غادر جان وأوزان الجامعة سوياً، واتجها إلى منزل أوزان، حيث قضيا الوقت هناك حتى حلول المساء.
لكن فجأة، تذكّر جان ما نسيه تماماً :
غداً عطلة نهاية الأسبوع، واليوم هو موعد تجمّع العائلة الأسبوعي.
ارتبك، وقف فجأة وقال:
“اللعنة… لقد نسيت. إن لم أحضر، لن يرحمني جدي.”
نهض بسرعة، ارتدى سترته، وغادر دون أن يكمل قهوته.
—
فتح باب المنزل بهدوء، ليُفاجأ بأصوات العائلة تتعالى من الداخل.
همس لنفسه بصوت خافت:
“يبدو أن الجميع قد أتى…”
دخل إلى الصالة.
الجد يجلس على كرسيه المعتاد، تحيط به عمّت جان وزوجها، وعمه مع زوجته .
يتحدثون بهدوء عن العمل والسياسة، بينما كان أولادهم – ومعهم مارت – يجلسون أرضاً، يلعبون لعبة ألغاز، وضحكاتهم تملأ المكان.
ألقى جان التحية بصوت هادئ.
ردّ الجميع عليه بأصوات متباينة، فيما اكتفى الجد بنظرة مباشرة ونبرة صارمة:
“لا تتأخر مرة أخرى، يا جان.”
أجاب جان بخضوع:
“حاضر.”
ثم اتجه نحو الأريكة، وجلس بهدوء.
لكنه بالكاد كان يسيطر على مشاعره.
عيناه تتحركان بخفة… باحثتين عنها إيليف.
كانت تضحك برقة، خصلة شعر سقطت على عينها، فرفعتها بأطراف أصابعها.
كم اشتاق إليها…
وعندما التقت عيناهما مصادفة، سُرعان ما أدار وجهه، متظاهراً بالعبث بهاتفه.
لكن قلبه لم يستطع أن يتجاهل تلك النظرة، ولا قلبها
.
اقترح أحد الشباب تناول العشاء في حديقة المنزل، إذ بدا الطقس لطيفاً ، والنسيم يداعب أوراق الأشجار برقة.
وافقهم الجد بابتسامة ، وقال:
“فكرة جميلة… الهواء العليل يُنعش المعدة قبل أن تُثقلها الأطباق.”
خرج الجميع إلى الحديقة الخلفية.
وضعت الطاولة الكبيرة تحت الشجرة القديمة، وبدأ أفراد العائلة يجلسون تباعاً، يوزّعون الصحون، ويضحكون، ويتبادلون الأحاديث.
الجو كان عائلياً، دافئاً، وكأن شيئاً لم يُكسر يوماً.
لكن… جان لم يكن بينهم.
كان يجلس وحده أمام المسبح، على أحد الكراسي .
يبعد عدة أمتار عنهم، وكأن حاجزاً غير مرئي يفصله عن الجميع.
عيناه تحدّقان في انعكاس ضوء النجوم على سطح الماء، بينما يده تعبث بولاعة معدنية، تقلبها بين أصابعه بلا وعي.
أصوات الضحك خلفه كانت تتعالى… لكنها لا تصل إليه.
كأنها تنتمي لعالم آخر.
كان هناك… جسداً فقط.
أما روحه، فكانت تغوص في أعماق المسبح، باحثة عن شيء فقده منذ زمن.
»»»»»»»»»»»
إسطنبول – جامعة بوغازيتشي – مبنى “واشبورن هول” –بعد بضعة أيام- وقت الاستراحة
تهب نسمات خفيفة من جهة البحر، تعبث بأوراق الأشجار المتدلية حول مبنى “واشبورن هول”. الساحة الجامعية تموج بالحياة، لكن على المسطبة الخشبية إلى يسار المبنى، كان جان يجلس بصمت، لا يشبه ضجيج المكان بشيء، يرتدي نضارة شمسية قبعة تخفي معضم ملامح وجهه
دفتر ملاحظاته مفتوح في حضنه، وقلمه بين أصابعه، لكنه لم يكتب حرفاً منذ أن جلس. عينيه تتابعان مجموعة من الشبان اجتمعوا غير بعيد، والقلق بدأ يتسرّب إلى ملامحه.
أصواتهم كانت منخفضة، لكن المسافة القصيرة سمحت له بسماع كل شيء.
شاب أول (بغضب مكتوم):
“كفى مماطلته وتكبره… الليلة، ننهي الأمر.”
شاب ثانٍ:
“ننتظره ، خارج البوابة الجنوبية. خلف السور الحجري.”
شاب ثالث (متحمس):
“هنالك نلقّنه درسًا، لا كاميرات، لا شهود. إما أن يسكت… أو ينكسر.”
هنا، ظهر مارت، قادماً من طرف المبنى بخطوات ثابتة. نظراته حادة، ووجهه لا يحمل أي أثر للتردد. اقترب منهم، ووقف وسط الدائرة الصغيرة دون أن يتردد.
مارت (بصوت ساخر):
“تتفقون على موعد للضرب؟ هكذا علناً؟”
ارتبك أحدهم، لكن سرعان ما رد الآخر:
الشاب الأول:
“لا نريد فضائح داخل الجامعة… سننهيها بعيداً، رجل لرجل.”
مارت (ينظر إليهم ببرود):
“موعدكم مقبول. لكن لا تتوقعوا أن أكون لطيفاً .”
لوّح بيده بإشارة مقتضبة، ثم استدار وغادر الساحة بهدوء.
أما جان، فقد ظل يراقب كل شيء… لكن في داخله، كان شيء آخر يتحرّك.
أمسك بالقلم من جديد، دون أن يكتب، ثم همس لنفسه:
جان (بصوت خافت):
“مارت ….كم مرة ستورط نفسك في الشجارات “
أسند ظهره إلى المسطبة، وأغمض عينيه لثوانٍ.
لكنه كان قد حسم أمره… لن يسمح لهم بلمسه. ليس وهو موجود
»»»»»»»
إسطنبول – منزل عائلة آصلان – المساء
حلّ الظلام على المدينة، وبقي الجو مشحوناً بصمت ثقيل في أرجاء المنزل.
في الطابق الأرضي، كانت الخادمة تُنظّف المطبخ حين دخل جان بهدوء، نظر حوله ليتأكد من غياب مارت، ثم اقترب منها.
جان (بلهجة هادئة تخفي وراءها توتراً ):
“حضّري كوب عصير برتقال، وقدّميه لمارت في غرفته. قولي له فقط أنه من المطبخ… لا تذكري اسمي.”
رفعت الخادمة حاجبيها، لكنها لم تسأله شيئًا.
انتظر حتى أتمّت تحضير العصير، ثم اقترب منها بخفة، وأخرج من جيبه قارورة صغيرة بها سائل شفاف.
جان (بصوت خافت):
“ضعي هذه القطرات فيه… لن تؤذيه. فقط ستجعله ينام بعمق لبضع ساعات.”
ترددت الخادمة قليلاً، لكنه قابل ترددها بنظرة صامتة لا تقبل الجدل.
جان:
“من الأفضل له أن يرتاح الليلة. فقط افعلي ما قلت.”
أخذت الكوب بصمت، وغادرت به إلى الطابق العلوي.
ظل جان واقفاً مكانه، يستمع لصوت خطواتها وهي تبتعد… ثم تنفّس ببطء، وكأنّه يحاول تهدئة موجة القلق في صدره.
بعد لحظات، صعد بهدوء إلى غرفته، وارتدى سترة سوداء، وحذاءً رياضياً، ثم حدّق في المرآة للحظات.
جان (في داخله):
“لن تعلم بذلك أبداً، لكنني لن أدعك تُضرب من أجل شيء تافه.”
غادر المنزل خفية، مغلقاً الباب الخارجي بصمت.
»»»»»»»»
إسطنبول – خارج أسوار جامعة بوغازيتشي – خلف السور الحجري – بعد منتصف الليل
كان الليل كثيفاً، والهواء يحمل برودته بين الأشجار الصامتة.
ثلاثة شبّان وقفوا عند الطريق الحجري خلف السور، أنظارهم مشدودة نحو الظلام، يتبادلون الكلمات المليئة بالغضب والترقب.
شاب أول (بضيق):
“إن لم يأتِ الليلة، سنذهب إليه غداً ، حتى لو كان داخل قاعات الجامعة.”
لكن صوتاً بعيداً شقّ السكون…
هدير دراجة نارية، يقترب بثبات كأنّه لا يحمل تردّداً ولا خوفاً .
توقّفت الدراجة أمامهم، ونزل منها رجل يرتدي سترة جلدية داكنة.
خلع خوذته جزئياً، لكن وجهه بقي مغطّى بكمامة سوداء، لا يظهر منه سوى عينين حادتين كالسكاكين.
شاب ثانٍ (بهمس):
“إنه هو… مارت.”
لم يردّ الرجل.
اكتفى بأن رفع قبضتيه، واستعدّ كالملاكمين، هادئاً كمن يعرف تماماً ما سيفعل.
شاب ثالث (ساخراً):
“جئت تتمرّن علينا؟… فلنرَ ما لديك.”
اندفع الأول نحوه بسرعة، وضربه في كتفه ضربة قوية، جعلته يترنّح للحظة.
لكن الرجل لم يتراجع، بل ردّ بلكمتين دقيقتين إلى وجهه، أسقطتاه أرضاً دون كلمة.
تقدّم الثاني بسرعة، ووجّه لكمة مباشرة إلى فكّه.
ارتدّ رأس الرجل قليلاً، سال الدم من زاوية فمه… لكنه لم يتراجع.
نظر إليه نظرة طويلة، ثم باغته بضربة إلى البطن، وأخرى مفاجئة إلى الفك السفلي.
تهاوى الثاني إلى الأرض، يتأوّه من الألم.
تردد الثالث، ثم هجم بعنف…
صدّ الرجل ضرباته بحنكة، كأن جسده يعرف متى يتحرّك، وأين يُصيب.
ضربه بالكوع على الرقبة، ثم لكمه ثلاث مرات متتالية حتى أسنده إلى الحائط.
تراجع الشبان الثلاثة وهم يلهثون، أجسادهم مرمية، وعيونهم لا تصدّق ما حدث.
**
اقترب الرجل منهم ببطء، وعيناه لا تزالان مشتعلتين بالغضب المكتوم.
قال بصوت خافت، لكن كلماته خرجت واضحة كالسيف:
“اسمعوا جيّداً… اقتربوا مني مرةً أخرى، ولن يُسعفكم أحد.”
استدار، عاد إلى دراجته، ارتدى خوذته، وأدار المحرك.
هدير الدراجة مزّق الصمت، واختفى في ظلام الليل…
بينما بقيت خلفه آثار معركة لن ينساها أحد.
»»»»»»»»»»
إسطنبول – منزل العائلة – صباح اليوم التالي
أشعة الشمس تتسلّل بخفّة عبر الستائر، والبيت يكتسي بهدوء صباحي لا يشبه ما جرى في الليلة السابقة.
في سريره، فتح مارت عينيه ببطء، وهو يشعر بثقلٍ غريب في جسده.
حدّق بالسقف للحظات، ثم جلس وهو يتمتم بعبوس خفيف:
مارت (بهمس):
“لمَ أشعر أنني نمت كمن غُيّب عن العالم؟…”
نهض بتردّد، توجّه نحو الحمام، غسل وجهه، ثم سار في الممر باتجاه غرفة جان.
تردّد لحظة عند الباب… ثم فتحه فجأة دون استئذان.
في الداخل، كان جان واقفاً أمام المرآة، يُزرّر قميصه الأبيض، يستعدّ للخروج.
توقّف لحظة عندما رأى مارت يدخل، لكن وجهه بقي بلا تعبير.
مارت (يبتسم ببطء):
“أنت فعلتها… أليس كذلك؟”
جان (ببرود دون أن ينظر إليه):
“عن ماذا تتحدث؟”
مارت (يتقدّم نحوه):
“ذهبت لتتشاجر ….. بدلاً مني.”
ضحكة ساخرة خفيفة خرجت من فم جان، وهو يلتقط سترته:
جان (بسخرية):
“في أحلامك.”
لكن مارت لم يتراجع، تقدّم خطوة إضافية، وأشار بأصابعه إلى الجرح الصغير في زاوية شفة جان:
مارت (بنبرة واثقة):
“وما هذا؟”
جان (ينظر إليه دون انفعال):
“سقطتُ من على الدراجة.”
مارت (بهدوء):
“هكذا إذاً…”
ساد الصمت لحظة، قبل أن يزمّ جان شفتيه بضيق، ويقول بنبرة حادة:
“اخرج… هيا.”
تردّد مارت، لكنه أطاع، استدار بهدوء وغادر الغرفة دون أن ينبس بكلمة، وعيناه لا تزالان على أخيه.
وحين أغلق الباب خلفه، اتّسعت ابتسامة صغيرة على شفتيه، لم تكن ساخرة… بل دافئة، حقيقية.
سار في الممر ببطء، وعيناه تلمعان بشيء من الامتنان، ثم تمتم في داخله:
مارت (بصوت داخلي):
“لا تزال تهتم لأمري، يا جان… حتى لو أنك تنكر ذلك.”
تابع طريقه، فيما بقي الباب خلفه مغلقًا…
لكن الرابط بينهما لم يُغلق أبدًا.
»»»»»»»»»»»
مضت الأيام متشابهة، باهتة، لا تحمل جديدًا سوى مزيد من التكرار.
جان يخرج من الجامعة إلى النادي، ثم إلى الملهى، يعود فجراً متعباً ، ينام لساعتين أو أكثر، ثم يصحو على كابوسه المعتاد… نفس الوجوه، نفس الأصوات، ونفس الصراخ الذي يوقظه كل مرة وهو يرتجف.
أما مارت ، فكان يُراقبه بصمت.
كم فكّر أن يفتعل شجاراً في الجامعة، أي شيء يجرّه للحديث معه، ليجعله ينظر إليه كما كان يفعل في السابق.
لكنّه يتراجع في كل مرة.
هذا ليس كالماضي، لم يعودا في المدرسة، وقد يتسبّب ذلك بفصل جان، أو ما هو أسوأ.
وأما “إيليف”، فكانت تختفي بين الحين والآخر، تذهب إلى منزل العائلة الجبلي، في منطقة بيكوز
تبحث عن بعض الهدوء… عن طريقة ما تُنسيها جان.
لكنها تفشل في كل مرة.
الجبال، الهواء، الطرقات… كل شيء هناك يذكّرها به.
حتى غيابه… بات حضوراً ثقيلاً لا يغادرها
»»»»»»»»
الساعة الرابعة فجراً.
دخل جان إلى المنزل بصمت، خطواته خفيفة كأنّه يتسلّل، لا يريد أن يوقظ الأشباح التي يسكنها هذا البيت.
لكن لم يكن البيت نائماً كما توقع.
على السلم، كان مارت جالساً … ظهره منحني قليلاً ، عيناه شاخصتان نحو الفراغ، كأنه ينتظر شيئاً… أو أحداً.
التقت عيناهما للحظة.
لم يقل جان شيئاً، فقط أدار وجهه، وتابع صعوده متجاهلاً أخاه.
لكن مارت مدّ يده، أمسك بذراعه بخفة، وقال بصوت خافت:
“هل أنت بخير؟”
توقف جان لثوان، أنزل عينيه، ثم تنفّس بعمق، وسأل بهدوء:
“هل جدي مستيقظ؟”
تردّد مارت قبل أن يجيب، بدهشة:
“نعم… أعتقد أن الأرق لم يفارقه، غداً ذكرى وفاتهما. سنذهب جميعاً للمقبرة.”
جان لم يرد… فقط تمتم بكلمة واحدة، شاردة، كأنها خرجت من مكان بعيد:
“المقبرة…”
ثم تابع صعوده.
—
فتح باب مكتب الجد ببطء.
رائحة السيجار القديم والكتب المغبرة تملأ المكان، وكان الجد جالسًا خلف مكتبه، كالعادة، عابسًا، صامتًا.
رفـع نظره إليه ببرود، وقال دون مقدمات:
“ماذا هناك؟”
فتح جان فمه… أراد أن يتكلم، لكن الكلمات علقت في حلقه.
مرت ثوانٍ من الصمت، قبل أن يضغط على قبضته بشدة وكأنه يستجمع شجاعته، ثم قال:
“جدي… دعني أزور قبرهما. أرجوك، مرة واحدة فقط…
لن أنظر، لن أسأل… سأغمض عيني، فقط دعني أودّعهما.”
رفع الجد حاجبه، ونطق بهدوء جليدي:
“كلا.”
ثم ضحك بسخرية باردة ، وأكمل:
“قتلتَهُما… والآن تريد أن تزور قبريهما؟
إلى أن تموت، لن تعرف الطريق إليهما.”
اهتزت شفاه جان، وارتجفت عيناه، قبل أن تنهمر دموعه بصمت.
تكلم بصوت متقطع، متهدّج:
“جدي… أرجوك… مرة… واحـدة…”
لكن الجد أدار وجهه، وقال بنبرة خالية من الرحمة:
“اذهب الآن، يا جان…
وإلا سأُخبر مارت كل شيء. سأخبره من قتل والديه.”
تجمّد جان في مكانه.
ارتعشت أهدابه، ثم أدار ظهره وغادر.
لكن هذه المرة… لم يصعد إلى غرفته.
بل غادر المنزل كله.
خرج، وكأن شيئاً ما انكسر بداخله… شيء لن يُصلَح أبداً.
ترك دراجته خلفه، وسار بخطى متثاقلة نحو منزل والديه القديم، في حي “بيبك” المطلّ على البوسفور… حيث تبدأ الذكريات، ولا تنتهي.
فتح الباب ببطء…
يداه ترتجفان، وقلبه ينبض بقوة تكاد تُسمَع.
تردّد للحظة، واقفاً على العتبة كطفلٍ يوشك أن يدخل كابوسه بقدميه.
لم تطأ قدماه هذا المكان منذ عشر سنوات… منذ تلك الليلة المشؤومة، منذ وفاتهما.
دخل أخيراً ، متثاقلاً، كأن كل خطوة تغرس سكيناً افي صدره.
الظلام يخيّم على المنزل، والغبار يتراقص في الهواء كأشباح نائمة استيقظت على وقع أنفاسه.
كل شيء كما تركه…
الأثاث مغطى بالأغطية البيضاء، لكن الزمن لم يرحمها.
تغطيها طبقة كثيفة من التراب، وكأن البيت نفسه قرر أن ينسى.
أبعد الغطاء عن الكنبة وجلس، عينيه تتجهان تلقائياً نحو الجدار المقابل…
هناك، فوق المدفأة، كانت صورة معلّقة تجمعه بعائلته.
احمرّت عيناه، وشهق بصمت وهو يتأملها.
الذكريات انهمرت… لم يحتج سوى لحظة، لتعود تلك الصورة حيّة في ذهنه:
—
حديقة منزل الجد – قبل عشر سنوات.
كان جان ومارت يودّعان والديهما، اللذَين سيذهبان في رحلة عمل لبضعة أيام.
جان كان معترضاً، غاضباً، يتشبث بهما.
جان:
“لا تذهبا وتتركانني! لقد قطعتُ سلكاً في السيارة… لا يمكنكما الذهاب!”
ضحك والده، وابتسمت والدته. حتى الجد ضحك، ظنًّا منهم أن الأمر مجرد تمثيل طفولي آخر.
الوالد:
“كفاك اعتراضاً … ابتسم! لا تُتعب جدك، أعدك أنني لن أتأخر.”
تولين:
“سأحضر لكما الكثير من الهدايا.”
مارت (بحماس):
“أريد سيارات كثيرة! كثيرة جداً!”
تولين (تضحك):
“حاضر.”
جان (بإصرار):
“قلت لكم إنني عطّلت السيارة!”
الجد:
“لا تقلقا… إنهما في أمانتي.”
لم يصغِ له أحد.
ظنوا أنها كلمات طفل متعلّق، يختلق الأكاذيب ليبقي والديه إلى جانبه.
لكنهم غادروا…
وبعد ساعات، جاء الخبر:
حادث سيارة… ووفاة الوالدين.
—
ارتجف جسده، وعاد إلى الحاضر.
تمدّد على الأريكة كمن انطفأ، وضمّ نفسه بذراعيه، كطفل ضائع في العاصفة.
دفن وجهه في طرف الكنبة، وبكى…
بكى بحرقة، بصمتٍ دامٍ، لا يقطعه سوى شهقات متكسّرة.
كأن السنوات العشر التي صمد فيها، انهارت كلها في تلك اللحظة.
.»»»»»»»»»»
مع زقزقة العصافير الأولى وشروق الشمس الخافت،
ركب مارت السيارة بهدوء وجلس بجوار جده، بينما أغلق السائق الباب الخلفي وانطلق بهم نحو المقبرة…
هناك، حيث ستجتمع العائلة لإحياء ذكرى وفاة والديه.
أسند مارت رأسه إلى الزجاج، وأطلق تنهيدة طويلة حملت كل الحنين والحيرة.
كان يفكر بجان… لماذا لا يأتي؟ لماذا يتهرب دائماً من هذه الزيارة؟
هل نسي والديه بهذه السرعة؟ أم أن شيئاً آخر يؤلمه أكثر مما يظهر؟
ذلك ما كان يعتقده مارت.
لم يعلم أن الحقيقة أبعد وأقسى…
لم يعلم أن جده هو من حرمه حتى من معرفة مكان القبر.
—
في منزل العائلة في حي “بيبك”…
لا يزال جان مستلقياً على الأريكة، ذراعه تحجب عنه ضوء الصباح، وعيناه غائرتان في الظلمة التي بداخله.
هاتفه يرن بلا انقطاع…
إنه أوزان، يتصل مراراً وتكراراً .
لكنه لا يجيب.
يبعد يده عن عينيه، يحدّق في السقف طويلاً، والهاتف يواصل رنينه، مرة تلو الأخرى…
لكنه لا يتحرّك، كأنّه انفصل عن هذا العالم تماماً.
يحاول النهوض، لكن جسده بالكاد يطاوعه.
بخطى متثاقلة، يتجه إلى المطبخ.
يمدّ يده نحو أحد الأدراج… ويخرج سكيناً .
يحدّق فيها بشرود، نظراته تائهة، مشوشة، لا تثبت على شيء.
ثم تمتم بصوت شبه خافت، كأنّ الكلمات تُجرح وهي تخرج:
“لم أعد أحتمل… يجب أن ينتهي هذا العذاب.”
يرفع السكين ببطء، يضعها على معصمه…
ثم يُغمض عينيه.
لكن فجأة…
يخترق ذهنه وجه مارت.
وجهه حين يبتسم… حين يحزن… حين يسأله: “هل أنت بخير؟”
يفتح جان عينيه بسرعة، كأنّه أفاق من غيبوبة.
ترتعش يده، ويسقط على الأرض، جالساً على ركبتيه، منهاراً بالكامل.
ينفجر بالبكاء، مريراً، موجعاً.
جان (بصوت مختنق):
“آسف يا مارت… آسف…”
كان صوته يتقطع، بالكاد تُفهم كلماته.
جان:
“أنا أردتك أن تكرهني…
لا أريدك أن تحزن على موتي…
لكنك لا تكرهني… مهما أذيتك…”
يضع يديه على وجهه، وينشج كطفل ضائع، قبل أن يكمل بصوت ممزّق:
“أنت السبب الوحيد الذي يمنعني من الموت…
لأني لا أريدك أن تحزن… على رحيلي.”
تزداد شهقاته، كأنّها تقطع صدره:
“أرجوك… اكرهني…
أنا تعبت… أريد أن أموت …”
»»»»»»
عاد مارت مع جده من المقبرة قبيل الظهيرة.
كان يوماً ثقيلاً ، محمّلاً بالتعب والذكريات.
ما إن دخلا المنزل حتى شعر مارت بإنهاك شديد، ومرّ تلقائياً أمام غرفة جان.
ألقى نظرة سريعة…
الغرفة فارغة، السرير ما زال مرتباً كما تركه، لا أثر له.
تنهد بصمت، ثم تابع طريقه نحو غرفته.
دخل، خلع سترته، وألقى بنفسه على السرير دون حتى أن يغيّر ثيابه.
ما إن لامس الوسادة حتى غطّ في نوم عميق، كمن فرّ من كل شيء… ولو لساعات قليلة.
لكن الوضع لم يكن هادئاً بالنسبة لأوزان.
منذ ساعات الصباح الأولى وهو يحاول الوصول إلى جان، لكنه لا يرد.
اتصالاته لا تُجاب، والرسائل تبقى دون علامة قراءة.
كان يعلم تماماً أن هذا اليوم يثقل على صدر جان كل عام…
، اعتاد أن يبقى بجواره في مثل هذا الوقت، حتى دون كلام، يكفي حضوره ليشعر جان أن أحدهم يفهم صمته.
لكن هذه المرة…
جان اختفى حتى عنه.
جلس أوزان في سيارته، يحدّق في هاتفه، يراقب الشاشة كل دقيقة، وكأنها ستنطق فجأة وتخبره: “أنا بخير”.
لكنها لم تفعل
حل المساء والوضع على حاله
بقي أوزان يبحث في الأماكن التي اعتادا الذهاب أليها
وقف أمام باب الملهى، الهواء البارد يلسع وجهه، وأصوات الموسيقى المكتومة تتسلل عبر الزجاج. قبض على هاتفه بقوة، ينظر إلى الشاشة التي ترفض الرد، وعيناه تملأهما القلق.
تمتم بغضب وصرخة مكتومة:
«اللعنة، جان… لماذا لا ترد؟ أين اختفيت؟ أنا خائف… خائف أن تؤذي نفسك.»
ضغط على زر الاتصال مجدداً، لكن المجيب الآلي رد بصوت بارد:
“الهاتف مغلق أو خارج نطاق التغطية.”
رمى الهاتف على الأرض بغضب، ووقف للحظة يتنفس بصعوبة، عيناه تلمعان بالغضب والقلق معاً ، وهو يصرخ في الهواء:
«اللعنة!»
رفع رأسه نحو السماء، وكأنها الوحيدة القادرة على سماعه، ثم همس مجدداً ، لكن هذه المرة كان صوته مرتعشاً :
«لا تفعلها، جان… أرجوك.»
»»»»»»
استيقظ مارت من نومه على صوت الصمت…
رفع رأسه، نظر إلى الساعة…
منتصف الليل.
تمتم باستغراب وهو ينهض من سريره:
“هل نمت كل هذا الوقت؟”
خرج من غرفته متثاقلاً، مشى نحو غرفة جان.
وقف أمام الباب، طرقه بخفة، ثم همس بقلق:
“متى ستعود…؟”
لم يكن ينتظر إجابة، فقط قالها كأنها تنهيدة.
توجه إلى المطبخ، صنع لنفسه شطيرة بسيطة، وجلس على الطاولة.
راح يأكل بهدوء، لكن عينيه لا تفارقان الساعة، يتابع عقاربها كما لو كانت تنبض بالخوف.
—
في هذه الأثناء…
خرج جان من منزل والديه القديم، بالكاد يستطيع الوقوف على قدميه.
ألمه لم يكن في الداخل فقط… بل صار جسده كله يئن.
كل خطوة كانت كطعنة… وكأن عظامه تساقطت كما تساقط قلبه قبل ساعات.
أوقف سيارة أجرة، جلس بصمت، قال وجهته، ثم أسند رأسه إلى الخلف وأغمض عينيه.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا جاءني رجل وسيم للغاية بوجه غاضب ، وأعطاني أوراق الطلاق؟’ “ما الذي تتحدث عنه أيها الرجل الوسيم؟ لم ألتقِ بك من قبل ، ناهيك عن الزواج بك ، لماذا تعطيني...مواصلة القراءة →
كيم مين ها البالغة من العمر 20 عامًا ، طالبة جامعية عادية. من السخف أن تستيقظ في عالم مختلف تمامًا بعد حادث مفاجئ … ‘لماذا...
التعليقات لهذا الفصل " 2"