الفصل الحادي عشر
“أنتقام مشروع….أخيرا كرهتني!”
دخل مارت الغرفة بهدوء، وأغلق الباب خلفه برفق.
جلس على حافة السرير، يحدق في الأرض وكأن كلمات جان تلاحقه بلا توقف.
“قتلهم… قطع أسلاك السيارة…”
صدى الكلمات يتردد في رأسه، يخنقه شعور بالذنب والخوف.
أخذ نفساً عميقاً وحاول أن يهدئ من دقات قلبه المتسارعة، لكن ذهنه كان يغوص في بحر من الأسئلة بلا أجوبة
مرت الساعات وحلّ المساء، لكن لم يخرج أي منهما من غرفته.
طرقت الخادمة عجوز في الخمسين من عمرها باب غرفة مارت، لكن لم تأتِ أي استجابة.
فتحت الباب بهدوء، فوجدته نائماً بعمق. همست في نفسها:
“يبدو أنه متعب جداً.”
توجهت بعدها نحو غرفة جان، وطرقت الباب مرّة تلو ألأخرى لكن لايوجد رد.
فتحت الباب ببطء، واقتربت منه. لاحظت المنشفة الملتفة حول كف يده، ملطخة بالدم.
اقتربت بصوت منخفض وهمست :
“سيد جان… سيد جان، أأنت بخير؟”
لكنّه لم يجب، فوضعت يدها على جبينه فشعرت بحرارته المرتفعة.
تكلمت بحذر وقلق :
“يبدو أنه مريض.”
غادرت الغرفة متجهة بخطوات مسرعة، وصادفت الجد في الممر.
قالت له بقلق :
“سيدي… يبدو أن جان مريض.”
رد الجد بصوت جاف وبارد :
” هذا ما توقعته … أطلبي له الطبيب…. ومارت، كيف حاله؟”
أجابت الخادمة :
“إنه نائم… ربما تعب من سهرة العائلة أمس.”
توجّه الجد إلى غرفة مارت، فتح الباب بهدوء، ثم جلس على حافة السرير بجواره
وقع بصره على علبة الدواء الموضوعة على الطاولة بجانب السرير، فتأملها للحظة وفكّر في نفسه
يبدو أنّه تناول حبّة منوّمة… لا بدّ أنّه تصادم مع جان.
مدّ يده ووضعها على كتف مارت، يهزّه بلطف محاولاً إيقاظه:
“مارت… مارت، استيقظ.”
فتح مارت عينيه بصعوبة، واضعاً يده على مقدمة رأسه، تمتم بصوتٍ متهدّج
“ماذا؟”
قال الجد بنبرة هادئة
“علينا أن نتحدث… استفق قليلاً.”
ردّ مارت بصوت ناعس متعب
“ماذا هناك، جدي؟”
ابتسم الجد بخفة وقال
“سأخطب لك فتاة… جميلة ومثقفة، وأنت تعرفها جيداً. أظن أنّها ستعجبك. وهي أيضاً…”
لكن مارت لم يكن حاضر الذهن تماماً، صدمته من حديث جان لا تزال تؤرقه، والمنوّم يثقل جفنيه، وصوت جده بدا له أشبه بقرع طبول بعيد.
قاطع كلام جده وهو يسحب الغطاء على وجهه
“جدي… أرجوك، افعل ما تشاء… فقط دعني أنم.”
ابتسم الجد ابتسامة نصر خفية، وكأنّه حصل على ما كان يريده تماماً.
مرت الأيام ببطء ثقيل في المنزل، كأن الزمن نفسه توقف عن الحركة.
مارت كان شبه غائب عن العالم، يسير بخطوات متثاقلة، عينيه فارغتان، وكأن قلبه توقّف عن النبض.
جلس لساعات طويلة في ركن الغرفة، يتأمل جدرانها بلا هدف، وكأن أصوات الحياة لا تصل إليه.
وجان لا يزال ملازماً الفراش، والحمى تلاحقه بلا رحمة، تتركه ضعيفاً ومرهقاً.
يحاول أن يقاوم الألم، لكنه يشعر بثقل كل ثانية تمر عليه.
في تلك الأثناء، كان أوزان يحاول الاتصال به مراراً وتكراراً،
لكن جان لم يكن يجيب، أو لم يسمع هاتفه أحياناً.
وفي لحظة من لحظات الهدوء، استعاد جان قليلاً من قوته،
أمسك الهاتف ، واتصل بأوزان.
رد أوزان بصوت قلق
“جان! أين أنت؟ أنا قلق عليك.”
ابتسم جان وقال بهدوء
“أنا بخير، مجرد حُمّى بسيطة.”
سأل أوزان: “لماذا لم ترد على اتصالاتي؟”
أجاب جان بسرعة: “كنت متعباً بعض الشيء، لكن الأمور تحت السيطرة.”
لم يُخبره بما حدث بينه وبين مارت، ولم يُبوح بأي شيء من الألم الداخلي أو الصراعات التي يعانيها.
أنهى المكالمة وهو يشعر بثقل الحقيقة التي يخفيها، لكنه قرر أن يبقيها لنفسه، حتى لا يزيد من قلق أوزان أو يثقل عليه أكثر
في منزلٍ آخر، بعيد عن ثقل الصمت في بيت العائلة، جلس الجد في غرفة الاستقبال بمنزل ابنته، تحيط به ملامح الاحترام… والحذر.
الجوّ كان رسمياً، لكن تحت سطح الكلمات، كان هناك شيءٌ غير منطوق… شيء يتنفس الصمت.
إلى جواره جلست امرأة وقورة، يكسو وجهها شيء من التردد، وبجانبها زوجها، وقد ظهرت خيوط الشيب على رأسه وملامحه المتصلّبة.
أما الفتاة، فكانت تقف على مسافة بسيطة، تنظر إلى الأرض، متجنبة أعين الحضور.
قال الجد بنبرة هادئة، لكن واثقة، كمن أعدّ كلماته بعناية مسبقة
“جئتكم اليوم لأطلب يد ابنتكم إيليف… لحفيدي.”
ثم ابتسم دون أن يوضح، وأضاف بصوته العميق
“حفيدي الذي تربّى في بيتي… ويعرف معنى المسؤولية.”
تبادل الجميع النظرات، وبين الوجوه طافت الحيرة
بقي اسم الحفيد معلقاً في الهواء، كأن الجميع يعرفه… ولا يجرؤ على سؤاله.
نظرت إيليف إلى أمها بصمت
قلبها يخفق، وعقلها يلهث خلف الاحتمالات.
هل استطاع جان أخيراً إقناع جدي؟
لكن والدتها، التي تعرف كره والدها العميق لجان، لم يخالجها شك بأنّ الحديث يدور عن مارت
قالت الأم، وهي تبتسم برقة لتكسر الصمت
“إيليف، ما رأيك؟”
رفعت الفتاة عينيها قليلاً، وابتسمت بخجل
“ما ترونه مناسبًا… يا أمي.”
أجاب الوالد بصوت حاسم، وكأنه يختم على الأمر
“طالما جدّه هو من اختار، فلا كلام بعد كلامه.”
»»»»»»»»»»»»»»»»
بعد مرور يومين، تحسّنت حالة جان، وتمكّن أخيراً من النهوض وترك سريره.
غير أنّه لم يجرؤ على السؤال عن مارت… كان خائفاً من الإجابة، خائفاً من أن تؤكّد له الحقيقة التي يحاول تجاهلها.
طرق أحدهم الباب بخفة،
قال جان بصوت خافت
“تفضّل.”
أطلت الخادمة العجوز برأسها، ترتسم على وجهها ابتسامة دافئة
“يبدو أنّك تحسّنت، سيّدي.”
أجابها جان بابتسامة ممتنّة
“شكرًا لكِ على عنايتك بي… لقد أتعبتكِ كثيراً.”
ردّت وهي تلوّح بيدها كأنها تزيل ما قاله :
“لا عليك، المهم أنّك بخير.”
صمتت للحظة، ثم أضافت بنبرة لطيفة :
“لقد اجتمع الجميع في الأسفل… هل تودّ تناول العشاء معهم؟ أم أنك لا تزال متعباً، فأحضره لك هنا؟”
نضر جان من النافذة يراقبهم بصمت يفكر في نفسه تجمع عطلة الأسبوع الثقيل تردد جان لحظة، ثم رفع عينيه إليها وقال
” سأخرج “
كعادة كل أسبوع، اجتمع أفراد العائلة في عطلة المساء، وكان الجوّ هذه المرة أكثر مرحاً من المعتاد،
خصوصاً بعدما أخبرهم الجدّ أنّ لديه “مفاجأة” يودّ مشاركتهم بها هذا المساء.
جلس الجدّ على كرسيّه المعتاد، تتوسّطه الهيبة والصمت المنتظِر
إلى يمينه ويساره وُضعت كنبات طويلة، تتوسطها طاولة كبيرة فُرشت بأطايب المأكولات، والمشروبات الدافئة، وحلوى السهرة.
جلست إيليف على يمينه، وقد بدت الابتسامة مرسومة على وجهها، رغم شيءٍ خفيّ في نظرتها.
وفي المقابل، على يساره، جلس مارت، شارداً ، عيناه تائهتان في بقعة غير مرئية على المائدة، كأنّه حاضر بجسده فقط.
الضحكات تتعالى من حولهم، الأحاديث متداخلة، وأكواب الشاي تُمرر،
لكن داخل كلٍّ منهم… قصة مختلفة تماماً
نظر الجد إلى جان الذي مرّ بهدوء بجانب المسبح، متوجهاً نحو الخارج
ناداه بصوتٍ عالٍ، يحمل شيئاً من الصلابة
“جان!”
توقف جان في مكانه، التفت نحو الجد دون أن ينطق
قال الجد بنبرة تحمل نُذُر شيء قادم :
“تعال، هناك ما أريد أن أُعلنه أمامكم جميعاً.”
تقدّم جان بخطوات مترددة نحو التجمع
وقف خلف كرسي مارت تماما، وضع يديه في جيبي بنطاله ،
ونظر بهدوء إلى إيليف… التي كانت تبتسم له، بعفوية أو تردد لا يدري.
قال الجد بصوته الجهوري، وهو ينظر إلى الحضور
“اليوم، سنُعلن خطوبة إيليف ومارت.”
وقف جان جامداً خلف كرسي مارت، و كأنّ الوقت توقف عند كلمات الجد.
“إيليف ومارت…”
ظلّ يردّدها في عقله، كأنّها صفعة تردّدت أصداؤها داخل جمجمته.
اتسعت عيناه للحظة، ثم انكمشتا شيئاً فشيئاً
ضغط على شفته السفلى بأسنانه، محاولاً كبح شيء ما يتحرّك بداخله، شيء يعرفه جيداً…
ذلك الشعور القديم، الخانق، حين يُنتزع منه شيء دون أن يُسأل…
حين يُترك في الظلّ، مجرّد ظلّ.
رفع عينيه نحو إيليف، يبحث في نظراتها عن تفسير… عن ندم… عن تردد.
لكن إيليف أزاحت عينيها سريعاً نحو الجد، ملامحها متوترة ومتفاجئة،
كأنّها هي الأخرى لم تكن تعلم تماماً ما الذي قيل… أو لم تصدّقه.
فَسَّرَ جان نضراتها هروباً منه
تجمّدت أنفاسه في صدره، لم يعد يسمع الأصوات من حوله
ضحكات خفيفة، كلمات مبروك، تحريك أكواب…
كلها أصبحت مشوشة، بعيدة… كأنّ العالم تحوّل إلى ضوضاء تحت الماء.
أراد أن يضحك، أو أن يصرخ، أو أن يقول ببساطة: “كنت أظن أنّني أنا…”
لكنه لم يفعل شيئاً.
فقط ظلّ واقفاً هناك، يديه لا تزال في جيبه،
وقلبه… يسقط ببطء في فراغٍ لا قاع له.
نظر الجد إلى جان وقال بصوت واضح، يحمل شيئاً من التحدي
“جان… ألن تُبارك لأخيك؟”
أدار جان رأسه نحوه ببطء، يحاول أن يتماسك، أن يخفي ما خلف العينين.
ثم قال بنبرة خافتة، لكنها مسموعة
“مبارك لكما.”
استدار بعدها بهدوء، وغادر دون أن يلتفت.
وضع الجد يده على كتف مارت، وقال بنبرة ملاحظ
“مارت؟”
رفع مارت عينيه نحوه، متفاجئاً قليلاً
“ماذا؟”
قال الجد بلهجة أقرب إلى التوبيخ الناعم
“أين ذهب ذهنك؟ كنتَ شارداً.”
نهض مارت من مكانه، تنهد قائلاً
“سأنام… أنا متعب.”
خطا نحو الداخل، خطواته ثقيلة
لكن قبل أن يعبر الممر، لمح من الزجاج الجانبي جان وهو يركب سيارته.
توقف للحظة، عيناه معلقتان بالمشهد…
وتمتم بصوت بالكاد يُسمع
“عدتَ إلى ظلامك يا جان… ستتركني مرة أخرى.”
دخل مارت غرفته بصمتٍ ثقيل، وكأن الجدران نفسها تنكمش من ثقل أفكاره.
اقترب من السرير وجلس عليه ببطء، ثم مدّ يده نحو علبة الدواء الموضوعة على الطاولة الجانبية.
أخذها بين يديه، يقلبها بشرود، وعيناه لا تريان الكلمات المطبوعة بقدر ما تغوصان في بحرٍ داخلي يعجّ بالصراع.
“هل أصبح النوم مهربي الوحيد من مواجهة جان؟
هو يهرب إلى الخارج… إلى الحفلات،
أما أنا، فألوذ بالصمت وبحبّة صغيرة تُسكت رأسي.”
أغمض عينيه للحظة، وكأنّه يحاول كتم صوت داخلي يؤنّبه بمرارة
“ما كان عليّ أن أضغط عليه… لقد كان هشاً بما يكفي.
والآن… كيف سأواجهه؟
هل أقول له إنني سامحته؟
لكن… كيف أسامحه وأنا بالكاد استوعبت ما قال؟
أنا لست مستعداً… لمواساته ألآن.”
فتح العلبة، وأخرج منها حبّة، أسقطها في فمه بلا تردد، وابتلعها مع رشفة ماء باردة.
نظر إلى هاتفه الملقى جانباً.
ضوء الشاشة ي
نبض بإشعارات متكررة… مكالمات فائتة من شاغلا و إيرهان.
تنهد وهو يمدّ يده إليه، ثم أطفأه بهدوء، وهمس لنفسه
“ليس الآن… لا أريد شيئاً من العالم.”
ثم ألقى بجسده على السرير، يسحب الغطاء فوقه ببطء،
و كأنّه يغلق على نفسه باباً داخليا،
في محاولة يائسة للهروب من كل شيء… حتى من ذاته.
وهكذا… لم يعد مارت يهرب من جان، بل من نفسه.
.
التعليقات لهذا الفصل " 11"