، لكنه تركك تجلس هنا من أول أسبوع. هذه طريقته في القبول.”
يدخل جيمس، يحمل أكواب قهوة فارغة، يضعها على الحوض، ويلمح جان.
جيمس (بابتسامة هادئة): “أهلًا جان… غريب أن أراك مستيقظاً بهذا الوقت، شعرت أن صباحك يبدأ بعد الظهر.”
جان (يرد بابتسامة خفيفة): “أنا أُجبر نفسي على التغيير… قليلاً فقط.”
جيمس (وهو يهمّ بالخروج): “هذا المكان يغيرنا جميعاً، بطريقة ما.”
يختفي خلف الستارة.
لحظة صمت تمرّ بين جان وأوزان.
أوزان (بهدوء): “تحب المكان؟”
جان (يتنهد، ينظر حوله): “لا أظنني أحب أي شيء هذه الأيام… لكن هذا المكان لا يؤذيني. وهذا كافٍ الآن.”
»»»»»»»»»»»»»»
إسطنبول – أمام مضيق البوسفور – منتصف النهار
الماء يتحرك ببطء… كأنّه يتنفس.
مارت جالس داخل سيارته، يده مستندة على المقود، وعيناه معلقتان في اللاشيء. ضجيج المدينة خلفه، وأمواج البوسفور أمامه، لكن عقله كان في مكان آخر تماماً…
في فراغ اسمه: “جان.”
مارت (بصوت داخلي، مبحوح): “أين اختفيت؟ لماذا اختفيت؟ هل فعلتها… لترحل عني، أم لتختبرني؟”
يزفر ببطء، ويغلق عينيه للحظة. ذكريات متداخلة تمرّ أمامه… ضحكة جان، صراخه، يده المرتجفة وهو يصفعه. ثم ذلك اليوم الأخير… حين غادر ولم ينظر خلفه.
مارت (يهمس لنفسه): “جربت كل شيء… المستشفى، أصدقاءه القدامى، حتى منازل مهجورة كان يهرب إليها صغيراً . لكن لا أثر. لا ظل. كأنّه لم يكن.”
لحظة صمت.
ثم فجأة…
تتسع عيناه، وكأنّ شرارة انطفأت داخله منذ وقت طويل، قد عادت للحياة.
مارت (بهمس، مذهولًا): “منزل والديّ…”
يضرب المقود بقبضته، خفيفة أولاً، ثم بقوة.
مارت: “المنزل الوحيد الذي لم أزره… ولم أستطع أن أزوره.”
ينظر إلى الأمام، كأنّه يرى العنوان يرتسم أمامه فجأة، واضحاً كالشمس.
مارت (بصوت أقرب للرجاء): “جان… هل عدت إلى البداية؟”
يشغّل السيارة.
صوت المحرك يعلو، يمتزج مع خرير الماء، ويغيب مارت عن المشهد… كمن قرر أخيراً أن يفتح باباً ظلّ مغلقاً طويلاً، باباً له رائحة موت، وذكريات… وأمل أخير.
بعد دقائق- حي بيبك
مارت يوقف السيارة أمام المنزل، يخرج ببطء، يخطو نحو الباب، يشعر بثقل كل خطوة أخذ نفساً عميقاً وهو يتمتم : أرجوك …كن هنا جان .
يدفع الباب، الذي يصرّ بصرير قديم، يدخل… الهواء داخله رطبة ثقيلة، محملة برائحة الماضي.
الصالة هادئة، مظلمة جزئياً بسبب الستائر المسدولة، لكن على الطاولة، وسط الفوضى الخفيفة، يلمح شيئاً يلمع تحت ضوء خافت.
يمشي ببطء نحو الطاولة، تتنقل عيناه بين الأشياء… حتى توقف عند قلادة معدنية مصفّرة، على شكل نصف قلب، تعرفها فوراً … كانت دائماً على رقبة جان.
يده ترتعش وهو يلتقطها، وعلى الطاولة بجانبها، هاتف والده القديم، مغلق.
ينظر حوله بتوجس، ثم يلفت نظره ضوء خافت ينبعث من المرآة في الحمام المجاور.
يقترب بحذر، يفتح الباب ببطء…
تتصدع اللحظة برؤية المرآة… مرآة الحمام المحطمة، شقوقها تخترق الزجاج إلى الداخل، كما لو أن شيئًا قد تكسّر هنا… أو كسر من الداخل.
مارت يلمس المرآة، ينظر إلى انعكاسه الممزق، ثم يغمض عينيه للحظة.
مارت (بصوت مبحوح): “جان… كنت هنا… تركت أثراً … بين الألم والاختفاء.”
يعود للطاولة. يجلس أخيراً ، الهاتف بين يديه. القلادة على الطاولة، والمرآة خلفه لا تزال تعكس شقوقاً لا تظهر على وجهه… لكنها تقطعه من الداخل.
بدأ يفتش بالهاتف بعبثية لكن يفتح عينيه بصدمة عندما لاحظ أخر رسالة …كانت من جده
أصابع مارت ترتجف وهو يضغط على المحادثة. رسالة صوتية؟ لا… رسالة مكتوبة، ومعها مقطع فيديو.
يفتح الرسالة أولاً ، ويقرأ بعينين متسعتين:
—
> “إلى بُنيّ، ماهر… تمنّيت لو كنت على قيد الحياة، لتشهد هذا اليوم… زواج ولدك، مارت. نعم، لقد كبر… واتّخذ قراره. كما كنت تتمنى دوماً. هذا الفيديو… هدية لك، من حيث لا تكون.”
—
مارت لا يتحرك. يقرأ السطور مرة ثانية… وثالثة. ثم، ببطء يشبه من يمشي إلى هاوية، يضغط على الفيديو.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات