قضت فريا نهارها تعمل في الحقل وتُصلح الأخشاب محاولةً طرد أفكارها المزعجة. وفي الليالي التي لا تكون فيها متعبة تمامًا، لم تستطع أن تُغمض عينيها ولو للحظة.
‘عليَّ أن أُطعمه ولو حساءً بسيطًا’
كانت أثناء العمل تلتفت بين الحين والآخر نحو المنزل، عيناها تراقبان المكان بحذر. فلم يكن هناك أحدٌ سواها يحمي لوكيوس إنْ هاجمه أعداؤه فجأة.
“فريا.”
بينما كانت تُعدّ الحساء على الموقد، سَمِعت صوت حركةٍ خلفها، فنهض لوكيوس.
“إنْ نهضتَ فجأةً فستفتح جرحك!”
أسرعت نحوه وأعادته إلى الفراش، فاحمرّت وجنتاه من دهشتها.
“لكنّك تغيّرتِ قليلًا.”
لم تنتبه فريا إلا متأخرةً إلى أنّها خاطبته بلهجةٍ غير رسمية، لكنها لم تردّ تصحيحها.
“لسنا في القصر الآن، لذا هنا أنتَ مجرد ‘لوس’.”
ابتسم لوكيوس لكلماتها المتكلّفة ولم يُجب.
“أنا بخير تمامًا.”
غير أنّ فريا اغتاظت من رؤيته يبتسم رغم الألم.
“أيّ خيرٍ وأنتَ على هذه الحال؟ ثم كيف عرفتَ مكاني أصلًا؟”
قدّمت له الحساء الساخن، لكنه هزّ رأسه رافضًا، وذكّرها ذلك بمشهدٍ قديمٍ في غرفة صوفيا.
“عليك أن تأكل لتشفى.”
حاولت أن تطرد من ذهنها صورةَ لوكيوس وهو على السرير مع سيلينا، فقال بعد تردّدٍ قصير: “ذلك لم يكن أنا.”
“لا أفهم قصدك، ولا تقل لي إنك كنتَ تراقبني.”
كان ظهوره في هذا المكان البعيد عن القصر أمرًا مريبًا.
“لوس هو من دلّني.”
“…لوس.”
تذكّرت فريا النسر الذي كانت تراه أحيانًا يحوم فوق البيت، وأومأت برأسها، فأنّ لوكيوس بصوتٍ خافت.
“فريا، ليس لأني لا أريد الأكل، بل لأنني لا أستطيع أن أرفع الملعقة.”
لم يكن يملك حتى قوة الإمساك بها. أحضرت فريا قطعة قماش، ووضعتها تحت ذقنه، ثم نفخت على الحساء لتبرده قليلًا وقرّبته إلى فمه.
“كُل بسرعة.”
“فريا، ما زال ساخنًا.”
تمتم متدلّلًا، فحدّجته بعينين صارمتين.
عندها همس بصوتٍ خافت: “هذا كل شيء، فريا.”
“فقط فكّر بأن تنهض بعد أن تُنهي الحساء.”
عندما رأته يقول ذلك بعينين دامعتين كاد قلبها يذوب، فأطعَمته بصمتٍ حتى انتهى، ثم ارتدت شالها وغادرت المنزل مسرعةً.
كانت رياح الشمال قاسية، لكن وجنتيها الملتهبتين لم تبردا.
“يتفوه بكلامٍ لا داعي له.”
هل كان ليتغير شيء لو أنّ الرجل الذي في السرير لم يكن لوكيوس أصلًا؟ تجاهلت الأمر، لكنها فهمت تمامًا ما قصده بكلماته السابقة.
ومع أنّها كانت تعرف الحقيقة مسبقًا، فقد أحسّت براحةٍ غريبة حين سمعت نفيه.
“ما بي؟ أتنقّل من حالٍ إلى حال.”
مرّرت يدها على وجهها الحارّ، غير قادرةٍ على فهم ما يجري داخل قلبها.
“آه، كيف سأدخل ثانية؟”
كانت تنتظر استيقاظه بفارغ الصبر، لكنها ما إن تخيّلت رؤيته ثانيةً حتى شعرت بالعجز.
***
كان وجه لوكيوس وهو مستلقٍ على الفراش مشوبًا بتوترٍ خفيف.
ظلّ يُحدّق بالباب الذي خرجت منه فريا، ثم رفع يده ليمسح شفتَيه، حيث بقي أثرٌ من الحساء الذي أطعَمته إياه. لحَس أصابعه مبتسمًا ابتسامةً باهتة.
‘هذا وحده يكفيني.’
حاول أن يتظاهر بالتماسك، لكنّ العرق البارد تسلّل إلى ظهره كلّما تذكّر ما حدث قبل ثلاثة أيام.
لم يَمضِ أكثر من ثلاثة أيام على وصوله إلى المكان الذي تقيم فيه فريا، وكان الطريق شاقًّا، والوصول أكثر صعوبة.
‘وماذا الآن؟’
كان في داخله شوقٌ عارم لأن يضمّها إليه، لكنه لم يجرؤ.
‘لأنني لا أعرف سبب رحيل فريا عني.’
لم تترك له أيّ وداعٍ أو كلمة، فلم يدرِ إن كانت قد كرهته، أم لم تَعُد ترغب برؤيته ثانية.
‘وماذا لو قالت إنّ انتهاء مدة العقد يعني أننا لن نلتقي بعد اليوم؟’
تخيّل أسوأ الاحتمالات، فاسودّت الهالات تحت عينيه، لكنه كان واثقًا من أمرٍ واحد.
‘فريا، لن أعود وحدي أبدًا.’
ولو أراد ذلك لما جاء إلى هنا من الأساس.
في اليوم التالي لزيارة لوس، بدأ يستعدّ سرًّا لمغادرة القصر، لكنّ هيرو ضبطه في اللحظة الحاسمة.
.
.
.
“جلالتك، ماذا تفعل؟”
كان مشهد هيرو وهو يضع على كتفيه عباءةً سوداء طويلة يُشبه شبح الموت.
ومع ذلك رفع لوكيوس صوته بثباتٍ وقال: “سأعود سريعًا.”
“هذا يناقض أقوالك السابقة، يا جلالتك.”
تجهّم وجه هيرو، الذي رأى من لوكيوس تهاونًا لم يعهده فيه منذ يومين فقط، وأصرّ على منعه. عندئذٍ كشف لوكيوس السرّ الذي كان يخفيه.
“المرأة التي أنقذتني من الميتم … هي فريا.”
اتّسعت عينا هيرو دهشةً.
“وبفضلها استعدتُ ذاكرتي المفقودة.”
كانت تلك المشكلة الوحيدة التي عجز عنها حتى هيرو بكلّ براعته، وظلّ يَحمل ذنبَ عجزه عن حلّها. فقد وُلد باسم إيلايموس ، ومصيره أن يخدم سيده بإتقان.
“إذن، كانت هناك رابطةٌ بينكما فعلًا.”
خفض هيرو يده التي همّ أن يستخدم بها السحر لإيقافه، وقد بدت عليه الهزيمة. الآن فقط فهم السبب وراء اهتمام لوكيوس غير الطبيعي بفريا.
“الآن تفهم، أليس كذلك يا هيرو؟”
ربّت لوكيوس على كتفه برفق، لكنّ هيرو رفع ذراعه ليمنعه من المرور.
“حتى مع ذلك، لا يمكنني السماح لك بالذهاب الآن. سأرسل من يحميها بدلًا منك.”
“شرحتُ لكَ الأمر جيدًا. يجب أن أذهب إليها بنفسي.”
“جلالتك، لن أسمح بذلك مهما قلت”
وقف هيرو في وجهه بصرامةٍ تامّة.
“اسمح لي أن أساعدك، ولتكن الرحلة بعد عشرة أيام.”
لم يكن مرتاحًا لمخالفة أوامر سيده، لكنه حاول تهدئته.
“جلالتك ، ألم نَسِر طَوال هذه السنين لنُحقّق غايتنا؟”
لقد كرّس هيرو حياته لحماية وليّ العهد لوكيوس الذي انقلب عليه الجميع.
انبعث وهجٌ حارق من العلامة المنقوشة على ذراعه، فقبض على معصمه وأكمل كلامه: “تذكّر الراحلة، جلالة الإمبراطورة.”
حين سمع لوكيوس ذلك، وضع غمد سيفه على الطاولة و استعاد هدوءه. كان كلام هيرو صحيحًا؛ فقد أقرّ بأنّ علمه بمكان فريا أفقده صوابه مؤقتًا.
“آسف لأنني تصرّفت بتهوّر.”
“لا تقُل ذلك، جلالتك.”
كان كبير السحرة هيرو حكيمًا، لا يبرح جانب لوكيوس كلّما عصفت به نوبات الغضب.
رفع لوكيوس يده المرتجفة ومسح شعره الأمامي وهو يتمتم: “ربما أنا أحمق أكثر مما يقولون.”
كثيرًا ما يفقد السيطرة على أفكاره، ويستيقظ أحيانًا مذعورًا من تصرّفاته.
“جلالتك ، احذر أن يسمع أحد هذا الكلام.”
مضت لحظاتٌ قصيرة، ثم بدأ لوكيوس الذي هدأ تفكيره يسترجع في ذهنه زيارات نبلاء العاصمة أثناء الجنازة وحفل التتويج. كثيرٌ منهم جددوا ولاءهم له، لكن ليس جميعهم.
“سيتّخذ النبلاء من غياب فريا ذريعةً للهجوم.”
كان يرغب في أن يُقيم حفل الزفاف سريعًا بعد خطبتهما لتثبيت مكانتها في القصر.
‘فريا، لا أريد سواكِ’
لكنّ كلّ ذلك لم يكن سوى طمعٍ شخصيّ منه. كان يريد أن يشاركها كلّ هذه الأفكار، غير أنّها لم تَعُد بجانبه.
“آه، هيرو … ما العمل حقًّا؟”
ربّت هيرو على كتفه مطمئنًا.
“لا تقلق، جلالتك. فكونت ديبيرتو سيُساعدنا في هذا الأمر.”
وسرعان ما تحقّق خوف لوكيوس.
“أن تكون مريضةً في وقتٍ كهذا؟ أليس ذلك دليلًا على أنّها غير مؤهّلة لإدارة شؤون الإمبراطورية؟”
“لقد كانت مخطوبةً لوليّ العهد فقط، لذا فمَنصب الإمبراطورة ما زال شاغرًا من الناحية الرسمية.”
كان واضحًا من نظراتهم أنّهم أرادوا التقليل من شأن الآنسة دوبوا، القادمة من منطقة ديلموند، أو ربما طمعوا في تزويج إحدى بناتهم له.
كان الكونت إيديليون السابق قد نُزعت أملاكه ونُفي لأنه وقف ضد فريا، لكنّ غيره من أمثاله كثر في البلاط.
التعليقات لهذا الفصل " 91"