كان قد مضى قرابةُ شهرٍ على قدومها إلى ديبيرتو.
وكان الكونتُ يُخصِّص وقتًا بعد الظهر ليستمعَ إلى حديثها وهو يحتسي الشاي.
“فريا، لقد أعددتُ لكِ اليوم هديةً خاصة.”
“أبي، لا حاجةَ إلى المزيد من الهدايا.”
لقد أغدق عليها الكونتُ والبارون ما لا يُحصى من العطايا، حتى إنّها تلقّت بالفعل عدّة خيولٍ، وبندقيةً، وقوسًا وسهامًا.
“أغمضي عينيكِ بسرعة.”
غير أنّه ما كان في وسعها أن ترفض، وهي ترى ملامحَ الترقّب تغمر وجه الكونت؛ فقد انتقل شعورُه المتلهّف إليها فخفقَ قلبُها معه.
“أَدخِلوها.”
أغمضت فريا عينيها، وأخذت تتكهّن ما قد تكون الهدية هذه المرّة.
لن تكون فستانًا أو حُليًّا أو حذاءً. فلم يبقَ مكانٌ تُوضَع فيه أشياؤها الكثيرة أصلًا، خصوصًا بعد أن صار الرجلان يتسابقان على إغداقها بالهدايا.
“أُ، أُختي فريا …”
ناداها صوتٌ غريب دخل الغرفة.
فتحت فريا عينيها لتتأكّد من هو، فإذا بـ”لوتي” أمامها ، ترتدي فستانًا زهريًّا جميلاً، والدموع تترقرق في عينيها.
“لوتي!”
قفزت فريا من على الأريكة واندفعت تُعانقها.
كانت تتوقّع أن تلتقيها قريبًا، لكن لم تظنّ أنّ ذلك سيكون اليوم.
ضمّتها بقوّة، ثم قالت: “لوتي، كيف حالكِ؟ هل شُفيتِ تمامًا؟”
“نعم، انظري إليّ! لقد صرتُ بصحّةٍ تامّة.”
وأخذت لوتي، التي رأت الساحرَ والطبيبَ لأوّل مرّة في حياتها، تتحدّث باندهاشٍ طفوليٍّ لا يخلو من حماسة.
وما إن رأت فريا تلك الحيويّة في وجهها، حتّى شعرت بأنّ أحدَ همومها الثقيلة قد زال.
“كم أنا سعيدةٌ برؤيتكِ مجدّدًا … حقًّا سعيدة.”
“لكن، أأنتِ حقًّا أختي؟”
تحرّرت لوتي من ذراعيها، وأخذت تُدير حولها نظرةً متفحّصة.
لم تَعُد تلك الفتاةُ الباهتةُ ذاتَ الثيابِ البالية، بل كانت فريا الآن مشرقةَ الجمال.
“أتدرين؟ تبدين الآن كإحدى السيّداتِ النبيلات اللواتي يترجّلن من العربة.”
“يا حمقاء، وأنتِ أيضًا تبدين كذلك بالضبط.”
ضحكت فريا وهي تلمس أنفَها بخفّة، ثمّ احتضنتها من جديد، ورفعت عينيها نحو الكونت.
‘أبي هو من أحضرها إلى هنا …’
قابلها الكونت بابتسامةٍ حنونةٍ تُغالب تأثّره.
كان يُصغي إليها دومًا، لا يفوّتُ كلمةً من أحاديثها الصغيرة.
‘أريدكِ أن تبوحي لي بما أثقلَ قلبكِ في وحدتكِ السابقة، فالكتمانُ الطويلُ داء.’
حدثته عن لوتي و آرتشر، وأخبرته كم كانا عونًا وسندًا لها، أرادت أن يعرف ذلك بنفسه.
“لوتي، تعالي. أُعرّفكِ على أحدهم.”
سحبتها فريا من يدها، ووقفت بها أمام الكونت.
تجمّدت ملامحُ لوتي أمام النبيل الوقور، فقد كان أوّلَ مرّةٍ تراهم فيها عن قُرب.
ربّتت فريا على ظهرها برفقٍ وقالت: “أبي، هذه هي لوتي.”
“تشرفتُ بلقائكِ يا لوتي، وشكرًا لأنكِ كنتِ صديقةً لابنتي.”
نهض الكونت مستندًا إلى عصاه، وألقى كلماتِ شكرٍ مهيبةً بلباقةٍ تامّة.
“آه، لـ، لا … لا داعي لذلك!”
تلعثمت لوتي طويلًا قبل أن تصرخ فجأة:”ابـ … ابنتك؟!”
قالت فريا مبتسمة: “أجل، الأمر غريبٌ أليس كذلك؟ حتى أنا ما زلتُ لا أصدّق تمامًا. لقد اكتشفتُ أنّ لي أبًا وأخًا!”
حدّقت لوتي بها مشدوهة، ثم انفجرت بالبكاء.
“يا لسعادتي من أجلكِ! أصبح لكِ عائلةٌ أخيرًا!”
كانت دموعُها نابعةً من صدقِ قلبها، حتى إنّ عيني فريا احمرّتا تأثّرًا. وبعد أن مسحت لوتي دموعها بطرف كمّها، بدت عليها مسحةُ خجل.
“أنا سعيدةٌ حقًّا لأنّنا التقينا مجدّدًا.”
“لوتي …”
كان كلّ ما يحدث جميلًا بلا شكّ: أن يكون لها أبٌ نبيلٌ، وأن ترتدي ثيابًا فاخرة، لكنّها في الوقت نفسه شعرت بمسافةٍ خفيّةٍ تفصلها عن ماضيها.
هذه الأجواء لم تكن لوتي تنتمي إليها.
ولمّا بدت عليها الحيرة وهي تعبث بطرف ثوبها، تكلّم الكونت بلطف:
“هلّا بقيتِ هنا يا لوتي، وصرتِ كما كنتِ، صديقةً لفريا؟”
“ماذا … تقصد يا سيدي؟”
“سأساعدكِ لتفعلي ما تشائين، فقط ابقي هنا.”
بُهِتت لوتي من العرض، فلم تدرِ ما تقول.
لكنّ فريا سارعت تمسك بيدها وتقول متحمّسة: “ستبقين، أليس كذلك؟ لقد وعدتِني أن نعيش معًا! وسنأكل الكعك الكبير كلّ يوم، هه؟”
تردّدت لوتي لحظة وهي تنظر في عيني فريا الخضراوين اللامعتين.
“هل يجوز لي فعلًا…؟”
“طالما تريدين، فلكِ كلّ الحقّ.”
“إذن … نعم!”
صافحتا بعضهما بحرارةٍ وجلستا على الأريكة في غرفة الاستقبال.
سيبقى هذا اليوم من أسعدِ أيامِ حياتهما، بعد ذلك اليوم الذي اقتسمتا فيه الخبز.
***
في مكتبِ القصر الإمبراطوري، وقف رجلٌ يعضّ أظافره بقلقٍ ظاهر.
“جلالتك، ستفقد أظافرك كلّها هكذا.”
قالها هيرو وهو يرمق أظافرَ لوكيوس الممزّقة بامتعاض.
“هل وصل الردّ؟”
“ليس بعد، يا جلالتك.”
“كم رسالةً أرسلتُ حتى الآن؟”
“تمامًا واحدةً وثلاثين، حتى اليوم.”
عاد لوكيوس إلى العاصمة فور مغادرة فريا.
كان يودّ أن يبعث برسالةٍ إلى كونت ديبيرتو، لكنّه رأى أن يمنحها وقتًا تقضيه مع عائلتها.
‘هذه المرّة، سأدع كلَّ شيءٍ على هواها.’
كان يعلم أنّها تمقته في قرارة نفسها، ولم يُرِد أن يُضيف إلى أخطائه.
فأرسل إليها رسائلَ متتالية، لكنّها لم تُجِب.
‘كم من القصصِ قد تراكمت بينهما بعد فراقٍ طال سنين!’
هكذا حاول أن يُقنع نفسه، غير أنّ صبره بدأ ينفد بعد يومٍ ويومين، ثم أسبوعٍ فعشرة أيام.
“هل تأكّدتَ من أنّ الهدايا وصلت؟”
“تقول الجملةَ نفسها كلّ يوم، يا جلالتك.”
“اصمُت.”
“هاه …”
لقد عاد الإمبراطورُ المتقلّبُ القديمُ.
تنهد هيرو بعمقٍ وهو ينظر إلى عيني سيده المتورّدتين من السهر والغضب.
***
ومرّ الوقت ببطء، حتى اكتمل الشهر.
‘كنت أظنّ أنني لن أعتاد أبدًا على هذا المكان.’
لكنّها الآن ألفت لقب آنسة ديبيرتو الذي يناديها به الخدم.
ورغم ما بينهما من فجواتٍ تركتها السنواتُ الماضية، فإنّ حُبّ الكونت والبارون الدافئ أذاب حذرها شيئًا فشيئًا.
‘العائلة أمرٌ عجيبٌ حقًّا.’
ولحسن الحظ، كانت لوتي أيضًا تتأقلم جيدًا مع حياتها الجديدة.
‘كم هو مفرح … كلّ شيءٍ يسير على ما يُرام.’
لقد استعادت عائلتها وصديقتها معًا.
ومع ذلك، لم تملك إلا أن تتنهّد وهي جالسةٌ قرب النافذة.
دخلت لوتي وقالت: “أختي، ما بكِ؟ لماذا هذا الوجه؟”
“وجهي؟ ماذا به وجهي؟”
“يبدو كأنكِ تحملين الدنيا فوقكِ.”
قلّدت فريا تعبيرها ثم هزّت رأسها.
ثمّ كأنّها تذكّرت شيئًا، فأخرجت ورقةً من تحت ذراعها ملوّحةً بها.
“انظري! صرتُ أعرف كيف أكتب اسمي!”
ما إن طلبت لوتي أن تتعلّم القراءة والكتابة، حتى استأجر الكونتُ لها معلّمًا خاصًّا في الحال.
كان اسمها مكتوبًا بخطٍّ غير متّزن، لكنّه بدا لطيفًا جدًّا.
“واو! تكتبين أفضل منّي!”
“حقًّا؟ لقد تألّمت أصابعي كثيرًا، لكنّ الأمر كان ممتعًا!”
غير أنّ فرحة فريا ما لبثت أن خبت، وعاد العبوسُ إلى وجهها.
“آه …”
وكان السببُ أكوام الرسائل المكدّسة التي تنتظرها.
فقد توقّفت اليوم مجدّدًا عربةٌ إمبراطورية أمام منزل ديبيرتو، حاملةً رسالةً أخرى بلا شك.
سحبت نظرها عن النافذة، وهمّت بشرب الشاي مع لوتي، لكنّ طرقًا على الباب قطع سكون الغرفة.
“آنستي، هذه رسالةٌ من جلالة الإمبراطور.”
وُضِع الظرفُ على الطاولة، وقد طُبع عليه ختمُ العائلة الإمبراطورية واضحًا.
تطلّعت إليه لوتي متردّدة، وعبست شفتيها.
“أختي … ما الذي يحدث بالضبط؟”
منذ أن جاءت لوتي، وهذه الحالُ تتكرّر يوميًّا: رسائل وهدايا لا تنتهي، وفريا تحدّق بها بوجهٍ متألّم.
ولو كانت تكره ذلك فعلًا، لرفضتها أو تخلّصت منها، لكنها لم تفعل.
‘لماذا يا تُرى؟’
تطلّعت إليها لوتي تنتظر جوابًا، فأجابت فريا بصوتٍ خافت:
“الأمرُ هو …”
لكنّ الكلامَ تعثّر في حلقها وهي تفكّر في لوكيوس.
فتحدّثت لوتي أولًا: “يبدو أنّ جلالة الإمبراطور يحبّكِ كثيرًا، وهو يرسل كلَّ تلك الهدايا!”
“هاه …”
لم تشكّ فريا في مشاعره، لكنها كانت تشعر باضطرابٍ لا تعرف له سببًا.
“ألِأنّ الإمبراطور شخصٌ سيّء؟”
ارتجفت لوتي وهي تستحضر القصصَ المخيفةَ التي سمعتها عنه.
“ليس كذلك.”
هزّت فريا رأسها سريعًا.
لوكيوس ليس إنسانًا شريرًا.
لكن في داخله زاويةً ملتويةً تُرهق من يقترب منها.
‘وأنا أعرف ذلك أكثر من أيّ أحد.’
كلّ إنسانٍ يحمل في أعماقه فجوةً مظلمة.
ومهما بدت الحياةُ الجديدة هادئةً وسعيدة، فإنّ الماضي لا يُمحى بسهولة.
كانت نوباتُ القلق تهاجمها فجأة، فتغدو عاجزةً عن فعل شيء، وتبكي وهي تتذكّر صدرَ لوكيوس الدافئ.
‘أشتاق إليه كثيرًا …’
لكن حين تتذكّر أكاذيبَه وصمته، لا تعود قادرةً على الوثوق به.
‘كيف أؤمن بشخصٍ كذب عليّ وأخفى عنّي الحقيقة؟’
لقد تظاهر بالمرض كي يُبقيها قربه، ولم يُخبرها بأنّ عائلتها تبحث عنها.
كان ذلك خطأً فادحًا.
‘والمشكلة أنّني، رغم ذلك، أفهم دوافعه.’
كانت تخشى أن يكون حبّها له قد أعماها عن التمييز بين الصواب والخطأ.
التعليقات لهذا الفصل " 99"